مجلة الرسالة/العدد 693/علوم البلاغة في الجامعة

مجلة الرسالة/العدد 693/علوم البلاغة في الجامعة

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 10 - 1946



للأستاذ علي العماري

- 3 -

وماذا يقول الأستاذ في قول الله تعالى: (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم)؟ لقد ذكر أن تشبيه زرقة البنفسج بأوائل النار في أطراف الكبريت ليس شيئاً لأنه ينقلنا من جو الزهر والجمال إلى جو اللهب والاختناق، ولم ينظر إلى فنّية التشبيه، ولا إلى ندرته. فهل يقول في هذا التشبيه في الآية الكريمة إنه ليس شيئاً أيضاً؛ لأن القمر مسكنه في السماء والعرجون مسكنه في الأرض، والقمر من فصيلة الكواكب، والعرجون من فصيلة النبات، والقمر مثال العلو والهداية، والعرجون شيء تافه حقير لا تكاد تظهر له فائدة؟ وهل تخسر البلاغة القرآنية شيئاً إذا وقف الأمر عند حد تشبيه القمر حين يحتضر في آخر الشهر فيدق وينحني ويصفر بالعرجون المحول الذي دق وانحنى واصفر، ولا يلاحظ شيء وراء ذلك مما توجبه صورة العرجون وبيئته وتفاهته؟

لابد إذن أن نكون مع علماء البلاغة حين يرون أن القصد من التشبيه ليس فقط إثارة جو عام بين المشبه والمشبه به أو أنه منبع لمعان تتداعى يجب أن نتلمس آثارها في النفس، ويكفي أن نقول معهم إن التشبيه بالمحس المشاهد يحدث نوع اطمئنان، وأن السامع قبل أن تذكر له التشبيه قد يكون الكلام عنده غامضاً مضطرباً حتى إذا شبهت استقر القول في نفسه، وأنت قد تبالغ في القول ولا تدع مزيداً في الإسراف فلا يكون ما يكون حين تشبه بشيء مُحَسّ فتقول مثلاً: يوم بلغ في القصر نهايته، وليس وراء هذا القصر قصر، وما علمت يوماً أقصر منه، ولكن هذه العبارات مجتمعة لا تفيد ما يفيده قول الشاعر:

ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب

(سالفة الذباب: ناصية مقدم العنق).

وكما أن للتشبيه هذا الأثر فكذلك التمثيل، فحين يقول ابن الرومي:

وإذا امرؤ مدح امرءواً لنواله ... وأطال فيه فقد أطال هجاءه

تأخذ السامع موجة من الشك في صدق هذا المعنى، ولكنه حين يسمع قوله بعده:

لو لم يقدر فيه بُعد المستقى ... عند الورود لَما أطال رشاءه ويرى أنه شبهه بالبئر فيها الماء كلما كان أبعد احتاج أن يطيل المانح حبله. حينئذ تتبدد الشكوك من نفسه، ويذهب الاستغراب عن وعيه وحسه. وإنما سقت هذه الجملة من القول لأطيل التعجب من الأستاذ كيف ينكر على البيانين أن يجعلوا من أغراض التشبيه بيان إمكان المشبه أي بيان أن المشبه أمر ممكن الوجود، وذلك إذا كان أمراً غريباً يمكن أن ينازع فيه، فيعلق على قول المتنبي:

فان نفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال

بقوله: كلامهم في أن الغرض من هذا التشبيه بيان أن وجود المشبه ممكن: مرفوض؛ لأن الأديب لا يضع نفسه موضع المناقش، ولكنه يفرض نفسه على الناس، وكل ما هنالك أن الناس من طبيعتهم إنكار هذا الامتياز، والمعنى فيه شيء من الغرابة في أنه واحد منهم وفاق عليهم. فقال هذا لا غرابة فيه؛ لأن له نظائر وشواهد. اه.

وهذا كلام غريب جداً ووجه غرابته أمران:

أحدهما أنه ينفي الشيء ثم يثبته في وقت واحد وسطر واحد؛ فهو يرفض كلامهم بدعوى أن الشعراء قوم متغطرسون يفرضون أنفسهم على الأجيال وعلى الأذواق وعلى الطبائع، ولكنه يحس أن من طبائع الناس إنكار هذا الامتياز؛ فالشاعر يقول لا غرابة. ولا يقصد العلماء من إمكان ثبوت المشبه أكثر من أن المتكلم يأتي بقضية تقرب إلى الأذهان أن هذا جائز ما دام شبيهه واقعا. وربما كان من الخير أن نسمع للشيخ عبد القاهر الجرجاني يحدثنا في أسرار البلاغة عن هذا الغرض من التشبيه فقد يكون في كلامه مقنع. (فان قلت إن الأنس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر إنما يكون لزوال الريب في الأكثر، أتقول إن التمثيل إنما أنس به لأنه يصحح المذكور والصفة السابقة، ويثبت أن كونها جائز حتى لا يكون تمثيل إلا كذلك. فالجواب أن المعاني التي يجيء التمثيل في عقبها على ضربين: غريب بديع يمكن أن يخالف فيه ويدعي امتناعه نحو قوله: فان تفق. . . البيت، وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام إلى حد بطل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهة ومقاربة بل صار كأنه جنس برأسه، فإذا قال: (فإن المسك بعض دم الغزال) فقد احتج لدعواه وأبان أن لِما ادَّعاه أصلا في الوجود. والضرب الثاني ألا يكون المعنى الممثل غريباً يحتاج في دعوى كونه على الجملة إلى بينة. نظير ذلك أن ينفى عن فعل من الأفعال التي يفعلها الإنسان الفائدة ويدعى أنه لا يحصل منه على طائل ثم يمثل في ذلك بالقابض على الماء والراقم فيه، وليس بعجيب أن يخيب سعي الإنسان حتى يستشهد على إمكانه، وتقام البينة على صدق المدعي لوجدانه).

