مجلة الرسالة/العدد 684/الأدب في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 684/الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 22 -
البرسبيزينز والصدمة الثانية:
قلت قيمة المرأة في نظر ملتن، وانحط مستوى الطبيعة البشرية عما قدر لها من قبل في خياله وفكره، وساءه أن يعرض معاصروه عن آرائه في الطلاق، وما جاهد جهاده إلا لخيرهم؛ وآلمه وكدره أن يخاصمه بعض الناس وأن يناصبوه العداء؛ وجاءت مخالفة البرسبتيرينز إياه بعد ذلك، فكانت هي الطامة الكبرى.
قدر ملتن أن سوف ينظر إليه أهل عصره لما أذاع فيهم من رأي في الطلاق نظرتهم إلى مصلح عظيم، وكان يرى في تطلع ذلك العصر إلى الإصلاح وشد ميله إلى تغيير كل شيء وعلى الأخص في السياسة والدين حافزا يحفزه ويزيده استبشارا وأملا، كما كان يدفعه إلى الجد ويوحي إلى نفسه أنه يعمل عمل أفذاذ المصلحين، شدة ثقته في نفسه وكثرة الذهاب بها ويقينه من تمكنه وضلاعته واتساع أفقه، وما يرى من إكبار أصحابه اياه؛ ومن كان هذا شانه كان خليقا أن يستشعر مرارة الخيبة مضاعفة وان يبلغ من نفسه الألم مبلغا عظيما إذا لقيه الناس لا بمجافاته وأعراضهم عنه فحسب، بل بمدافعة آرائه كذلك ومجاهرته بالسوء من القول؛ وكان كذلك خليقا أن يغضب وأن يرد عمل أهل عصره إلى الغباء والجهل والجمود، وإنه ليوقن أن ما بينهم وبينه من فرق في الثقافة والمعرفة كمثل ما بين الظلمات والنور.
ولقد أفصح عن مبلغ ما كان يضطرم في نفسه من حنق على قومه، وعن مبلغ ازدرائه إياهم وسخره منهم في مقطوعتين نظمهما سنة 1645؛ ففي الأولى راح يتهكم ويسخر من جهل خصومه قائلا أن كتابه أسمه (تتراكوردون) أذيع في الناس من وقت قريب فبلغ من جهل بعضهم أنهم نظروا حيارى إلى عنوانه قائلين ما هذه الكلمة التي اتخذت له عنوانا، وقرأ بعضهم فأخطأ النطق وعجز عن الهجاء؛ ثم يعجب الشاعر من هؤلاء ويستعرض بعض أسماء ألفوها ويتساءل قائلا: لم يكون عنوان كتابه أعسر منها في أفواه هؤلاء السادة، وقد الفت أفواههم العسير الجافي من الكلم، ثم يذكر أول أستاذ للغة الإغريقية في كمبردك في القرن السادس عشر، ومعلم الملك إدوارد السادس وهو سيرجون تشيك، فيناجي روحه قائلا: (إيه يا روح سيرجون تشيك! أن عصرك لم ينفر من المعرفة إذ كنت تعلم كمبردك وتعلم الملك الإغريقية كما ينفر من العلم عصرنا الذي نعيش فيه).
وفي المقطوعة الثانية كان ملتن اشد حنقا وأوجع هجوا منه في سابقتها وحسبك منه قوله: (إنما جهدت أن أحمل أهل هذا العصر على أن يتخلصوا من قيودهم، وذلك بالرجوع إلى قواعد الحرية القديمة المعروفة، وبينما اعمل عملي إذ أحاطت بي جوقة من البوم والحمير والقردة والكلاب، ففعلوا بي كما فعل أولئك القرويون الذين أحيلوا إلى ضفادع جزاء بما أجرموا إذ هوشوا على نسل لأتونا التوأمين اللذين صار لهما بعد ذلك ملك الشمس والقمر؛ وذلك الذي نالني إنما هو كل ما يناله الرجل من جزاء إذ يلقى باللآلئ إلى فصائل من العجماوات تجهد في غبائها المجرد من كل حس في طلب الحرية، حتى إذا جاءها الحق الذي يكسبها الحرية ثارت ضده وتألبت عليه؛ وهؤلاء إنما يعنون الفوضى إذ يهتفون بالحرية؛ فأن من يعشق الحرية ينبغي أولا أن يكون خيرا عاقلا؛ وأنا نستطيع أن نرى إلى أي مدى يبعد هؤلاء عن الهدف على الرغم مما ينفق من مال وما يبذل من دم.
