مجلة الرسالة/العدد 690/صحائف مطوية:

مجلة الرسالة/العدد 690/صحائف مطوية:

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 09 - 1946



من أخلاق البحتري

علاقته بالخلفاء

للأستاذ محمد رجب البيومي

لأبي عبادة البحتري عند أدباء العربية مكانة رفيعة لا يتطلع إليها ابعد الناس أملا في نباهة الذكر، واستفاضة الشهرة، فهو أحد الثلاثة الذين رزقوا من الحظوة والذيوع ما جلجل صداه في كل زمان، على أن الوليد أعقهم تأثير أو أكثرهم أنصارا، نظرا لديباجته الناصعة، وسلاسته المترقرقة، ووضوح معانيه وضوحا يصل بها إلى أعماق القلوب بمجرد النظرة الأولى، ولا كذلك أبو تمام والمتنبي، فالأول مغرق في الغموض والالتواء، والثاني مولع في مخالفة أهواء الناس، وحسبك أن يقول أبو العلاء_وهو أبعد الناس عن مذهب الوليد - (أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري)!.

ولقد تناول شعره بالنقد والتحليل طائفة ممتازة من أرباب الأقلام الناضجة فقالوا فيه ما شاء لهم تفكيرهم واستنتاجهم، فمن من متعصب لهم كالآمدي، ومن متعصب عليه كالصولي، ومن متجرد عن الميول والأهواء كابن الأثير، ومهما يكن من شيء فقد خرج الأدب من هذا التطاحن المحمود بثروة كبيرة تعتز بها المكتبة العربية على ممر الأحقاب. وأن من الغريب أن يغفل هؤلاء جميعا عن دراسة أخلاق البحتري دراسة تبرزه على حقيقته أمام الجمهور، اللهم إلا شذرات يسيرة في مختلف الأسفار لا تشبع نهمة راغب في البحث، آمل في الوصول إلى نتيجة واضحة يفهم على ضوءها شعر البحتري كما يجب أن يكون الفهم والاستنتاج!

على أني آسف كل الأسف ل هذه الحقيقة المؤلمة التي اهتديت إليها بعد بحث جهيد، والتي تصور لنا البحتري خبيث الطبع، لئيم المكر، ملتهب الحقد، وهذا يتجلى بوضوح تام في مختلف علاقاته بالناس من خلفاء وشعراء وأصدقاء، بل في علاقته بأقاربه وأهل بيته وهم أولى الناس بعطفه وإشفاقه، لو كان في قلب الوليد إثارة من عطف وإشفاق!

ونظرة واحدة إلى ديوانه تريك العجب العاجب من وقاحته وغدره فهو يمدح الرجل ويذمه مرات عديدة لا لأنه يستحق الذم أو المدح مثلا فذلك مقبول، بل لأنه جاد له بالمال فمدحه ثم أبطأ قليلا في سيبه فأقذع في هجوه، غير متذكر ما طوق جيده قبل ذلك، بل لقد وصل به التنكر والجحود إلى أن جعل شعره محلا تجاريا يأخذ منه ما يلزمه إبان حاجته فهو - كما يقول صاحب الموشح - يمدح الإنسان بتحفة خالدة من رائع الشعر ثم يعرض له بعد تناسل الأيام أن يمدح محسنا آخر فيدفعه لؤمه إلى أن يعمد إلى شعره الذي قاله في الممدوح الأول فيغير ما يحتاج إلى تغير من الأسماء والألقاب ثم يسوق القصيدة برمتها إلى الممدوح الثاني، وهذه طريقة مقيتة وقع فيها المتنبي أيضا فقد مدح أبا الفضل وزير كافور الأخشيد بقصيدة:

باد هواك صبرت أم لم تصبرا

وكان منها:

صغت السوار لأي كف بشرت ... بابن الفرات وأي عبد كبرا

ولما لم يثبه أبو الفضل عليها صرفها عنه وتحول إلى ابن العميد فمدحه بها بعد أن غير كلمة ابن الفرات بابن العميد ثم أردفها بزيادة يسيرة تتضمن جانبا من أوصاف ابن العميد. . .! وإذا كان المتنبي قد وقع في ذلك مرة واحدة فقد كان البحتري غارقا في هذه العادة إلى أذنه، حتى أنه كرر هذه الجريمة الأدبية إحدى وعشرين مرة وكان الله عز وجل أراد أن يكشفه للناس على حالته، فبالرغم من تحفظ ولده أبي الغوث عن الوقوع في ما يدل على ذلك حين جمع ديوان والده فقد ذكر له قصيدتين متشابهتين في أكثر الأبيات فأنت تقرا اللامية التي مدح بها المتوكل على الله ومطلعها:

قف العيس قد أدنى خطاها كلالها ... وسل دار سعدي إن شفاك سؤالها

ثم تقرأ قصيدته التي مدح بها إبراهيم بن المدبر ومطلعها:

وقوفك في أطلالهم وسؤالها ... يريك غروب الدمع كيف انهمالها

أقول: تقرأ هاتين القصيدتين فتجدهما متوافقتين لفظا ومعنى في كثير من الأبيات. ولك أن تستنتج من هذا حكمك على ضمير البحتري الفاسد، وحرصه على ابتذاذ الأموال بما تنكره مروءة الأخلاق.

ولننظر أولا إلى علاقته بالخلفاء لنعرف إلى أي مدى سفل الوليد، فما صان عهدا ولا حفظ إلاّ، حتى مع المتوكل على الله، ذلك الخليفة المعطاء الذي أدناه من مجلسه وأغرقه في طوفان من حبائه، وأختاره نديما على بساط الشراب إلى أن لقي حتفه وهو في ندوته يجاذبه أطراف السمر مع الفتح بن خاقان، وحين حلت الكارثة قام الوزير الشجاع بما يفرضه عليه واجب الشهامة والرجولة ففاضت روحه قبل سيده، وفر البحتري إلى حمام مهجور بقصر القاطول فاختبأ فيه وبعد ذلك جاء ليكذب على الناس فيقول في اختلاق ذميم:

أدافع عنه باليدين ولم يكن ... ليثني الأعادي اعزل الليل حاسره

ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي ... درى الفاتك العجلان كيف أساوره

مع أن البحتري لو كان صادقا في قوله لصرع لساعته كما صرع الفتح بن خاقان شهيد المروءة والوفاء! ونحن لا نبالغ في مؤاخذة البحتري على فراره هذا فلعله ممن لا يلقون بأيديهم إلى التهلكة. ولكننا نبالغ في مؤاخذته على هجاءه المتوكل بعد مصرعه برغم ما غمره به من خير عميم، فقد قال في مدح المنتصر قاتل المتوكل العاق:

حججنا البلية شكرا لما ... حبانا به الله في المنتصر

تلافي البرية من فتنة ... أظلهم ليلها المعتكر

ولما ادلهمت دياجيرها ... تبلج فيها مكان القمر

ولو كان غيرك لم ينتهض ... بتلك الخطوب ولم يقتدر

رددت المظالم واسترجعت ... يداك الحقوق لمن قد قهر

وآل أبي طالب بعدما ... أذيع بسربهمو فابذعر

ونالت أياديهمو جفوة ... تكاد السماء لها تنفطر

بقيت أمام الهدى للهدى ... تجدد من نهجه ما اندثر

ومعلوم أن المتوكل هو الذي غالى في قهر آل أبي طالب!! فهل يليق أولا أن يمدح قاتله؟! وهل يليق ثانيا أن يعرض بهجاء ولي نعمته الأول فيقول أن الفتنة أظلمت دياجيرها في عهده وأن الهدى قد أن دثر على يديه؟ إن هذا لغريب.

