مجلة الرسالة/العدد 682/البلاغة وعلم النفس
مجلة الرسالة/العدد 682/البلاغة وعلم النفس
للأستاذ على العماري
لعل علوم البلاغة أقل علوم العربية نصيبا من جهود الباحثين المعاصرين، ولعلها كذلك أحوج هذه العلوم إلى التجديد والتهذيب ولكننا نستطيع أن نقول - في غير غض من عمل أحد -: إن الأبحاث التي طالعنا بها هذا العصر في العلوم دون ما كنا نأمل من علمائه الأعلام
ولقد شاع في رسائل المعاصرين النعي على علماء البلاغة، ورميهم بالجهل والتقصير أحيانا، وهذه طريق لا تؤدي إلى الغاية. ولو أنهم إذ هدموا بنوا لكان الأمل قويا في أن نظفر بشيء. ومن حق أسلافنا علينا أن نذود عنهم، وندفع ما يلحق بهم من ظلم وجحود.
قرأت رسالة صغيرة للأستاذ الشيخ (أمين الخولي) المدرس بجامعة فؤاد الأول عنوانها (البلاغة وعلم النفس). تحدث فيها عن صلة قديمة بين الأبحاث البلاغية ومظاهر النفس الإنسانية، ولكنه نعى على الأسلاف انهم لم يربطوا بينهما على أن علم النفس علم من العلوم (مع انه كان من معارفهم) ورأى أن هذا الربط في الدرس وفي غير الدرس ضروري، بل هو ضروري لفهم إعجاز القران وتفسيره حيث يقول (فالنظر الصائب إليه - يعني القران - والفهم الصحيح له، أو بعبارة أكثر صراحة تفسيره لا يقوم إلا على إدراك ما استخدمه من ظواهر نفسية، ونواميس روحية، فليس يصح أن تعلل عبارة من عباراته، أو يحتج للفظ في أية من آياته، أو يستشهد لأسلوب من أساليبه إلا بموقعه كله في النفس، وبما كشف العلم عن هذا الموقع، وما سير من أغواره فبالأمور النفسية لا غير (كذا) يعلل إيجازه وإطنابه، وتوكيده وإشارته، وإجماله وتفصيله، وتكراره واطالته، وتقسيمه وتفصيله، وترتيبه ومناسباته، وما قام من تعليل هذه الأشياء وغيرها (كذا أيضا) على ذلك الأصل فهو الدقيق المنضبط، وما جاوز ذلك فهو الادعاء والتمحل أو هو أشبه شيء به)
ونحن إذا طرحنا جانبا مناقضة الأستاذ لنفسه بين محاولته تعليل إعجاز القران، وبين إصراره على أن خير الآراء في الإعجاز هو رأي السكاكي وجملته أن الإعجاز لا يعلل. إذا طرحنا هذا وجدنا الأستاذ انساق وراء الفكرة التي سيطرت على قلمه، ولكننا مع ذلك ننتظر حتى نرى مبلغ صدق هذا من الأبحاث التي وعد بها الكاتب وقد مر عليه دهر ولم يطالبنا بها وان كنا نجزم بأن دعواه أن كل تعليل لأسلوب القران لا يقوم على أساس نفسي ادعاء وتمحل نجزم بان هذه مبالغة لا تمت إلى الصواب بصلة.