ولنخرج قليلاً عن مناقشة الآراء العلمية لنتحدث في شيء من البساطة عن دقة الشيخ في تعبيراته، والمعلوم لكل من يدرس كتب المتقدمين أنهم يدققون كل التدقيق في وضع الألفاظ، وهم في ذلك أشبه برجال القانون لا يدعون لفظة تؤدي غير معناها ولا فوق معناها، ولعلهم أفادوا كثيراً في هذه الناحية من دراسة المنطق، ولذلك نجد الشرائح وأصحاب الحواشي من المتأخرين عنوا عناية خاصة بنقد التعابير والألفاظ. والحق أن العلوم المقعدة في حاجة إلى هذه الدقة حتى تكون التصاريف والمصطلحات وافية بالغرض. عرض لي كل ذلك حين ابتدأت أقرأ مذكرات الأستاذ في علم البيان فما كدت أنتهي من السطرين الأولين حتى وجدت أغلاطاً أربعاً، وليست هي أغلاطاً لغوية ولا أغلاطاً نحوية حتى يمكن التسامح فيها، ولكنها أغلاط علمية لو فهمها الطلاب على ما هي عليه لفهموا حقائقها مغلوطة محرفة قال:

(هم يقولون إن بعض التعابير أوضح من بعض. فعلم البيان هو الذي يبين درجات هذا الوضوح. فالجملة تتكون من أجزاء سليمة وهذا ما يكفله علم النحو؛ صالحة للسكنى، وهذا ما يكفله علم المعاني. هذه الجملة ذاتها يمكن أن تعرض عرضاً متنوع الأنماط، وهذا ما يكفله علم البيان).

فأولاً - ليست وظيفة علم البيان البحث في درجات وضوح التعابير، وإنه لمن تنقص هذا العلم أن نقول إن مباحثه تقتصر على معرفة أن مهزول الفصل أوضح من كثير الرماد في الدلالة على الكرم، أو أن التشبيه والاستعارة مختلفان في وضوح الدلالة؛ ولكن هذا العلم له أبحاث كثيرة قد يكون البحث في وضوح الدلالة أقلها.

وثانياً - قوله: (الجملة تتكون من أجزاء سليمة، وهذا ما يكفله علم النحو). فالنحوي لا يبحث في سلامة المفردات وإنما يبحث هذا علم التصريف، ووظيفة النحوي سلامة التراكيب.

وثالثاً - كون الجملة صالحة للسكنى ليست وظيفة علم المعاني، ولكن صاحب المعاني يعنيه إذا أردنا أن نلجأ إلى التعبير بالمبنى أن يعرف هل هذا البناء مطابق للمواصفات التي وضعها المهندسون، أو غير مطابق، كما يعنيه أن يعرف هل هو ملائم للمكان والبيئة أو غير ملائم.

أما الغلطة الرابعة - فقوله: إن هذه الجملة يمكن أن تعرض عرضاً متنوع الأنماط. والذي يدقق في هذا الكلام يجده عليلاً؛ ذلك أن الجملة نفسها لا تعرض وإنما يعرض المعنى فإذا عبر شاعر عن طول الليل بقوله:

أضلَّ النهار المستنير طريقه ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح

وعبر الآخر بقوله:

حدثوني عن النهار حديثاً ... أوْصِفوه فقد نسيت النهارا

وعبر الثالث بقوله:

فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل

فهذه التعابير كلها ليست عرضاً لجملة واحدة، وإنما هي عرض لمعنى واحد.

ينكر الأستاذ على علماء البلاغة جعلهم أداة التشبيه ركناً، ويرى أن ذلك إغراق منهم في الماديات، ومتابعة مسرفة للتصوير العقلي أدى إلى نسيان الناحية الأدبية في التشبيه، وهي أن أفضل التشبيه ما يقوم على إيهام أن المشبه هو المشبه به، وهذا لا يكون إلا بحذف الأداة.