ولئن بلغ الحنق هذا المبلغ على أهل عصره بوجه عام، فقد كان حذقه على البرسبتيرينز أشد من ذلك درجات، وكان أسفه لما كان من موقفهم حياله اعظم وأقوى، فمن أوهى الأمور وأقبحها أن تأتي الخيبة من حيث يلتمس الرجاء، وان تقع البلوى على يد عند من يطلب عنده العزاء. . .
آلم ملتن وزاده غما على غم أن يعلم أن البرسبتيرينز على منصاتهم وفي كتاباتهم يصفونه بالطيش، ويقررون انه يذيع مبادئ إباحية، وانه بما نشر يمثل الإلحاد والفسوق عن أمر الله أتم تمثيل؛ ولكن روحه القوية لم تهن وان أصابها الحزن، ونفسه الأبية لم تذل وان اجتمعت عليه المحن، وأقبل يهاجم البسبتيرينز كما هاجم القساوسة من قبل، يأبى ألا أن يدافع أبدا عن الحرية في أي صورة من صورها، والمجال اليوم مجال حرية الرأي فما أجراه أن يناصر حرية الرأي.
اعتزم ملتن أن يعيد النظر فيما كان يرى من رأي في الإصلاح الديني، وأحس في نفسه الميل إلى مقاومة تشدد البيوريتانز وتزمتهم فيما يتصل بالدين وحياة المجتمع، ذلك التزمت الذي بلغ منتهاه عند جماعة البرسبتيرينز، والذي جعل ملتن يؤمن اليوم أن هؤلاء ليسوا أقل تعصبا ولا جمودا من القساوسة، وليسوا أوسع منهم أفقا ولا أخف حمقا.
ولم يكن غضب البرسبتيرينز على ملتن بسبب ما جاء به من آراء حول الطلاق فحسب، وإنما أغضبهم كذلك جرأته في الدعوة إلى الاعتماد على العقل في تفسير الإنجيل، وعدم التقيد بأقوال من سبق من رجال الكنيسة في تفسيره وتأويله ما لم يتمش ذلك مع المعقول ويوافق طبائع الأشياء
فالمعركة اليوم إذا معركة الرأي وحريته، والعقل وكرامته، وشخصية الفرد وكيانها، وحسب ملتن من الفخر أن يكون في ذلك طلعة بين أهل عصره كما كان طلعة في حربه على القساوسة وفي آرائه حول الطلاق. . .
وحدث بين جماعات البيوريتانز خلاف سنة 1643 جعل لخروج ملتن على البرسبتيرينز صدى أشد وأبعد مما كان يقدر له لو لم يقع هذا الخلاف، وبيان ذلك أن مجمعا من البيوريتانز انعقد في وستنمستر في تلك السنة للنظر في النظام الذي تخضع له الكنيسة في انجلترة، أي طريقة أدارتها، وقد قضى هذا المجمع بإحلال البرسبتيرية محل الأسقفية نهائيا، وتغيير كتاب الصلاة المتبع، ووافق البرلمان على ذلك، وكانت أغلبية أعضاءه يومئذ من البيوريتانز المؤيدين للبرسبتيرية، ولكن جماعة من المستقلين خالفوا أعضاء مجلس وستمنستر في بعض الأمور إذ أحسوا فيها تزمتا وشدة وطالبوا بشيء من الاعتدال، ونشر خمسة منهم كتابا يحتكمون فيه لا إلى البرلمان وحده بل الرأي العام في المملكة كلها؛ فلما خرج ملتن على البرسبتيرينز سنة 1644، وأخذ يطعن فيهم وهو الذي عرف بانتصاره للحرية أيد ذلك قضية المستقلين، وأحاط البرسبتيرينز بشبهة التعصب ومجافاة حرية الرأي.
