مجلة الرسالة/العدد 688/القصص

مجلة الرسالة/العدد 688/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1946



مطاردة. . .!

للقصصي الإنجليزي سومرت موم

بقلم الأستاذ محمد عبد اللطيف حسن

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

وحلت الخمر التي شربناها فيما بعد عقدة لسانه، فأخبرني بعد لأي سبب مجيئه إلى هذه البلاد. وقبل إن يسرد علي قصته الغريبة توقف عن الحديث برهة ليستعيد حوادثها وفصولها في ذهنه، فقد جاء - كما اخبرني - من سو مطرة، وقد أساء إلى أحد الصينيين إساءة بالغة فأقسم هذا أن يقتله شر قتلة، فلم يهتم الهولاندي بهذا القسم في مبدأ الأمر وظنه من قبيل التهديد ليس إلا، ولكن الصيني حاول أن يغتاله بعد ذلك مرتين ففشل فخشى الهولاندي على حياته وأعتقد حين إذ انه جاد في قسمه، ورأى من الصواب والحكمة أن يرحل عن هذه الجهات فترة من الوقت ثم يعود أليها بعد أن تسدل الستار على حادثة هذا الصيني اللعين، فسافر إلى بافاريا ليقضي فيها بضعة أيام يروح فيها عن نفسه ولكنه لاحظ الصيني بعد مضي أسبوع من سفره يتسلل خفية في مساء أحد الأيام بجانب حائط المنزل المجاور للفندق الذي حل به مما يدل على انه كان يراقبه مراقبة شديدة ويتحين الفرص الملائمة لقتله. وزاد خوف الهولاندي على حياته حينما تبين له أن هذا الصيني يتبعه أينما سار ويرقبه بنظراته التي كان يتطاير منها شرر الحقد والضغينة، فرحل في صباح اليوم التالي إلى سربيا. وبينما كان يتجول في أحد شوارعها الكبيرة المزدحمة بالمارة بعد ظهر أحد الأيام، التفت وراءه فجأة فرأى الصيني يمشى وراءه بخفة وحذر، وكان على قيد خطوات منه، فلما التقت عيناهما تسلل الصيني كالأفعى واختفى بسرعة بين الجماهير التي كانت تملا الشارع وذعر الهولاندي لهذه المباغة وتأكد تماما أن حياته قد أصبحت مهدة بالخطر، وعاد من فوره إلى الفندق الذي كان مقيما به وحزم أمتعته على عجل واخذ اقرب سفينة إلى سنغافورة ثم نزل بفندق بمدينة فانويك. وبينما كان يتناول طعام الإفطار في بهو الفندق في صباح اليوم التالي لوصوله إلى تلك المدينة لمح الرجل الصيني يرمقه بنظراته النارية الملتهبة من خلال زجاج أحد نوافذ الفندق، وقد التقت إبصارهما للمرة الثانية، فأسرع الصيني بالانزواء خلف أحد الأبواب. وقد اخبرني الهولاندي انه كاد يصعق في مكانه عند رؤية الصيني للمرة الثالثة. وكان على ثقة وطيدة من انه ينتظر الوقت المناسب، ويترقب الفرصة الملائمة لاغتياله. وقد قرأ ذلك في نظرات عينيه التي كانت تدل على منتهى الغدروالخيانة، وينبعث منهما بريق الضغينة والحقد الكامنين في أعماق نفسه.

وهنا توقف مضيفي عن الحديث، فانتهزت هذه الفرصة السانحة وسألته قائلا:

ولم لم يذهب هذا الهولاندي إلى أحد مراكز الشرطة يحيط رجاله علما بأمر هذا الصيني الأثيم، فيقبضوا عليه، وينقذوه من شره وعدوانه؟

فأجابني محدثي على الفور:

لست أدري سببا لذلك إلا أن يكون قد ظن أن هذا الأمر من التفاهة بحيث لا يجدر برجال الشرطة أن يتدخلوا فيه، وربما يكون هناك سر خفي لا يجب أذاعته بين الناس!

وهنا خطر لي سؤال أخر فقلت:

- وما هي تلك الجريرة التي ارتكبها هذا الهولاندي حتى جعلت ذلك الصيني يصمم على قتله

مهما كلفه ذلك، واضطرته إلى تعقبه ومطاردته في كل مكان يذهب إليه!

