مجلة الرسالة/العدد 684/هل من جديد في الأزهر؟

مجلة الرسالة/العدد 684/هل من جديد في الأزهر؟

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 08 - 1946



للأستاذ الأب قنواتي

إن المؤرخ الذي يحاول أن يتبع مراحل التطور الفكري في مصر في أيامنا هذه يضطر - بلا جدال - إلى الإقرار بأن حياتنا العقلية تتمخض تمخضا عنيفا، وأن روح التقدم الحقيقي الذي يأبى أن يضرب عرض الحائط بما في تراثنا الثقافي من قيم خالدة - أخذ يتسرب رويدا رويدا إلى مختلف أوساطنا العلمية ولطالما كانت تخامرني هذه الفكرة أثناء إقامتي في الخارج، ولطالما تحدثت عنها - في باريس، وفي فاس، وفي تونس - مع الذين يهتمون بمستقبل الثقافة العليا في البلاد العربية؛ فكنا نتساءل - مع شيء من اللهف - عن مدى انتشار هذه الثقافة، وقوة تغلغلها في الأذهان: هل تظل شيئا سطحيا شكليا، أم تخوض في صميم التعليم فتكيف العقلية؟ ولئن كان هذا التطور يبدو بكل وضوح فيما يخص الجامعة المصرية، لما هي علية - منذ نشأتها - من انسجام مع الروح الحديث؛ فالأمر كان لا يخلو من الغموض فيما يتعلق بالأزهر، وهو المعهد العتيق الذي تركزت فيه منذ قرون برامج كادت - بموجب موضوعها - تتنزه عما يتطور ويفنى. .

ولذا كنت مشغوفا كل الشغف عندما رجعت إلى الديار المصرية - وأنا منكب على دراسة فلسفة القرون الوسطى مسيحية كانت أو إسلامية - أن اتصل بمن يوفقني على تطور التعليم في المعاهد الدينية في هذه المادة؛ وخصوصا في الأزهر الحالي وموقفه من الأبحاث المقارنة التي تسنى لي أن أتبين خطورتها أثناء دراستي في المعاهد الدينية في أوربا، ولذا لبيت - بكل ترحاب - دعوه أحد أصدقائي الأزهريين إلى حضور المناقشة العلمية لنيل شهادة العالمية من درجة أستاذ في التوحيد والفلسفة التي كانت إقامتها مزمعة يوم الأحد 26 مايو سنة 1946 في مدرج كلية أصول الدين في القاهرة، ولقد شكرت صديقي أيما شكر لهذه الفرصة التي هيأها لي، فسمح أي أن أجد بطريقة علمية إيجابية جوابا لما أوجهه لنفسي من سؤال، وهذا ليس فقط من جهة الموضوع الذي نوقش فيه (تخريج كتاب الملل والنحل للشهرستاني)؛ بل أيضا من جهة الجو الروحي الذي ساد هذه المناقشة، ومن جهة انسجام العناصر المختلفة التي توفرت فيه: فهناك سعادة الدكتور منصور فهمي باشا - مدير جامعة فاروق الأول سابقا، وكاتم سر مجمع فؤاد الأول للغة العربية - يرأس اللجنة وهو ممن طالما ناشدوا روح التعاون الثقافي والتآزر العلمي، وهناك الدكتور محمود الخضيري أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول سابقا، ووكيل البحوث والثقافة الإسلامية للأستاذ الأكبر شيخ الأزهر وفرنسا، وهناك الدكتور محمود حسب الله خريج الأزهر وإنكلترا، وهنك الدكتور محمد البهي خريج الأزهر وألمانيا - وثلاثتهم من أساتذة الفلسفة بالجامعة الأزهرية - أليس تكوين هذه اللجنة هو وحده رمزا لما ينشده الأزهر، ورمزا لرغبته الأكيدة في الأخذ من المناهج الحديثة بما يلائم رسالته العلمية؟. . ومما زاد هذا الرمز بلاغة تنوع النظارة الذين تسارعوا إلى حضور المناقشة.

