مجلة الرسالة/العدد 693/بين الفكر والعمل

مجلة الرسالة/العدد 693/بين الفكر والعمل

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 10 - 1946



للأستاذ عبد المنعم خلاف

كلما استعرضت ما يقال في الأندية الثقافية والمعاهد العلمية، وما يكتب في الصحف والمجلات حول الأخلاق والمثل العليا، ووازنت بينه وبين حياة الواقع وما تندفع إليه مراكب الحياة العملية من الانحدار والسوء. . . كدت أميل إلى أن الكلام في المثل العليا ليس إلا لإدراكها في عالم الفكر فقط، وأننا لا نملك قدرة عملية على تحقيقها، وأن الكلام فيها ليس إلا لحملنا على الإيمان بأن هناك عالماً للكمال الذي في آجل حياتنا، فيجب أن نؤمن به للآجل لا للحاضر. وكدت أميل إلى أن الكلام في تلك المثل ليس إلا صناعة اتخذناها للارتزاق كما اتخذنا صناعة الأحذية ودبغ الجلود للارتزاق أيضاً. . . لما رأيته من أن كثيراً من المتكلمين يؤجرون كما يؤجر الراقصون والمغنون وغيرهم من محترفي الفنون الذين يستعان بهم للترويح عن النفس وللزينة وتجميل الحياة، و (للاستعراض) والترف الذهني واستعمال ما يسمونه (حرية الفكر). . .

ولكن. . . هل هذه الظاهرة - ظاهرة بعد حياة الواقع عن حياة الفكر - مطردة في جميع الأمم؟ إننا نعلم أن هناك أمماً أدركت في حياة الواقع كثيراً من أحلام الكمال، أو اتجهت نحو الكمال أو سددت وقاربت إن لم تكن أدركت، وأن العزيمة الصادقة والإرادة القوية والإخلاص للجمال والنظام صفات جديرة أن تنزل بعض سماء ما في عالم النفس والفكر من أحلام الكمال إلى عالم الواقع وتجسيمها.

والحق أن كثيراً من حقائق الأخلاق اليوم في بعض الأمم كانت أحلاماً بالأمس، وأن ضمير تلك الأمم قد صقل بالخير واقتنع به وارتاح إليه وبني حياة الاجتماع عليه.

والحق كذلك أن تعاليم الخير صار ينادى بها الآن - ولو نظرياً - في معاهد جميع الأمم.

وانظروا: هل في الأرض إلا أمم وأفراد ترفع رؤوسها نحو الحريات والكرامات تطلبها لنفسها بالدم والرأي والسلم والثورة؟ وهل فيها صرخات وهتافات بكلمات الحق والعدالة يطلبها المستضعفون لأنفسهم وللناس، ويتشدق بها الأقوياء والمتسلطون كحلية يزينون بها صوالج دولهم، ويجملون بها الأحاديث عن سلطانهم، ويزعمون أنهم حماتها وأساتها والمجاهدون لها في مجال سطوتهم؟ فماذا يدل عليه ذلك غير أن (سطح الحياة الإنسانية) ابتدأ يغلي ويفور ويشتد ويقذف وينضج؟ إن كل وحدة إنسانية تطلب الآن لنفسها ولقومها حقوق الحياة الكريمة الطيبة، لأنها تريد أن (تعيش) في عصر أصبحت فيه الحياة جديرة بأن (تعاش) بعد أن فتح العلم آفاقها ومهد مسالكها ووسع رحابها وأمدها بروح من قدرة الله وجدد ديباجتها وملكها مفاتيح كنوز الصحة والثروة ومقامع المرض والفقر والجهالة، وأفاض عليها بركات من السماء والأرض، وإنما يسيء إلى الحياة شيء واحد يشوه وجهها ويطمس سحرها، وهو أنانية بعض الأقوام!

هو الاستعمار الجشع: سواء كان استعمار طبقة لطبقة أم قوم لقوم أم فرد لفرد. فهو الشيء الوحيد الكافر بروح هذا العصر والناشز في انسجامه والمشوه لوجهه!

ولو أحسنا الإدراك والتفريق بين الأفكار التي للعمل والأفكار التي للترف الذهني، وعرفنا كيف نقدم الاستفادة بأفكار العمل في الأمم الشارعة في النهوض على غيرها من الأفكار لأنها أساس حياة الاجتماع ووسيلة بعث الثقة في نفوس الأفراد وتأمين حياتهم وحل مشكلات (عيشهم) لوفرنا على أنفسنا أزمات وشدائد تثير في نفوسنا الشك في حديث المثل العليا وتوهي عوامل الثقة والطمأنينة إلى الحياة.