ولا معنى لهذا الكلام إلا أنه كلام فحسب، علماء البلاغة وضعوا لها ضوابط، ورأوا أن من أحكام هذه الضوابط أن تكون أداة التشبيه ركناً من أركانه لمّا رأوا أنها لا تنفك عن التشبيه مطلقاً، فهي إما مذكورة وإما مقدرة، والتشبيه البليغ لم يبن على نسيان الأداة أو إعدامها، وإنما بني على حذفها في اللفظ، وهذا الحذف اللفظي كاف في إيهام أن المشبه هو المشبه به.

وإذا كان التشبيه إلحاق أمر بأمر، وكانت اللغة وضعت أداة لهذا الإلحاق فلا يمكن أن يتخلى الإلحاق عن أداته مطلقاً ما دامت طبيعة اللغة تأبى هذا التخلي بل وطبيعة الناس كذلك. فأنت عندما تسمع كلمة تشبيه يتبادر إلى ذهنك أول ما يتبادر أن هناك أداة ألحقت شيئاً بشيء وشبهته به، والحمل لا يمكن إلا أن يكون كذلك. تقول محمد كريم فتحمل كريماً على محمد لأنه صفة، ولكنك إذا قلت محمد حاتم تريد تشبيهه به في الكرم لا يمكن إلا أن تلاحظ أن هنا أداة صححت الجمل، وإلا كنت حاملاً ذاتاً على ذات وطبيعة اللغة تأباه. وقد فطن علماء البيان لمكان الأداة في التشبيه، ورتبوا عليها أحكاماً هي في غاية الدقة والضبط؛ فرأوا أنه إذا لم يمكن تقديرها مطلقاً كان الكلام استعارة، وإذا أمكن بسهولة دار الأمر بين كون الكلام تشبيهاً أو استعارة، وهو ما يسمونه التشبيه البليغ. فإذا أمكن تقدير بعض الأدوات دون بعض كان إطلاق التشبيه على الكلام مقبولاً؛ فان غمض مكان الكاف وكأن بأن يوصف الاسم الذي فيه التشبيه بصفة لا تكون في ذلك الجنس وأمر خاص غريب كقوله:

شمس تألق والفراق غروبها ... عنا وبدر الصدود كسوفه

فهو أقرب إلى أن نسميه استعارة؛ فإنه قد غمض تقدير حرف التشبيه فيه إذ لا تصل إلى الكاف حتى تبطل بنية الكلام، وتبدل صورته. وقد يكون في الصفات التي تجيء في هذا النحو ما يختل به تقدير التشبيه فيقرب حينئذ من القبيل الذي تطلق عليه الاستعارة من بعض الوجوه كقوله:

أسد دم الأسد الهزبْر خضابه ... موت فريص الموت منه يرعد

لا سبيل لك إلى أن تقول هو كالأسد وهو كالموت لما يكون في ذلك من التناقض.

وأيا ما كان فلا معنى لأن ننكر شيئاً يقره المنطق والعقل واللغة والذوق. ولا أحب أن أختم قولي فيما كتبه الشيخ تعليقاً على بعض مباحث البيان حتى ألفت نظر القارئ إلى ما يلجأ إليه الأستاذ من تكلف الشطط في تأويل النصوص الأدبية وبيان مواضع البلاغة فيها. مثل يقول بشار بن برد:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

ويقول الأستاذ: (التركيب يفهم على أنه صورة ملونة. الغبار تكاثف حتى أظلم ووصل إلى السواد القاتم، وليس تشبيه مثار النقع بالليل لمحض القتام، وإنما ملحوظ فيه أيضاً الحيرة والظلام والخطورة والاضطراب وهذا ما يطلب في القتال بالسيوف؛ فإذا أضفنا إلى هذا الحالة النفسية لمن يقاتل بالسلاح الأبيض نجد أنه يعتقد أنه معرض للموت بشهاب ممزق، ولذا قال في السيوف ليل تهاوى كواكبه).

فهذا كلام يقوله من لا يحسب لعقول الناس حساباً فمن أين له أن بشار لاحظ في تشبيه الغبار بالليل الحيرة والظلال والخطورة؟! ومن أين له أنه لاحظ أن المقاتلة يتوهمون أنهم معرضون لشهاب ممزق؟! ومتى فكر القاتل في رجم السماء وهو مشغول عنها برجم الأرض؟

المسألة بسيطة جداً: يريد الشاعر أن يمثل جماعة يقاتلون وقد عقد الغبار فوق رؤوسهم ظلاماً كما يقول أبو الطيب:

نثرت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغي عنقاً عليه لأمكنا

ثم تصور سيوفاً بيضاً لوامع مستطيلة تعلو وتهبط وتجيء وتذهب، تتلاقى وتتداخل ويقع بعضها في بعض. فالتمس لذلك شبهاً فوجده في ليل مظلم تتساقط كواكبه، وما أظنه خطر على باله شيء ممّا يقول الأستاذ، ولكنها دعوى التجديد.

علي العماري

المدرس بمعهد القاهرة