وقد بدأ الخلاف بين ملتن والبرسبتيرينز كما قدمنا في أواخر سنة 1644 وذلك بعد أن ذاع كتيبه (قانون الطلاق ونظامه) وبعد أن نشر مقاله الذي جعل عنوانه (رأي مارتن بوسر في الطلاق)، فقد طالبوا بمصادرة كتيبه لأنه طبعه بغير تصريح مخالفنا بذلك قانون الطبع الذي هو من صنع أيديهم والذي أرادوا به حماية نظامهم الكنيسي، فرأى ملتن إذ ذاك أن أصدقاءه يعملون على خنق الحرية كما يعمل الأساقفة، ومن ثم دب بينه وبينهم الخلاف؛ وهل يظل صامتا حيال صيحتهم؟ ذلك مالا تطيقه نفسه وما لا تتطامن له كبرياؤه؛ وذلك ما لا يتفق مع حبه للحرية حبا درج معه منذ نشأته، وإذا فلا بد من رد ولا بد من صيحة يكربها عليهم ويدفع بها عن الحرية؛ ولكن البحث في الطلاق يملك عليه وقته وفكره فليدعه إلى حين، وليجعل همه إلى كتيب يناصر به حرية الرأي، ويهاجم فيه الرقابة على هذه الحرية هجوما عنيفا.
ويفرغ ملتن من كتيبه هذا وينشره في نوفمبر سنة 1644 أي قبل نشر كتيبه (تراكوردون) بنحو أربعة أشهر ويعرف هذا الكتيب باسم (ايروباجيتيكا)، وفيه يحتكم إلى البرلمان والى كل ذي رأي حر.
وبلغ من جرأة ملتن وكبرياء نفسه وتحمسه للحرية أنه نشر هذا الكتيب كذلك بغير أذن، فكان عمله هذا تحديا للبرسبتيرينز من ناحيتين، فهو يهمل قانون الطبع الذي وضعوه وقرروه، وهو في الوقت نفسه ينكر بكتيبه هذا الرقابة على الكتب كما تتمثل في ذلك القانون ويراها قيدا بغيضا لحرية الرأي فعنده أنه يحب القضاء على هذه الرقابة (حتى لا يكون الحكم على ما يجوز طبعه وما لا يجوز لفئة قليلة أكثرهم لا يعدون في العلماء إذ أن كفايتهم عادية شائعة).
وكان الكتيب في صورة خطبة مكتوبة موجهة إلى البرلمان وقد جعل ملتن شعاره عبارة مقتبسة من كلام يوربيد أثبتها بنصها الأغريقي؛ وهو بعد خطبة فليسر فيه درس وفق منهج معين أو تمحيص لما يعرض له من آراء، أو تقص للأفكار التي يؤيد بها رأيا أو يخالف رأيا؛ ولكنه على الرغم من ذلك لعله بسبب ذلك كان من أحسن ما نشر ملتن من هاتيك الكتيبات، فهو فيض نفس نبيلة حرة، تفهق صفحاته بكلام من خير ما كتب في الحرية فحاجة لفظ وبلاغة عبارة ورقة شعور ونبل حس وشجاعة رأي وحرية قول. . .
وكان الأمل والحماسة ملء كتيبه هذا، فلئن خاب أمله في البرسبتيرينز فليسوا هم كل شيء، بل أنهم وقد نصبوا أنفسهم أعداء للحرية لم يعد لهم من الأمر شيء، وان انجلترة لتتجه نحو أمل جديد تراه في شخص كرومول وهو زعيم المستقلين ولجنده الظفر كما تنبئ حوادث الحرب، وان المستقلين جميعا وطلاب الحرية ليلتفون حوله، فهو في غده أمل إنجلترا ونصير الحرية وبطلها؛ ذلك ما كان يتحدث به ملتن إلى نفسه وذلك ما بث في كتيبه الرجاء.
وزاد الأمل تمكنا من نفسه انه وقد استعدى عليه الرقباء في البرلمان لم يمسسه شيء مما أرادوا به من سوء، إذ لم يرض مجلس اللوردات أن يشايع البرسبتيرينز فيما يذهبون إليه من رغبة في التضييق على حرية النشر؛ واغتبط ملتن أيما اغتباط وأرتاح أيما ارتياح إلى هذه المعاملة التي زادته ثقة في نفسه، ويقينا من علو مكانته في قومه.