ونترك هذه الدعاوى وأمثالها إلى حين يؤيدها بأمثاله لنرد على هذين المثالين الوحيدين اللذين اعتمد عليهما في رسالته، وادعى فيهما أن القدامى وقفوا عند تعليلات جافة ركيكة، ولم ينظروا فيهما إلى الأمر النفسي قط. وسنرى أن ما وصمهم به ليس صحيحا، وان ما ذكر أنه وصل إليه هو الذي ذكره علماؤنا الإجلاء قال: (نحن نقرأ مثلا في بيان ميزة الأسلوب المعروف عندهم باسم تأكيد المدح بما يشبه الذم قولهم: إن سبب ذلك أن هذا الأسلوب كدعوى الشيء ببينة، ويفسرون ذلك بأن القائل علق نقيض المدعى وهو إثبات شيء من العيب بالمحال، والمعلق بالمحال محال فعدم العيب محقق. كما نقرأ لهم وجها أخر لميزة هذا الأسلوب هو: أن الأصل في مطلق الاستثناء الاتصال فذكر أداته قبل ذكر المستثنى منه يوهم إخراج شيء مما قبلها فإذا ما أو ليت الأداة صفة مدح وتحول الاستثناء من الاتصال إلى الانقطاع جاء التأكيد لما فيه من المدح والأشعار بأنه لم يجد صفة ذم يستثنيها
ولعل السر النفسي لذلك فيما يظهر هو ما في هذا الأسلوب من معنى المباغتة والمفاجأة التي تكسبه طرافة وتثير حوله تنبها)
والذي نلاحظه هنا أمور: -
(1) أن التعليل الأول أحد تعليلات لهم ويمكن إرجاعه إلى أمر نفسي، بل هو في الحقيقة من أخص أمور النفس، فهو فكر مرتب، ومنطق محكم، وليس شيئا ما رده به من أنه يترتب عليه أن (عبارة التوثيقات المؤكدة ولغة الإشهادات المسهبة هي الفصحى وأظن أن الفرق بين الاثنين واضح، والمغلطة بينهما أو ضح.
(2) أن المفاجأة التي تمدح بأنه وصل إليها إنما مأتاها انقطاع الاستثناء وذلك أن النفس حين تسمع أو ل الكلام تنتظر أن يجيء أخره أليفا لأوله ويستقر فيها اطمئنان لذلك فإذا انقطع الاستثناء فوجئت بما لا تتوقعه.
(3) أنهم ذكروا لهذا علة نفسية؛ قال في المطول بعد أن ذكر التعليلين السابقين (مع ما فيه من الخلابة وتأخيذ القلوب) وفي هذه الكلمة الأخيرة (تأخيذ للقلوب) كل الرد على الباحث الفاضل المجدد!!
أما المثال الثاني فحيث يقول (ومن ذلك مثلا أنا نسمعهم يقولون أطبق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وأن الاستعارة أبلغ من التصريح بالتشبيه. . . الخ ثم لا يعللون شيئا من ذلك كله إلا بالفكرة السابقة من تأكيد المدح بما يشبه الذم من قولهم. أنه كدعوى الشيء ببينة). ولعلنا نقف طويلا متعجبين من جراءة أستاذ في الجامعة، ورئيس طائفة تدعى التجديد في علوم البلاغة، حين نعلم أن صاحب الصناعتين عقد فصلا للموازنة بين الحقيقة والمجاز ذكر فيه أكثر من أربعين مثلا وعلل لكل مثال بعلة، وليس تأكيد المدح بما يشبه الذم واحدا من هذه العلل، وأنه في أول الفصل علل تعليلا عاما بأمر نفسي فقال لا وفضل هذه الاستعارة وماشا كلها على الحقيقة أنها تفعل في النفس نفس السامع ما لا تفعل الحقيقة) فكيف يسوغ بعد هذا لأستاذ أمين في العلم أن يطرح هذا كله ليقول إن علماءنا لم يعرفوا تعليلا نفسيا واحدا؟ وهل يرى إن الباحث لا يكون بارعا معلاما إلا إذا ادعى أن الأوائل لم يتنبهوا لما وصل إليه؟
ولعلي أقضي على كل ادعاء إذا ذكرت كلمتين اثنتين تشهدان بأن علماء البلاغة لم يقتصروا على تعليلات ركيكة جافة، وإنما وصلوا في بعض الأحايين إلى اللباب المنتخب
(1) كتب ناشر كتاب أسرار البلاغة في مقدمته قال: (ينبغي لقارئ هذا الكتاب وصنوه دلائل الإعجاز أن يتأمل حق التأمل ما انفرد به الإمام عبد القاهر من جعله علوم البلاغة
- البيان والمعاني والبديع - من قبيل العلوم الطبيعية كعلم النفس وعلم الأخلاق وعلم الفلسفة العقلية - لا مجرد مواصفات واصطلاحات - فأنه يقيم الدلائل، ويسوق الحجج على كون البليغ من الكلام باشتماله على التشبه والتمثيل والمجاز العقلي أو اللغوي من قواعد البيان، أو بمراعاة نكت المعاني في التعريف والتنكير والحصر والتأكيد والفصل والوصل وغير ذلك إنما كان بليغا لأمور حقيقة في عقول الناس وشعورهم وتأثير الكلام في أنفسهم)
وهذا كلام صريح في أن علماءنا تنبهوا لهذا الذي أراد الأستاذ أن ينبهنا إليه، بل جعلوه أصلا تؤلف على ضوئه الكتب.
