مجلة الرسالة/العدد 689/بقية من لغو الصيف:
مجلة الرسالة/العدد 689/بقية من لغو الصيف:
5 - بقية من لغو الصيف:
مفارقات. . .!
للأستاذ سيد قطب
أيها القارئ. . .
في (سوق الرقيق) على البلاج، وبين هذا الحشد من العرايا، وفي غمار هذا اللحم الرخيص الذي يعرض في سوق الرقيق، فيعبث به العابثون، وتتجسس إلية النظرات المريضة، دون أن يقدم على شرائه أحد إلا بثمن اللحم الرخيص!
وفي هذا المكان. . . على البلاج، يقوم البوليس بجولات للمحافظة على الآداب!
أي والله! لا تضحك، ولا تدهش، فعين الدولة ساهرة على الآداب! ويد الدولة باطشة بمن يخدش الآداب، وبما يخدش الآداب!
وإليك البيان:
(مايوهات) الرجال ثلاثة أنواع:
نوع بحمالة على العاتق، ونوع بحزام، ونوع برباط من المطاط. . . وقد استفتيت الآداب فقالت: إنها ترتضي النوعين الأول والثاني. . . أما النوع الثالث فلا. . . وليس مرد هذا كله إلى فرق في حجم هذه الأنواع الثلاثة ولا شكلها، ولا في أن واحداً منها ساتر أو كاشف. . . لا. . . لا فتلك شكليات لا تعني الآداب! إنما السر كله في الحمالة أو الحزام أو الرباط!
ويمر الشرطي بالشاطئ، فأما من كان لباسه بحمالة أو حزام فذاك، وأما كان لباسه برباط، فيسوقه إلى (النقطة) ما لم يتوسط في الأمر الوسطاء!
ذلك كل ما يعني الدولة هناك من حفظ الآداب، وإن عين الدولة لساهرة، وإن يدها لباطشة. . . فحذار - أيها القارئ - أن تظن أن عين الدولة هناك غافلة عن رعاية الآداب!!!
ورعاية أخرى للآداب من تلك الرعايات في سوق العرايا على البلاج هذه الأجساد الرخيصة المكشوفة، المتلاحمة في البحر وعلى الرمال، المرمية في أوضاع حيوانية مريضة على مشهد من الأنظار. . . هذا اللحم المكدس المختلط من نساء ورجال في ك مكان، حيث لا يثير في أي حسن سليم إلا التقزز والاشمئزاز، حتى في نفوس طلاب الجسد من ذوي الغرائز القوية السليمة!.
هذا اللحم تفرق الدولة بينه في مكان واحد على البلاج: في الرشاش (الدش) فهو يتلاحم في البحر كما يشاء، ويتكدس على الرمال كما يشاء، ويخلج ذهابا وإيابا على الشاطئ، كما يشاء. ويرى الجميع الجميع في كل وضع وفي كل مكان. . . إلا حيث يذهب هؤلاء وهؤلاء إلى الرشاش. فهناك يكون الفصل والحجاب!
وهان ذلك لو أن كل رشاش منفصل مستور له باب - كما في (بلاج الأرستقراط) - فهناك مظنة أن يخلع المستحم أو المستحمة لباس البحر؛ تلك البقية الضئيلة من الستر، ولكن رشاشات الرجال والنساء في معظم (بلاجات الشعب) مكشوفة كرشاشات السجون التي يشكو بعضهم من خدشها للآداب هناك! والفاصل بين هذه وتلك حائط في الوسط، وهذه وتلك مكشوفة من الجانب الآخر ينظر الرائحون والغادون فيرون من فيها تحت الرشاش!
وإن الأمر ليبدو (مسخرة) من المساخر. فما قيمة هذا الفصل بين الجنسين في لحظة الرشاش؟
وتسأل: ولمَ لا تكون هناك حمامات خاصة للسيدات، وحمامات خاصة للرجال؟ ولم لا يحرم لباس البحر على (البلاج) ولا يباح إلا في الماء وفي الحمامات الخاصة لهؤلاء وهؤلاء؟
تسأل إن واتتك الجرأة على السؤال. فهنالك مخنثون رقعاء في الصحف الداعرة وفي كل مكان. . . هناك أولاد لا أعراض لهم في بيوتهم، يصيحون في وجهك كما يصيح الكلاب: هذا تأخر! هذه رجعية! هذا جمود!