على أن البحتري لدناءة اصله، وخسة طبعه لم يلبث أن قلب للمنتصر - ولي نعمته الثاني - ظهر المجن، فهجاه هجاءا مراً بعد مقتله، ثم أن قلب إلى الخليفة الجديد المستعين بالله يتزلف إليه ويمدحه حتى يستنزف أموال خزائنه فهو يقول متظاهرا بالولاء والإخلاص: لقد نصر الأمام على الأعادي ... وأضحى الملك موطود العماد

أمير المؤمنين اسلم فقد ما ... نفيت الغي عنا بالرشاد

تدارك عبدنا الدنيا فقرت ... وعم نداك أفاق البلاد

ولقد هبت في عهد المستعين بالله زعازع شديدة تنبئ بزوال دولته نظرا لقوة أنصار المعتز بالله غريمه الأول ومنافسه الألد فرأى البحتري أن يحتاط لنفسه فأرسل للمعتز في سجنه قصيدة تنبئ عن ولاءه، وكان قد قالها قبل ذلك في حبس سعيد بن يوسف ولكنه كما قلنا - فيما تقدم - شاعر تجاري يتصرف في شعره كما شاء ومما جاء في هذه القصيدة:

جعلنا فداك، الدهر ليس بمنفك ... من الحادث المشكو والنازل المشكي

وقد هذبتك الحادثات وإنما ... صف الذهب الإبريز قبلك بالسبك

على أنه قد ضيم في حبسك الهدى ... وأضحى بك الإسلام في قبضة الشرك

أما في نبي الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوسا على الجور والإفك

أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك

وكأني بالبحتري وقد خاف أن يعلم المستعين بالله نبأ هذه المراسلة فتقدم إليه عصماء مظهرا ولاءه ووفاءه قائلا في ديباجة مشرقة وأسلوب سلس:

بقيت مسلما للمسلمينا ... وعشت خليفة لله فينا

فقد أنسيتنا بذلا وعدلا ... أُبوَّتك الهداة الراشدينا

أراد الله أن تبقى معانا ... فقدر أن تسمى مستعينا

إذا الخلفاء عدّوا يوم فخر ... سبقت سراتهم سبقا مبينا

وقيناك المنون وأن حظا ... لنا في أن نوقيك المنونا

وبعد أن أمن على نفسه من ناحية المستعين اخذ يراسل المعتز بالله من جديد فهو يقول في مخاطبة غلامه نائل:

ألا هل يرجع العيش لنا مثل الذي كانا

وهل ترجع يا نائل بالمعتز دنيانا

عدمت الجسد الملقى على كرسي سليمانا

فقد اصبح للعنة نقلاه ويقلانا والجسد الملقى على كرسي سليمان هو المستعين بالله الذي قربه من مجلسه وغمره بنواله. ولما دارت الدوائر على المستعين وقتل بقصره تحت جنح الظلام، اخذ البحتري يضحك لآماله، وسار من فوره إلى المعتز بالله معتمدا على ما كان بينهما من مراسلة خفية ثم مدحه بقصيدة طويلة عرج فيها على المستعين - ولي نعمته الثالث - فسلقه بلسان حاد ولصق به جميع المثالب حتى جرده من إنسانيته فهو يقول في هجاءه:

متى أسل الديان أن تصطفى له ... عرى التاج أو تثني عليه عصائبه

وكيف ادعى حق الخلافة غاصب ... حوى دونه إرث النبي أقاربه

بكى المنبر الشرقي إذ خار فوقه ... على الناس ثور قد تدلت غباغبه

ثقيل على جنب الثريد مراقب ... لشخص الخوان يبتدئ فيواثبه

إذا ما احتشى من حاضر الزاد لم يبل ... أضاء شهاب الملك أم كل ثاقبه

تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله ... فطورا ينازيه وطورا يشاغبه

رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعرى من برد النبي مناكبه

وقد سرني أن قيل وجّه مسرعا ... إلى الشرق تحدى سفنه وركائبه

إلى دسكر خلف الدجاج ولم تكن ... لتنشب إلا في الدجاج مخالبه

ثم أخذ يكرر هجاءه ثانية وثالثة ورابعة وما ذلك إلا ليحوز قبول المعتز بالله! فيا لضيعة الوفاء. . .