فهز رفيقي رأسه متأسفا وقال:

- إنني لا أدري ذلك أيضا لأنه لم يشأ أن يخبرني به، وعندما ألقيت عليه هذا السؤال بدوري، امتقع وجهه ونظر آلي من طرف عينه نظرة غريبة شزراء والتزم الصمت! وقد تبينت من ملامح وجهه الشاحب وجبينه المقطب الكثير التجاعيد أن إساءته لهذا الصيني كانت تستحق القتل، وهنا قدم لي مضيفي علبة سجايره الفاخرة فتناولت منها واحدة وتناول هو الأخرى وأشعل كل منا سيجارته في وقت واحد. وظل رفيقي يدخن برهة وينظر إلى سحب الدخان التي كانت تتلاشى في فضاء الحجرة دون أن يفوه بكلمة واحدة وأخيرا تضايقت من سكوته فقلت:

- وماذا تم في أمر الهولاندي بعد ذلك؟

فاستجمع رفيقي شتات أفكاره واستطرد قائلا: - كان ربان السفينة التي تسافر بين سنغافورة وكوتشنج ينزل في نفس الفندق الذي نزل فيه الهولاندي بمدينة فانويك في فترات الراحة بين كل رحلة وأخرى. فأنتهز الهولاندي هذه الفرصة الطيبة وترك أمتعته في الفندق ليظلل الصيني وذهب إلى ربان السفينة واتفق معه على أن يمكث في سفينته إلى أن يحين موعد سفرها فقبل الربان ذلك عن طيب خاطر بعد أن نفحه الهولاندي مبلغا كبيراً من المال. وهنالك هدأت اعصابه، وأطمأن خاطره بعض الشيء، وظن انه اصبح بمنجاة من خطر هذا الصيني الذي لم يكن يهتم بشيء قدر اهتمامه بالهرب منه، والفرار من وجهه، والذي اقلق باله، واقض مضجعه، وجعل حياته سلسلة من الألم المتواصل، والعذاب المستمر! وقد شعر بالاطمئنان عند ما وصل إلى كوتشنج، فنزل في فندق منعزل هناك. ولكنه اخبرني انه لم يكن يستطيع النوم بأي حال لان وجه هذا الصيني كان يتمثل له في أحلامه على الدوام، وكثيرا ما كان يراه في خلال نومه وقد امسك في يده خنجرا حادا يلمع نصله المميت في الفضاء، ويهوي به بشدة وعنف على عنقه، فيقوم من نومه فزعا مذعورا، وينتفض جسمه النحيل من شدة الرعب والهلع. وقد شعرت في الحقيقة بحزن عميق، وتأثر كبير نحو هذا الهولاندي التعس وهو يروي لي قصته بصوت أجش مبحوح، ولهجة مترددة متقطعة النبرات من تأثير هذا الرعب الذي استولى عليه. وقد أدركت حينئذ سبب ذلك الخوف الذي استولى عليه حينما دفع سكرتيري باب مكتبي فجأة، وفهمت سر تلك النظرات المتحيرة التي لاحظتها في عينيه، والتي لم يكن لها في الواقع من سبب سوى هذا الخوف وحده دون سواه.

وفي ذات يوم بينما كان يطل من نافذة أحد الأندية في كوتشنج إذ لمح الصيني يمشى في الشارع على مقربة منه! وقد التقت نظراتهما في هذه المرة أيضا! وكاد يغمى على الهولاندي من هول المفاجأة لولا أن تمالك أعصابه وامسك بحافة النافذة بكلتا يديه. وقد خطرت له حينئذ فكرة الهرب من ذلك المكان فغادره على الفور وجاء إلى هنا دون أن يأتي معه بشيء من أمتعته سوى تلك القيثارة التي ما زلت محتفظا بها عندي إلى الآن. وقد كان متأكدا في هذه المرة من أن الصيني لم يتبعه إلى هذا المكان البعيد.