نعم، إنه كان من الطبيعي أن نرى هناك أساتذة من الأزهر وطلبة أزهريين، فالبيت بيتهم، والمناقش من إخوانهم، ولكن أليس من الغريب السار أن نجد بينهم أربعة قساوسة رهبان من يسوعيين ودومينكيين، احدهم مستشرق أمريكي والآخرون شرقيون، بل مصريون ممن يعرفون الأستاذ المناقش جد المعرفة؟ ووأ ليس أعجب من هذا أن نشاهد بين الحاضرين آنسات في المكان الخاص الذي خصص لهن في أعلى المدرج؟

وما وافت الساعة الخامسة حتى افتتح سعادة الرئيس الجلسة بكلمة استغرقت نصف ساعة، وهو يتكلم بحماسة رزينة هادئة واعتقاد عميق يعطي أحيانا لعباراته نبرة قوية تجعلها تنفذ نفوذا إلى الأذهان والقلوب: بدأ بالثناء على فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق، الذي عاقه عن الحضور انعقاد المجلس الأعلى للأزهر، وعلى فضيلة الأستاذ الكبير وكيل الأزهر، وعلى فضيلة شيخ الكلية، وكرر الشكر لكل من ساهم في العمل على اتساع دائرة الاتصال العلمي بين الأزهر والعلماء المدنيين والجامعيين، خصوصا فضيلة الأستاذ الأكبر الذي تخصص في الفلسفة بجانب تعمقه في النواحي الدينية المختلفة، والذي أفادت منه الجامعة المصرية حينا من الدهر، ثم أبدى سعادة الرئيس أمله في أن الأزهر سينال اهتمام فضيلة الأستاذ الأكبر من الناحية الفلسفية، وأن نوابغ الأزهريين سيكونون - مع أستاذهم الأكبر - جوا سانحا للدراسات الفلسفية بحيث يستطيع الأزهر أن يؤثر - حتى من الجهة الفلسفية نفسها - على الجامعات الأخرى، مادام الأزهر يطبق الأنماط العلمية في المناقشة والمثابرة في طلب الحق الذي هو ضالة المؤمنين. . .

ثم وجه سعادة الرئيس كلمة لطلاب البحث العلمي والحقيقة العلمية، ناصحا إليهم بالجد والاجتهاد واتساع الآفاق والصبر والأمانة العلمية، حتى يصلوا إلى ذلك الموقف الذي وقف فيه زميلهم - صاحب الرسالة - ذلك الموقف الذي يدل على حب البحث العلمي والتفاني فيه، والذي يفتح الأبواب أمام منهومي العلم الذين لا يشبعون. وتمنى سعادته للأزهريين مستقبلا باهرا ماداموا يوسعون ميادين بحوثهم وآفاق ثقافاتهم، بحيث يتلقى بهم ويتبادل الفائدة معهم من يسعدهم الحظ، ومن لم تتح لهم الظروف أن يتثقفوا بثقافة الأزهر.

ثم قرر سعادته: (أننا في عصر تعاون وتفاهم وتقارب بين الفلسفات، بل وبين الأديان نفسها، وأن هذا التواصل والتعاون هما اللذان يسيران بالإنسانية إلى وحدتها المنشودة وغايتها المرجوة، وآية ذلك مشاهد الليلة من جو مشبع بروح التسامح والنهوض الفكري). وأشار سعادة الرئيس إلى أن هذه أول مرة يرى أو يسمع فيها أن في الأزهر غربيين وقساوسة ورهبانا: (وهذا يذكرنا بروح التسامح الذي كان متسما به، والذي كان صدر الأزهر دائما منفسحا له). وأن هذه أول مرة أيضا سمع فيها سعادته أو رأى آنسات يحضرن مجالس في الأزهر وتخصص لهن أماكن فيه.) وهذا يدل على درجة عالية في النضوج الفكري والمستوى العلمي المفروض طلبة على كل مسلم ومسلمة، ويبين في وضوح أن الأزهر أخذ يقدر ما هو مطلوب منه بازاء المسلمات بجانب ما هو مطلوب منه بازاء المسلمين، وأن هذا كله جو مبشر يدعو إلى التفاؤل بمستقبل الأزهر، الذي كان قد انعزل مدة طويلة حتى عن العلماء المدنيين).