وأعنى بأفكار العمل الأفكار التي هي أمهات الأخلاق والعلوم والأعمال الصالحة، وهي الأفكار التي درَّجت الإنسانية ونقلتها من طفولتها وأقامت الحرمة والقداسة حول أصول حياتها، وهي تشمل أيضاً العلوم والمعارف الطبيعية التي تمهد الحياة المادية تمهيداً يسمح باستقرار العيش ورفاهته والإقبال على الحياة في ثقة بها واستمتاع بطيباتها

وهي أفكار يجب الحرص عليها دائماً في كل عصر لحفظ الاجتماع واحترام حرمات الإنسان والاستمساك بقيم الحق والخير في حياته، وهي أيضاً أفكار لا يجوز مطلقاً أن يعفى من العلم بها والعمل بمقتضاها أي فرد في الدولة، بل والمحيط الإنساني، لأنها (القاسم المشترك) في جميع النفوس، والميراث الواحد الذي انحدر إلينا جميعاً من تاريخ جهاد الإنسانية في سبيل الحق والكمال والألفة والوحدة.

فنحن لا يؤكل بعضنا بعضاً في الأسرة، ولا يجامل بعضنا بعضاً في القبيلة والأمة، ولا نتراحم بالمعنى الواسع في الإنسانية، ولا نسعى لترقيها وإسعادها بالعلوم والمعارف إلا تحت تأثير القديم العميق لمواريث هذه الأفكار العلمية التي هي في مبتدأ أمرها فيض من روح الخير في الطبيعة البشرية ومن هدى (الدين) الذي قاد هذا الطبع الخيّر في ظلمات التاريخ، حتى وصل الإنسان إلى عصر رشده وقدرته.

وقد يعتري نفوسنا بعض الانقباض والاستثقال لتلك الأفكار العلمية وما يتابعها من تكليف نظراً لما يلابسها من قيود ومضايقات تقيد حرية الطبع والهوى الذي لا يعرف إلا الانطلاق وإشباع الشهوات، ولكن هذه القيود نفسها لازمة لتحقيق حرية الطبع وحرية الفكر في حدود المعقول؛ لأن القيود التي تفرضها الجماعة في الواقع إنما هي لحفظ الحريات الفردية في حدود خاصة غير مختلطة، ولن تتحقق لأي فرد حريته الضرورية إذا أطلقنا لكل فرد حريته الطبيعية؛ لأن الحريات عندئذ تتصادم وتتنازع، ويتغلب قوىّ واحد يسلب الجميع حرياتهم ويستعبدهم، ويتمتع هو وحده بإشباع هواء الطليق الذي لا حدود له، ويترتب على هذه النتيجة السيئة جميع الحالات السيئة في حياة الاجتماع، والتي كانت طابع عصور الاستبداد والمظالم والجهالات والضياع في مجرى التاريخ.

أما أفكار (الترف الذهني) فمرتبتها بعد تلك، وخاصة في بدء النهضات كما قدمنا؛ ولكن مع الأسف قد ذهب كثير من رواد الفكر والإصلاح في مصر من عصر إسماعيل للآن إلى أن جلبوا لأمتهم الأزهار وتركوا الثمار، وفتنوا بالألوان والأضواء وتركوا جواهر الأشياء.

وكان إدراك (محمد علي) الكبير أصح من إدراكهم، وجهده أقرب إلى طبيعة الأشياء من جهدهم. إذ عنى ببناء أساس النهضة المصرية العمليةعلى الأفكار العلمية قبل أن يعنى بالترف الذهني. فأسرع الخطى بمصر، وبعث الثقة في نفوس أبنائها، والخوف في قلوب أعدائها.

وكذلك فعلت اليابان في بدء نهضتها؛ إذ كانت تكثر من إرسال البعوث إلى المصانع والمعامل الأوربية وتقلل من البعوث النظرية للآداب والفنون والفلسفات.

وكان من نتائج الاتجاه إلى الترف الذهني أن وجدنا في مصر الطبقة المثقفة الأولى طبقة أوربية أو أمريكية بالفكر والسلوك الظاهري وهم مصريون باللون والجنس والانتساب، وقد انفصلوا بأفكارهم وحياتهم عن أمتهم، وضاقوا بالمتخلفين منها ذرعا، ووجدت بينهم وبين السواد الأعظم هوة واسعة سحيقة، وحين يحاولون إصلاحها يكون أول ما يتوجهون إليه أن يجلبوا لها آخر ألوان الإصلاح والترف في الأمم العريقة في النهضة والرقي، قبل أن يقيموا أسباب الحياة الصالحة على قواعد بسيطة عريضة تتسع للشمول. فصاروا يهتمون بالقرى النموذجية، والمناظر الاستعراضية وفنون الحياة الأمريكية والأوربية، ويتحدثون عن أحدث ألوان الحياة ويتركون الحديث عن قراهم ودساكرهم التي كان سكانها من آثار الأزل السحيق والماضي الواغل في القدم!

وبديهي أن إصلاحا على هذا الأسلوب يكون كإلقاء قطعة من السكر في بحر من الملح!

وكل يوم يمر على أمة بدون أن تعلم ما استجد في العالم من الكشوف والمخترعات يجعلها أمة بائدة ضعيفة متخلفة وراء الأمم العالمة. . .

فما بالنا بالأمم الواقفة عند خطوات آبائها الأولين من آلاف السنين كالمستنقعات الآسنة التي تزيدها حرارة شمس كل يوم جديد عفونة!

عبد المنعم خلاف