ويحس المرء لذة قوية إذ يقرا هذا الكتيب، فليس فيه مثل ما في كتيباته التي أرسلها على القساوسة من غل الخصومة وعنف الهجاء، وإنما يسوده الهدوء وحسن السياق؛ وهو فضلا عن ذلك قريب إلى العقليات الحديثة بما حواه من أفكار حول حرية الرأي وحرية النشر، وحسبك منه بعض ما كتبه ملتن عن قيمة الكتب مثل قوله: (إن من يقتل كتابا طيبا كمن يقتل رجلا؛ بل إن من يقتل رجلا إنما يقتل مخلوقا عاقلا، في حين أن من يقضي على كتاب قيم فقد قتل العقل نفسه؛ وان كثير من الناس يعيشون عالة على هذه الأرض، أما الكتاب الجيد فهو دم الحياة الغالي، دم كاتبه، ذلك الروح العبقري، وقد حنط ذلك الدم واختزن ككنز ثمين ليبقى ذخر الحياة بعد حياة).
ويقع المرء فيه على كثير من العبارات المتينة الجميلة جمعت بين الإيجاز والشمول كقوله: (يظل الأحمق أحمق أوتي كتابا جيدا أو لم يؤت كتابا قط). وكقوله: (يجد المطهرون كل شيء مطهر، وليس ذلك في طعامهم وشرابهم فحسب، ولكن في كل صنوف المعرفة الطيب منها والخبيث فلا يمكن أن تفسد المعرفة كما لا يمكن تبعا لذلك أن يفسد الكتب ما دامت الإرادة والضمير لا يتطرق أليهما الفساد).
ويأتي ملتن بطائفة من الآراء تنم عما كان يجول في خاطره بعد القطيعة بينه وبين البرسبتيرينز، فهو ينكر اليوم عقيدة القدر المحتوم التي اعتنقها البيوريتانز عن كلفن ويأخذ بعقيدة الإرادة الحرة التي نادى بها أرمينيتس ويصف هذا الأخير بقوله (أرمينيسي الواضح البين) وينر ملتن من تزمت البيوريتانز وتشددهم في كل شيء، وبعد أن كان من قبل وهو الشاعر الذي يعشق الجمال ويحسن الحياة إحساسا قويا في حيرة بين ما تقتضيه الطبيعة وما تقوم به الروح، نراه اليوم يعلن أنه في وسع المرء أن يجمع بين الاثنين في غير حرج، وقد كان ما تقوم به الروح عنده قبل ذلك في المحل الأول، تجد ذلك واضحا في قوله (لماذا خلق الله العواطف وبثها فينا، ولماذا خلق مسرات الحياة وأحاطنا بها، وليس معنى ذلك انه يبيح الاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده في غير قيد، ولكنه يريد ألا يتشدد فيرى في كل زينة وفي كل متعة ما يوبق الروح كما يفعل الغالبون من البرسبتيرينز، ولقد باتوا عنه كالقساوسة حماقة وضيق عقل وسوء تعصب كما يتضح في قوله إذ يشير إلى خنقهم حرية الرأي (إنما تخرج أفانين القساوسة براعمها من جديد).
ويعد ملتن في الواقع بعد اختلافه مع البرسبتيرينز من المستقلين، بل لقد كان أكثر من مستقل، فسوف لا يؤيد بعد اليوم نظاما كنسيا ما أو يأخذ برأي من الآراء لا يتحول عنه أو لا يقلب النظر فيه؛ أو يغشى كنيسة من الكنائس غشيانا رتيبا، وإنما تسيطر عليه روح دينية توحي إليه تقواه وطهره. وإن كان مستقل الرأي لا يقبل شيئا لا يطمئن إليه عقله ولا يتقيد بمذهب لا ينسى كراهته للقساوسة من أشياع روما والكاثوليكية بوجه عام، كما لا ينسى غضبه على البرسبتيرينز ولا اتهامه إياهم بأنهم أعداء الحرية، وانهم لذلك كالقساوسة عقبة في سبيل الإصلاح الحق، وأنهم يبالغون في تزمتهم وتشددهم مبالغة تفضي حتما إلى النفور من مذهبهم.
(يتبع)
الخفيف