ثم قال سعادته: (أما وقد لبى الأزهر حاجة العصر، وساير روح الزمن، فساهم في الوحدة العالمية، واتصل بالعلوم التي تكونت في ميادين أخرى بروح التسامح الديني، والتآزر الفلسفي، والتآخي العلمي، فإنه سيصل - قريبا - قديمه بحديثه، ويصبح منبع ثروة كبيرة في التوجهات الفكرية والعلمية والدينية للعالم كله، وهذا مأمول، وهو في رعاية شيخ درس الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية وأفاد مما فيهما من خير مذكور. ونصيحتي العامة لكل شخص: أن يعمل للخير الذي وضعه الله في فطرة الإنسان السلمية، تلك الفطرة التي تتمثل في الأديان جميعا: خيرا، ومحبة، وإخاء، وعدلا. . . حتى يكون هناك التفاهم الفكري والتفاهم الروحي، وحتى تسير الإنسانية إلى خير ما خلقت له.)

ولعمري! لم أكن لأنتظر في هذه القاعة هذا الوضوح في رسم الهدف، وهذه العزيمة في السعي وراء تحقيقها، فها هي الروح الجديدة التي كنت أتساءل عما إذا كانت وصلت إلى الأزهر، وها هو الزرع المبارك الذي بدأ ينبت بإذن ربه، فالمناقشة التي تلت هذه الكلمة جاءت بمثابة تطبيق للمبادئ التي وضحها سعادة الرئيس، فالأستاذ صاحب الرسالة - وهو واقف رابط الجأش أمام المجلدات الأربعة لرسالته - أخذ يشرح موضوع رسالته، ثم يجيب بهدوء عن الأسئلة التي وجهها إليه بالتوالي أعضاء اللجنة؛ وهي أسئلة دقيقة تنفذ إلى لب الموضوع وتحاول تارة نقد منهج البحث، وتستفسر طورا بعض نتائج الرسالة؛ حوار بديع علمي رزين، أعاد إلى ذاكرتي تلك الرسالات التي تناقش في أوربا؛ ولكن هنا مع شيء من (الظّرف) المصري الذي لم يقلل شيئا من جد المناقشة؛ بل يكسبها روحا شرقية خاصة لم أجدها في الخارج.

وفي تمام الساعة الثامنة والنصف - عني بعد مناقشة استغرقت ساعتين - رفعت الجلسة، وخرجت اللجنة للمداولة، ولما رجعت إلى قاعة المناقشة نطق سعادة الرئيس بالحكم قائلا: (بعد أن تناقش أعضاء اللجنة فيما استبانوه من حسن الاستعداد الفلسفي، واتساع الأفاق، والمجهود القيم في التأليف، والمثابرة على العلم، ومراعاة الخلق العلمي، وتلقي النقد بصدر رحيب يدل على محبة الحق. . . قررت اللجنة فوز فضيلة الأستاذ الشيخ محمد بن فتح الله بدران بشهادة العلمية مع لقب من درجة ممتاز في التوحيد والفلسفة). فدوت القاعة بالتصفيق والهتاف. . .

ورجعت إلى (الدير) والذهن مملوء بتفاصيل هذه الحفلة الثقافية العليا؛ فحدثتني نفسي أن أسطر هذه الأسطر؛ لعلها تساهم - لا من جهة الرأي الشخصي؛ بل من جهة الواقع المحسوس - أقول: لعلها تساهم في إيضاح مشكلة الأزهر التي عولجت مرارا على صفحات مجلة الرسالة الغراء.

الأب قنواني