وهنا قاطعت حديث مضيفي وألقيت عليه هذا السؤل:

- ولماذا اختار الهولاندي هذا المكان دون سواه؟ فأطرق رفيقي برأسه إلى الأرض مفكرا ثم قال:

لأن المفروض في تلك السفينة أن ترسو على ما يقرب من الإثني عشر شاطئا، ولذلك كان من الصعب على الصيني - إذا كان بالفرض موجودا على سطحها - أن يعرف في أي الشواطئ سينزل الهولاندي لان الأخير كان متكتما ذلك بقدر الإمكان حتى أن الربان نفسه لم يكن يعرف وجهته بالذات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فانه كان قد تنكر بحيث يتعذر على الصيني أو أي شخص آخر معرفته.

- وهنا سكت رفيقي برهة ريثما يسترد أنفاسه ثم أردف قائلا:

- ولما وصل الهولاندي إلى هنا قال لي وهو ينظر حوله بارتياح (إنني هنا في أمان، وإذا

أمكنني أن أظل هادئا لبضعة أيام أخر، فأنني لا البث أن استعيد صحتي، واسترد أعصابي

المنهوكة المتعبة!) فابتسمت له حينئذ وقلت مشفقا (امكث كيفما شئت وستكون بأحسن حالاهنا إلى أن تأتي السفينة التالية في الشهر القادم، وإذا شئت أن أراقب الذين يفدون إلى هذا

المكان فأنني على أتم الاستعداد لذلك).

فشكرني بلطف على عنايتي به، واهتمامي بأمره وقال (أظن انه لا داعي إلى ذلك ما دمت هنا في أمان).

وقد قدته بعدئذ إلى غرفته. فلما صار بداخلها اخذ يفحصها بعناية واهتمام ثم اغلق النوافذ والأبواب بالرغم من أنني أقنعته بأنه ليس هناك ما يستوجب كل هذه الاحتياطات.

ولما تركته أغلق ورائي باب الغرفة إغلاقا منيعا محكما كما لو كان يتوقع أن يهاجمه أحد!

وفي صباح اليوم التالي سألت الخادم الذي احظر لي طعام الإفطار عما إذا كان الهولاندي قد استيقظ من نومه، فأخبرني بأنه سيذهب ليراه. وقد سمعته بعدئذ وهو يقرع باب غرفته مرات دون أن يفتح له. فلما لم يسمع أي إجابة من الداخل طرق الباب اكثر من ذي قبل ولكن بلا فائدة. وهنا ساورني بعض القلق لأجله فقفزت من مقعدي وهرعت بدوري إلى غرفته وطرقت الباب بكلتا يدي طرقا عنيفا متواصلا ولكن بدون جدوى. وأخيرا دفعت الباب بكل قوتي ودخلت الغرفة ثم اتجهت إلى الفراش وأزحت الكلة بيدي، فوجدت الهولاندي قد فارق الحياة. وكانت عيناه جاحظتين وفيهما أثر رعب هائل، وفزع مخيف.

ووقع نظري في تلك اللحظة على خنجر غائر النصل في عنقه الأبيض العاري. وقد فتشت الغرفة قطعة قطعة وجزءا جزءا علي اعثر على أحد. فلم أجد أثرا يدلني على المجرم. والشيء الذي أدهشني وحيرني اكثر من غيره هو الكيفية التي دخل بها المجرم إلى مسكني بالرغم من أنني اتخذت كل الاحتياطات اللازمة لمنع أي كائن غريب من الدخول أليه ونبهت على الخدم بمراقبة كل شخص يستريبون فيه أو يشكون في أمره. ولكنني ارجح أن المجرم قد دخل من النافذة إذ من الممكن فتحها من الخارج. ولما كانت غرفة الهولاندي في الطابق الأول، فمن هنا يسهل التسلق اليها، والدخول فيها دون أحداث أي جلبة أو صوت.

وأخيرا سكت محدثي ليشعرني بانتهاء قصته. فلما رآني غير مرتاح إلى هذه النهاية المحزنة نظر آلي متأسفا وقال:

أظنك غير مرتاح إلى نهاية هذه القصة؟

فنظرت أليه نظرة حالمة وقلت:

إنها لا بأس بها على أي حال، ولكني كنت افضل سماعها في صباح الغد عند تناول الإفطار.

فضحك صديقي ضحكة قصيرة خافتة وقال:

أرجو المعذرة لأنني لم أكن أظن أنها ستؤثر في نفسك إلى هذا الحد.

قال ذلك ثم حياني تحية المساء واغلق وراءه باب غرفتي وانصرف.

محمد عبد اللطيف حسن