ولقد كان مصير من سبقه من الخلفاء في هذا العهد الأحمر الذي فاضت به دجلة بدماء الخلفاء، حتى كان تعيين الخليفة حكما عليه بالإعدام، فهو ينتظر تنفيذه بالليل، فإذا اخطأه ترقبه بالنهار؟! ولعمري أي خطأ شنيع وقع فيه المعتصم حين اصطفى هذه الشرذمة السافلة من غوغاء الأتراك ليدفع بها سلاطة الفرس على قلة شرهم - فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم!.

وما أن عرف البحتري مصرع المعتز حتى توجه كعادته إلى غريمه الجديد، يمدحه ويستدر عطفه. وما في ذلك عيب، ولكن العيب كل العيب في تعريضه الشنيع بهجاء المعتز - ولي نعمته الرابع - محاولا أن يشفي بذلك غلة الممدوح، ولو طال أمد البحتري إلى الآن لوجدناه يحرص على تمثيل هذا المنظر القبيح مع من يتعاقب على الدول من ملوك وخلفاء.

وليت شعري كيف عمى الخلفاء عن تلاعب البحتري بهم هذا التلاعب المقيت، فلم يتنبهوا إلى غدره الفاحش، فيقفلوا أبوابهم في وجهه على اقل تقدير ولكنه الحظ الذي ستر مثالبه، وأطبق العيون عن مخازيه، فجعل كل خليفة يبتسم له ناسيا ما ارتكبه في حق زميله السابق من غدر وعقوق، ولقد كان أبو تمام أولى ب هذه الحظوة لدى الخلفاء، لما نعرفه من نبل أخلاقه، وكرم خلاله، إلا إن السعادة التي احتضنت البحتري قد ناصبت حبيبا العداء! فقد مدح المعتصم بقصيدتين خالدتين ثم رجع ولم يظفر بطائل رغم شفاعة أحمد بن أبي دؤاد!!

والحظ يقسم عاش بشر ما اشتكى ... بصرا وعمرا أكمها بشار!

على أن له مع أحمد بن الخصيب موقفا كمواقفه مع الخلفاء سواء بسواء، قال صاحب الموشح (حدثني أحمد بن أبي ظاهر فقال: ما رأيت اقل وفاء من البحتري ولا أسقط، رأيته قائما ينشد أحمد بن الخصيب مدحا له فيه، فحلف عليه ليجلس، ثم وصله واسترضى له المنتصر وكان غاضبا عليه، واخذ له منه مالا فدفعه اليه، ولما نكب المستعين أحمد بن الخصيب بعد كرمه هذا رأيت البحتري ينشده

لابن الخصيب الويل كيف انبرى ... بإفكه المردي وإبطاله

قد اسخط الله بإعزازه الد ... نيا وأرضاها بإذلاله

يا ناصر الدين أنتصر موشكا ... من كائد الدين ومغتاله

فهو حلال الدم والمال أن ... نظرت في سائر أحواله

والرأي كل الرأي في قتله ... بالسيف واستصفاء أمواله

ثم قال ابن ظاهر كان ابن العلجة فقيه يفتي الخلفاء في قتل الناس! نزحه الله).

هذه علاقة البحتري المخزية مع أولياء نعمته، ولقد كان في حاجة إلى من يذكره بقصة صعصة بن غالب حين بلغه موت الوليد ابن عبد الملك، فقال: لعنه الله وأخزاه! لقد سبني مرة أمام حشمه وخوله، وكان والده غالب حاضرا فقال: يا بني لقد رفعت من ذكر الوليد إذ ذكرت سلطانه عليك، وخفضت من شأنك إذ نبهتنا إلى منزلتك لدى الخليفة وأنت سيد قومك، فلا تفضح نفسك بهجاء رؤسائك أمام الناس!!).

(يتبع) محمد رجب البيومي