ويقولون لك: في أوربا وفي أمريكا، وفي بلاد العالم المتحضر تختلط اللحوم وتتعرى الأجساد!
وفي الغابة كذلك - يا أولاد - تختلط اللحوم وتتعرى الأجساد.
ولكن الغابة أشرف وأسلم، لأن الفطرة هنالك أصدق وأنظف؛ فأنثى كثير من الحيوان والوحوش هناك لذكر واحد. وهي بذلك أعف وأشرف من تسعة وتسعين في المائة ممن تنشرون صورهن عارية على البلاج، أو شبه عارية في الحفلات الداعرة في أوساط (الأرستقراط). ونفوس الذكران من الحيوان هنالك أرقى وأقوى من نفوس تسعة وتسعين في المائة من نفوس الرقعاء من مخنثين الصحافة والإذاعة والسينما والطرب وفي هذه الأيام!
ويقولون لك: الشعب هو الذي يقبل على المجلات الداعرة، وعلى الأفلام الفاجرة، وعلى الأغنيات المخنثة، وعلى كل ما يثير الغريزة في كل وضع من الأوضاع.
وينسون جريمتهم في انحلال الشعب، هم والذين يسمونهم كذباً (أرستقراط) ينسون أنهم هم الذين هتفوا لكل أنثى داعرة مريضة الغريزة شاذة التكوين خرجت إلى سوق الرقيق باسم (المودرن)! والمرأة خاصة يغريها الثناء وتغرها (المودة) ويغويها الإغراء. والرجال المخنثون الذين يشرفون على هذه المرأة لم يجدوا في عروقهم دماء الرجال!
وينسون أن في كل نفس بشرية غريزة، وأن ليس من وظيفة الصحافة والفنون أن تملق هذه الغريزة وتستثيرها، وتلج في استثارتها، فهي لابد أن تستجيب!
وأن في كل نفس بشرية كذلك ميلا إلى الترفع من قيود الضرورة، وأنها من هنا كذلك يمكن أن تقاد.
في كل نفس بشرية خيط للصعود وخيط للهبوط؛ ومن أي الخيطين يمكن أن تجذب فتستجيب. فإذا كان الرواج هو الذي يغري هؤلاء الهابطين بتملق الغريزة، فليجربوا الخيط الآخر فقد يؤدي كذلك إلى الرواج.
صحفيون ناجحون، ومطربون ناجحون، وممثلون ناجحون، لماذا؟ لأنهم يحترفون الدعارة والقوادة. لأنهم دعاة مواخير. . . ولم يتعقب بوليس الآداب إذن مديري المواخير؟. . . إنهم صحفيون ناجحون، أو مطربون ناجحون، أو ممثلون ناجحون. . . كلها (فركه كعب) بين هؤلاء وهؤلاء!
ما الفرق بين ذلك الصحفي الذي ينشر في صحيفته تلك الصور الداعرة على البلاج أو في حفلات (الأرستقراط) ليقودك إلى شراء صحيفته، وبين ذلك (القواد) الذي يعرض عليك الصور العارية خلسة على المقهى أو البار ليقودك إلى الماخور؟!
فرق ضئيل.
ولكن عين الدولة مع ذلك ساهرة، ويدها مع ذلك باطشة. وإذا شئت أن تتأكد، فلتذهب إلى البلاج، لترى كيف تفرق بين الجنسين في الرشاش!
سأل ولد رقيع من أولئك الذين يسمونهم صحفيين ناجحين، راقصة عدة أسئلة قذرة، فأجابته بما شاء، ليروج صحيفته بصورة من الحياة الداخلية لواحدة من أولئك اللواتي لسن عذارى ولسن أمهات!
وكان في آخر أسئلته سؤال: ما رأيك في (بنات الذوات):
وكان الجواب: هن اللواتي يعشن مثل حياتنا، ثم يقال عنا: بنات الهوى، ويقال عنهن: بنات الذوات!
رد بارع، كدت والله أحترمها من أجله!
وهؤلاء هن اللواتي تستلهمهن الصحف الناجحة، وتسميهن الطبقة الراقية، وتقول: إنهن شرفن مصر في المجتمعات.
ونشرت إحدى هذه الصحف مرة صورة نسوان من هؤلاء، يركبن الخيل في لباس الفرسان. وقالت: لقد آن لمصر أن تستقل وهؤلاء نساؤها يزاولن جميع الرياضات، حتى رياضة الفروسية!
كأن لم يكن ينقص مصر لتستقل إلا بضع نسوان فارغات لاهيات من أولئك اللواتي يعشن حياة الراقصات، فيقال عن هؤلاء: إنهن بنات الهوى. ويقال عن أولئك: إنهن بنات الذوات!
ومالي وهؤلاء (الأرستقراط)؟ الأرستقراط المزيفين الذين ليس لهم من سمات الأرستقراطية إلا الثراء. الثراء الذي دفع بعضهم فيه - على توالي الأجيال المحدودة أعراضاً - ودفع بعضهم فيه خدمات لا يرضها الشرفاء، للاحتلال ولغير الاحتلال؟
مالي ولهؤلاء؟ انهم لا يستحقون هذه الكلمات.
ولكن مشهداً في (بلاج الأرستقراط) لا أنساه:
هبط إلى حرمهم المقدس - وان لم تكن لهم حرمات - متسول عاجز. . . لا أدري كيف تسلل من عيون الشرط والحراس إلى تلك الأرض المحرمة التي لا تطئوها أقدام الشعب إلا بترخيص! هبط إلى حيث أقامت الدولة سياجاً حول هؤلاء المقدسين، فراراً بهم من الشعب الملعون! هبط هذا المتسول العاجز القذر، يسأل من هناك قوتاً وطعاما. . . لله!. . . المسكين يعرف أن الله في كل مكان!!!
وإن هي إلا لحظة حتى توجهت إليه النظرات الشرر، مصحوبة بالتأفف والتقزز والاشمئزاز. وسرعان ما تداولته أيدي الشرطة والحراس، في حنق وغيظ: كيف جاز لهذا المنبوذ أن يطأ الأرض المحرمة التي لا تطئوها أقدام الشعب إلا بترخيص؟!
وبعد وساطة بعض الطيبين من حراس الشاطئ هناك رضى الشرطي أن يقذف به على (الكورنيش) ولا يقوده إلى (النقطة) وحسبه ما لقي من صفعات. . .
وفي وسط هذه المظاهرة تبرز في خفية وفي تلصص فتاة. . . فتاة خادم رقيقة الحال، تبرز لتندسس خفية إلى الرجل المسكين وتدس في يده شيئا وهي مذعورة. ثم تهمس في حذر: (أدي قرش ساغ يا عمي. بس إدي لي منه تعريفه. أحسن والنبي عايزاه وما عندي غير القرش ده)!
وبحث الرجل في جيوبه فوجد نصف القرش المطلوب. فكررت له الفتاة معذرتها في طلب نصف القرش، وأنا أسمع وأرى. ثم سارت تسرع الخطى، هابطة إلى الأرض المحرمة. فهي من هناك!
وفجأة وجدت نفسي تضطرب، فتسرع نحوها خطاي. وأمد يدي إليها بقرش قائلاً: خذي يا بنية قرشك الذي أعطيته للشحاذ!
ونظرت إلى برهة ثم قالت: (لا يا عم. إدية للراجل الغلبان. أنا موش عايزاه. أنا عايزه الثواب من الله!).
الله! لقد صدق الرجل في حدسه! فالله موجود في كل مكان حتى هنا في (بلاج الأرستقراط)!!!
سيد قطب