مجلة الرسالة/العدد 689/مقالات في كلمات

مجلة الرسالة/العدد 689/مقالات في كلمات

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 09 - 1946



للأستاذ علي الطنطاوي

يؤمنون بالحمار!

وليس هؤلاء الذين يؤمنون بالحمار من بقايا المشركين الأولين الذي يكفرون من جهلهم بالله رب العلمين، ويؤمنون بالِجبتِ والطاغوت، ولا الفراعنة الأقدمين عباد العجل، ولا من أخوان البوذيين الذين يؤمنون بالبقرة، ولكنهم قوم من المسلمين، ومن كبار الأدباء الشاميين، انظروا فرأوا للحمار مزايا وفضائل ليست لهذا الإنسان الذي يؤمن به أخي وصديقي الأستاذ عبد المنعم، فهو لا يكفر بالله، ولا يجحد بلسانه الإله الذي خلق له هذا اللسان كما يفعل الإنسان، ولا ينافق ويتخذ له وجهين، ولا يثير الحروب على إخوانه في الحماريّة، ولا يعرف جريمة القتل، ولا رذيلة الانتحار، ولا تشغله شهوته عن واجبه الحماري كما تشغل بني آدم، ولا يفكر في الأتان إلا مرّة واحدة في السنة ليقوم بقسطه من فضيلة العمل على بقاء النوع. . . ولا ينحرف بغريزته عن طريقها ف (يقترب. . .) من حمار مثله ويدع جميلات الأُتُن ذوات الخد الأسيل والذنب الطويل والساق النحيل. . . كما تنحرف غرائز بعض بني آدم. . ولا تتبرج إناثه التبرج المغري، ولا تعرف البغاء الرسمي في (المحلات العمومية) ولا البغاء الطليق على (البلاج)، ولا البغاء الفني في السينما والمجلات المصورة. . .

ولم يشاهدوا أتاناً ترقص رقصاً خليعاً، أو تدخل فرقة (مرشدات) ولم يسمعوا حماراً يغني غناء مخنثاً، أو ينظم شعراً رمزياً، مع سهولته عليه، وإنه لا يكلفه إلا أن ينهق نهيقاً من بحر جديدي مبتكر؛ ورأوه مع ذلك صابراً على ما قدر عليه، راضياً بما قسم له، لم يستغل هذه الحرب ليسرق شعير إخوانه. . . لا يغش ولا يرتشي ولا يخون ولا يعرف المكر ولا الحسد، ولا يتظاهر بالدين ليصل إلى الدنيا، ولا يتخذ العمل في الجمعيات الإسلامية سلما إلى المناصب؛ وهو يطيل التأمل ولكنه لا يؤذي أبناء جنسه بتدوين فلسفته، ويأتي حين يصوت بسجحات وصيحات لها في موسيقى الحمير جمال، ولكنه لا يكذب فيدعى أنه من كبار الملحنين؛ ويجئ بالبلاغة الحمارية المحدثة، ولكنه لا يزعم أنه مجدد في البلاغة كما يزعم بعض مشايخ بني آدم، لئلا يقال له: اخرس، فما تجديدك هذا إلا نهيق! رأوا ذلك فآمنوا بالحمار إيمان تقدير وتفضيل، لا إيمان دين وعبادة، فألفوا منذ ربع قرن (جمعية الحمير)، وجعلوها سّرية لأن الناس لم يستعدوا بعد لفهم هذه الأخلاق الحمارية، وتقدير أهلها، وكيف ولا يزال الواحد منهم إذا شتم آخر قال له من غروره وحماقته: يا حمار!

وقد خرج من هذه الجمعية رئيس وزارة ووزيران وخمسة من أعضاء المجمع العلمي العربي، وكان يعطف عليها ملك عربي عظيم ويصغي مستمتعاً إلى حديثها. والانتساب إليها صعب، لابد فيه من ترشيح ثلاثة من الأعضاء، وتقديم أطروحة في شرح مزية للحمار لم تعرف، وبعد مناقشتها (علناً) يقبل الطالب ويسلم إلى أحد الأعضاء لتطبيعه على طبائع الحمير، ثم يثبت عضواً أو يردّ. ولأن يصير المرء وزيراً أو أستاذا في الجامعة (بقانون خاص) أهون من أن يصير عضواً فيها

ولهم إشارة يتعارفون بها، هي التي سرقها منهم تشر شل فعمت الأرض، وهي الإشارة بالسبابة والوسطى إلى أذني الحمار، لا إلى أل (فاء) من (فكتوار)! ولهم اصطلاحات في كلامهم خاصة بهم، منها أنه إذا دعاهم كبير جاهل ممن يحب أن يجمل بالأدباء مجالسه، قالوا: هلم نذهب إلى المعلف. . .

وإذا وصفوا غناء عبد الوهاب (مثلا) قالوا: ما أجمل هذا النهيق، وإذا رأوا على غنّي من أغنياء الحرب ثوباً جميلاً، قالوا: ما أحلى هذه البرذَعة. . . وإذا شاهدوا داره، قالوا: ما أفخم هذا الإسطبل. وللجمعية درجات رفعوا بعضها فوق بعض، فأعلاها اليعافرة نسبة إلى يعفور حمار النبي ، فالسيارون نسبة إلى حمار أبي سيارة الذي أجاز عليه الحجاج من المزدلفة إلى منى أربعين سنة، وكان يشق الناس ويقول:

خلوا الطريق لأبي سيارة

وعن مواليه بنى فزاره

حتى يجيز سالما حماره

مستقبل القبلة يدعو جاره

فقد أجار الله من أجاره

ولهم علم وأدب، وهم يفضلون بشاراً على الشعراء لأنه توصل بحدة ذهنه، وشدة ذكائه إلى التغزل بأتان على لسان حمار، ويقدمون خالد بن صفوان والفضل بن عيسى الرقاشي لأنهما كانا يختاران ركوب الحمير على ركوب البراذين ويدافعان عنها، ويئنون على من ألف (خواطر حمار) ومن ترجمه. . .

وحديثهم طويل، فماذا يقول فيه الأستاذ عبد المنعم؟

أيقول إنهم (حمير. . .)؟!

أزمة القلوب في مصر:

أنا أحبكم والله يا أهل مصر، فخذوها مني كلمة محب متألم لا كلمة عدو ناقم، وإن مصر بلدي ومنها أصلي، وفيها قلبي؛ منحته أهلها ولم آخذ منهم شيئاً، لأنهم لم تبق لهم قلوب يحبون بها، قد ذهبت بها صبوات النفس، ونزوات الصبا، لقد أماتتها هذه المجلات الداعرة، وهذه الأفلام الخليعة، فأين الحب يحييها؟ أين الحب في البلد الذي لا تمنع فيه ثمرات الجمال؟ وهل يزكو الحب إلا على المنع؟ وهل يعيش إلا على الأمل؟ وهل يتغذى إلا بالألم؟

وهل الحب إلا تطلع إلى المجهول، وتشوق إلى ما وراء (الحجاب)؟ وهل أنطق الشعراء بآيات الغزل إلا ذاك؟ وهل هذه الآلاف من السيقان الباديات على سيف الإسكندرية تبلغ كلها من نفس الشاعر كما تبلغ ومضة من بياض ساق ليلى، لو بدت للمجنون وللعاقلين. . . ساق ليلى؟ فإذا لم تبالوا يا أهل البلاج. . . بهذا الشيء الأثري الذي يسمونه الدين فاحرصوا على الفن. حافظوا على الحب، فالحياة الحب والحب الحياة. . . فماذا تكون حياتنا بغير عاطفة ولا حب؟ وأين الشعراء يدافعون، لا عن الفضيلة، بل عن الحب الذي يحتضر على رمل الإسكندرية، على حين ترقص عند سريره الشهوات المعربدة وتصيح.

لقد كنا نقرأ (روفائيل) و (الأجنحة المكسرة) فترفعنا إلى عالم في السماء، عالم مسحور كله عاطفة وفتنة وطهر، فنتخيل فتاته في أحلامنا تطير في جوّ من العفاف ملفوفة بالنور، لا بل هو شيء فوق ذلك فما يبلغ قلمي الآن وصفه، فماذا يرى من يقرؤها اليوم من الشباب، انهم لا يتخيلون إلا فتاة الترام أو غادة البلاج، أو صبية السينما، فيسرعون إليها، فما تكون إلا دقيقة واحدة، حتى ينصرم الحلم، وتمحى الرؤيا، فتهبط من السماء إلى أعماق الفراش الدنس. . .

أعظم العظماء في تاريخنا:

أعظم العظماء في تاريخنا السياسي خمسة، لست أنكر عظمة من عداهم، ولا أبخسه حقه، ولا أنزل به عن مكانته. وإني لأعلم إن في تاريخنا لعشرة آلاف بطل، ما تملك أمة مائة من أمثالهم، ولكن هؤلاء الخمسة معدن آخر، ما صنع الله منه بشراً غير نبيّ إلا هؤلاء الخمسة، فكانوا تحقيق المثل الأعلى الذي ينتهي إليه خيال الأديب، وتأمل الفيلسوف، وتصورّ الإنسان حينما يتصور الملك الكامل، والزعيم والحاكم، خمسة أوتوا من الذكاء أحدَّه، ومن الرأي أسدّه، ومن الإخلاص اشدّه، فأن وزنت عظمتهم بسعة نفوسهم، وجلال مواهبهم، وقيمة أشخاصهم، وجدتهم قد رجحوا في الميزان على كل عظيم من غير الأنبياء، وان قستها بآثارهم الباقية، وما صنعوا لهذه الأمة من مجد، وما خلفوا فيها من تراث عقلي أو وطني أو خلقي، ألفيتهم السابقين المبّرزين، وان رأيت ما أفادوا من خدماتهم، وما انتفعوا به من سلطانهم، وما كان لنفوسهم من حظ من ملكهم، وجدتهم عاشوا جميعاً مثلما يعيش رجل من غمار الناس، ما استأثروا بطيب من الطعام ولا لين من اللباس، ولا أورثوا فضة ولا ذهباً، ولا استفاد أبناؤهم منهم مالاً ولا نشباً وان عرضت بعد ذلك سيرهم عرض ناقد متعقب، أو نظرت إليها نظر عدوّ شانئ، لم تستطع أن تجد فيها عيباً؛ فلا أخطئوا في سياسة، ولا تعمدوا مظلمة، ولا حجزوا حرية الرأي، ولا أساءوا لمسلم ولا ذمي، ولا حنثوا مع محارب بقسم، ولا نقضوا عهداً، وكانوا مظفرين في الخارج في الحروب، مظفرين في الداخل بالسياسة. . .

أولئك هم: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين.

(دمشق)

علي الطنطاوي