(2) قال الشيخ عبد القاهر يعلل بأمر نفسي هذا الأمر الذي ادعى الأستاذ أنهم لم يذكروا له تعليلا نفسيا (وان أردت اعتبار ذلك - يعني تأثير التمثيل في النفس - في الفن الذي هو أكرم وأشرف (يقصد فن الوعظ) فقارن بين أن تقول: إن الذي يعظ ولا يتعظ يضر بنفسه من حيث ينفع غيره. وتقتصر عليه وبين أن تذكر المثل على ما جاء في الخبر من إن النبي ﷺ قال: مثل الذي يعلم الخبر ولا يعمل به مثل السراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه. . . الخ
(فأما القول في العلة والسبب، ولم كان للتمثيل هذا التأثير وبيان جهته ومأتاه وما الذي أو جبه واقتضاه فغيرها)
(وإذا بحثنا عن ذلك وجدنا له أسبابا وعللا كل منها يقتضي أن يضخم المعنى بالتمثيل ووينبل، ويشرف ويكرم، فأول ذلك وأظهره أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء أخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأنه العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حد الضرورة يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام، كما قالوا (ليس الخبر كالمعاينة ولا الظن كاليقين) فلهذا يحصل بهذا العلم هذا الأنس أعنى الأنس من جهة الاستحكام والقوة. وضرب أخر وهو ما يوجبه تقدم الألف كما قيل ما الحب إلا للحبيب الأول.
ومعلوم أن العلم الأول أتى النفس أو لا من طريق الحواس والطباع، ثم من جهة النظر والروية، فهو أذن أمس بها رحما، وأقوى لديها ذمما، وأقدم لها صحبة، وأكد عندها حرمة، وإذا نقلتها في الشيء بمثله عن المدرك بالعقل المحض وبالفكرة في القلب، إلى ما يدرك بالحواس أو يعلم بالطبع وعلى حد الضرورة فأنت كمن يتوسل إليها للغريب بالحميم، وللجديد الصحبة بالحبيب القديم، فأنت أذن مع الشاعر إذا وقع المعنى في نفسك غير ممثل ثم مثله كمن يخبر عن شيء من وراءه حجاب ثم يكشف عنه الحجاب ويقال: هاهو ذا فأبصره تجده على ما وصفت)
وبعد فنحن لا يكفينا من معاصرينا أن يثلبوا الأقدمين وينوهوا بقصورهم وتقصيرهم، ولكننا نريد أن يخرجوا لنا قواعد جديدة على الوضع الذي يريدون؛ وحينئذ نقول أنهم استدركوا على سابقيهم وأفادوا علوم البلاغة، أما أن نسمع ونقرأ أن البلاغة معقدة، وأن النحو قاصر، وأنه كان يجب أن يدرك الأقدمون صلة البلاغة بعلم النفس، وصلتها بالفلسفة ثم نسمع ولا نقرأ غير هذا فلا. وما أحسن قول الشاعر:
تقولون أخطأنا فهاتوا صوابكم ... وكونوا بناة قبل أن تهدموا الصرحا
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة