مجلة الرسالة/العدد 690/أنا وضغط الدم

مجلة الرسالة/العدد 690/أنا وضغط الدم

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 09 - 1946



للأستاذ عباس حسان خضر

قضيت ما قضيت من حياتي - قبل أن تبدأ قصتي مع ضغط الدم - بعيدا عن الأطباء، لم القهم في مرض ألمّ بي إلا مرات معدودات. وذلك لعديد من الأسباب لا أريد أن اذكر منها إلا أنني حريص على العمل بالحكمة المأثورة: (الوقاية خير من العلاج).

ومهما كانت الأسباب فقد كنت بخير إلى أن لقيت صديقي في الطريق وهو ذاهب إلى مكتب شركة من شركات التامين على الحياة ليدفع قسطا من المؤمن به على حياته، وطلب مني أن اصحبه وقال لي: لم لا تؤمن أنت أيضا على حياتك؟ فقلت في نفسي: حقا لم لا أؤمن على حياتي؟ إنني لا ادخر شيئا، وهذه قطع كبدي تمشي على الأرض، ولا يملك أبوهم شبرا من أرض. . .

وقال صديقي: على أنك إذا طلبت التامين عهدت الشركة إلى طبيبها أن يفحصك فحصا تاما ليتحقق سلامتك من جميع الأمراض، فإذا كانت هذه السلامة اطمأننت على صحتك وجنيت فائدة التامين، وإلا عرفت داءك فتبادر إلى علاجه، وسيسألك الطبيب عن الأمراض التي أصبت بها في حياتك، فلا تصدقه وقل له: أنك لم تصب بأي مرض في أي زمن. تصور أني قلت له: لم امرض إلا مرة واحدة في حياتي، إذ أصبت بحمى (الدنج) فجعلت الشركة تبحث عما عساه يكون ل هذه الحمى من الآثار التي تقصر الأعمار. . . وبعد البحث والدرس، والأخذ والرد، قبلت التامين. قلت لصديقي: أنك - ولاشك - اصدق المؤمنين على حياتك لدى هذه الشركة!.

وتقدمت إلى الشركة بطلب التامين على حياتي بألف جنيه، على أن ادفع أقساطا شهرية بضعة جنيهات؛ وزعمت أني لن أبالي بعد ذلك أن أموت في أي وقت تاركا لأولادي ألف جنيه! وكنت شديد الحذر من سيارات الحلفاء وما إليها من الدواهم التي تعج بها شوارع القاهرة، وزعمت أيضا إنني لن أكون كذلك بعد أن يتم عقد التامين. . .

واستدعتني الشركة للفحص الطبي، وليس يهمك أن تعلم أني أخذت بنصيحة صديقي في الكذب على الطبيب أو لم آخذ بها، فقد حدث ما شغلني عن ذلك، وهو المقصود من هذه الحكاية، فلنقصد إليه قصدا. . . لف الطبيب على ذراعي قطعة من قماش اسود كثيف، وأدار الآلة المتصلة بها، فضغطت على ذراعي، ونظر إلى دائرة بها مشير يتنقل بين أرقام. . . ثم قال: عندك ارتفاع في ضغط الدم!

ضغط الدم. . .! وما ضغط الدم. . .؟

لم يجب الطبيب، لأنه لا يتكلم في الصميم، وإنما أبدى استعداده للعلاج.

ولكني لم آتي هنا للعلاج. . . ولست اعرف هذا المرض، ولا أحس له بأعراض، وإنما أطلب التامين على حياتي. . . ولكن الشركة لا تؤمن هذه الحياة التي يتحيفها ضغط الدم. . .

وذكرت قول صديقي: (. . . وإذا عرفت داءك فتبادر إلى علاجه)، ولكني أصررت على تجاهل هذا الداء أما أولادي فإن كنت سببا في وجودهم فإن موجدهم الأصيل الذي يكفلني ويكفلهم اقدر على كفالتهم بعدي وهو المستعان في كل حال.

ولكن مالي أنتبه عند ما اسمع الناس يرددون كلمة (ضغط الدم) بين ارتفاعه وانخفاضه، وأرى اهتمام بعضهم بقياسه، ومعرفة درجته ومعالجته. . .؟ استرعى ذلك انتباهي. وأثار باطن الشعور الذي خلته انتفى عني، فقصدت أحد الأطباء. . . ولف على ذراعي ذلك القماش الأسود، وقاس ضغط دمي، وسألني عن سني، وقرر أن الضغط مرتفع إلى درجة لا يحسن السكوت عليها.

ورحت أتناول الأدوية، وسرت على (الرجيم) وكنت كلما أخذت الدواء، أو أكلت مسلوقا، أو حرمت نفسي محذورا؛ أوحى إلي كل ذلك إنني حقا مصاب بضغط الدم، وكأن كل ذلك يأمرني أمرا بأن أكون كذلك، فيجب أن استشعر ثقل الدماغ والصداع وفتور الجسم، وارتخاء الاطراف، فيجيبني كل ذلك ومعه هموم الدنيا وسواد العيش. وكنت أحس كلما وطئت قدماي عتبة (عيادة الدكتور) أن الضغط يرتفع، وإن كنت قد أوحيت إلى نفسي في الطريق أن الأدوية و (الرجيم) قد أفادت فأذهبته. . . فيقيس الطبيب، وأعاود تعاطي الأدوية، والخضوع (للرجيم) وهزل جسمي وضعف بدني. وعجبت من أن حالتي تزداد سوءا على مر الأيام، مع العناية والدقة في مراعاة مقتضيات العلاج، ومع الحرمان التام من كل ما يزيد الضغط!

حرت في الأمر، فمرة أقول لعل المرض كان في أطواره الأولى خفيفا، أما الآن فقد استفحل أمره حتى أعضل، ولولا هذه المعالجة لأدى بي إلى الحالة التي خشيت شركة التأمين خسارتها فيها، ومرة أقول لعل هذا الطبيب غير موفق، فأغيره ولا يتغير الحال. وأخيرا قلت: ألم اكن قبل بخير؟ فلم لا ارجع كما كنت؟ وطرحت الدواء وخلعت طاعة (الرجيم) فغذيت جسمي باللحم والبيض، ورويته بالخضر المطهية بالطماطم، وعمرت دماغي (بالتقلية) فعادت روحي إلى بدني، وجعلت الحيوية تدب في اوصالي، واقبلت على رياضتي البدنية التي كنت تركتها خيفة أن ينفجر القلب وتتمزق الشرايين؛ فأشرقت نفسي ورأيت الدنيا مشرقة؛ وكل شيء يبسم ويدعوني إلى مشاركته؛ وأدركت ما كاد يفسد من أموري، فطابت نفسي بذلك وحمدت الله على هذا التوفيق. ولم أندم على تلك المحنة لأنني اعتبرتها تجربة استفدت منها؛ إذ عرفت أن داءي من الحالة النفسية التي وقعت فيها، والتي كانت تستشري عند كل مرسوم من مراسيم العلاج إذ أفكر متسائلا: لم آخذ هذا؟ ولم ادع ذاك؟ وعرفت أيضا أن دائي من ضعف بدني لحرمانه التغذية والتقوية، كما عرفت أن سواد عيشي كان من سواد قماش تلك الأدلة التي يقيسون بها ضغط الدم.

ولكن لم تدم جدوى هذه العبرة طويلا، فقد أوقعني سوء الطالع مرة ثانية مع موظف في شركة أخرى للتأمين، من أولئك المنوط بهم جلب حرفاء للشركة لقاء جعل مقدر بنسبة مئوية من مقدار التأمين، واهم ما يتصف به هؤلاء اللباقة في الحديث، والقدرة على شرح فوائد التأمين والإقناع بضرورته. أكد لي أن صحتي جيدة، وأنه لا يبدو علي ما يدل على ضغط الدم، وأن الضغط لا يرتفع في دم من هو في نحافتي وفي مثل سني. ورضيت أن أتقدم للتأمين مرة أخرى. . . وما وضعت قدماي على عتبة طبيب الشركة حتى هممت بالرجوع لأنجو بدمي من أكدار أحسست أنها تتسرب اليه، ولكنني أشفقت على الموظف الذي يدعوني إلى الدخول متلطفا مبتسما؛ فدخلت، وتمت الطامة برؤية مقياس الضغط ذي القماش الأسود الكثيف. . . واظهر الطبيب استعداده للعلاج. . . فخرجت وقد أضفت إلى ثبت المنغصات فكرة التأمين على الحياة، وباعتباري إنساناً إذا مسه الضر دعا الله إلى جنبه

- تذكرت تلك الحكمة التي خطرت لي عقب رفض الشركة الأولى تأمين حياتي. فقلت: (أما أولادي فإن كنت سببا في وجودهم فإن موجدهم الأصيل الذي يكفلني ويكفلهم اقدر على كفالتهم بعدي).

على إنني لم ادر تماما أأنا حقا مصاب بذلك الضغط، وأن التفاوت بين الحالتين يرجع إلى تلك الأسباب من تركيز تفكيري فيه كلما جرعت دواءا أو أكلت مسلوقا أو تجنبت محذورا، ومن الشعور الكريه الذي ينتابني في مدخلي إلى الطبيب، واسوداد الدنيا أمام ناظري حينما ابصر ذلك القماش الأسود، ومن التفكير في التأمين على الحياة، إلى ما يجره كل هذا من الهم والحزن ونكد العيش؛ فإذا نفت عني إرادتي كل ذلك أو إذا ذهب عني لابتعادي عن مثيراته شعرت بأني في حالة عادية لا يشوبها أي كدر، ولكن ما بالي لم اشعر بشيء من قبل ولا من بعد؟ أم أنا يوم فحصني طبيب الشركة وقاس ضغطي لأول مرة كنت متغير المزاج لأي سبب بأن وقع لي قبيل الفحص ما جعل مشير المقياس يرتفع إلى رقم ما كان يبلغه لو كنت في حالة عادية، ثم استقرت الفكرة في نفسي بعد ذلك بحيث يسبب الشعور بها عند كل مناسبة ارتفاعا في الضغط؟ وعلى ذلك أستطيع أن افرض إن كثير من الناس أصيب به عندما شاهدت عيناه القماش الأسود يلف على ذراعه لأول مرة، وصارت رؤيته بعد ذلك تبعث الوساوس وتجلب الأكدار.

ولا أعني بالوصول إلى نتيجة حاسمة في ذلك، فلا سبيل إليها اولا، لعدم الانسجام بين راحة بالي وبين مقياس الضغط. والأمر الثاني الذي يصرفني عن تحقق وجود ارتفاع الضغط هو إنني عرفت أن أوفق شيء لي أن أحيا حياة صحية عادية، لا أتكلف فيها تناول شيء أو أتجنب آخر ما دمت في حدود القانون الصحي العام، وإنني عندما اعمد إلى العلاج أراني أتداوى (بالتي كانت هي الداء) على فرق ما بيني وبين أبي نواس من اللذة والألم والنشوة والحسرة، ومن أن كأسه تداوي والذي كنت فيه يدئ.

وبعد، فهذه قصتي مع ضغط الدم، سقتها هنا بدافع الرغبة في التعبير الأدبي عن تجارب تضمنت أحاسيس وأن فعالات، ولعل فيها إلى ذلك مادة تنفع من وقع في مثل ما وقعت فيه، أو تعصم من يوشك أن يقع أو تحمل العبرة إلى من يعتبر من بعيد.

عباس حسان خضر