مجلة الرسالة/العدد 693/عناصر الاستقلال. . .!

مجلة الرسالة/العدد 693/عناصر الاستقلال. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 10 - 1946



(مهداة إلى شباب العرب)

(لأستاذ فاضل)

ليست هناك فكرة جلية لدى الأمة وفريق من خاصتها، عن الاستقلال

الحقيقي؛ بل إنهم يفهمون من - الاستقلال - الاستقلال السياسي

فحسب! وقليلون أولئك الذين يفهمون الاستقلال على حقيقته، والعلة في

ذلك قلّة ما صدر حتى اليوم من الكتب التي تعالج القضية الوطنية،

على أنها محدودة الشمول، أو سطحية الخ.

والاستقلال بمفهومه العام يقوم على أركان ثلاثة أساسية، وفقدان أحدهما يُعدّ ثلماً في الاستقلال، إذ يؤثر على الآخرين. وإذا كنا لا نفيد كثيراً من المفاضلة بينها إلا أنه يهمنا أن نقرر أن كلاً من هذه الأركان خطير الأهمية.

وبعد، فما هي عناصر الاستقلال وأركانه التي يقوم عليها؟ هذه الأركان الثلاثة هي:

الاستقلال السياسي.

الاستقلال الاقتصادي.

الاستقلال الفكري.

ولا يعزب عن البال أن العرب حتى اليوم لم يعيروا الركنين الأخيرين ما يستأهلانه من العناية والاهتمام. ولعلّ مرد ذلك إلى أن الأجنبي هو الذي حال دون ذلك حتى اليوم.

كذلك لا يعزب عن البال ما للركن الثالث من أهمية (خاصة) لأن علاقتنا مع (أجنبي) جنى (ويجني) فوائد عظيمة من ثلم الاستقلال الفكري، بل هذا هو سلاحه الفتّاك، أعني (الدعاية) بمفهومها الواسع التي توفر عليه إراقة الدماء ومر العناء، مما لم يُثبت أجنبي غيره قدرته على الاستفادة من هذا السلاح. . .

ولما أصبح مفهوم الاستقلال السياسي وقضية الحرية من البدائه التي لا يختلف فيها اثنان فسوف نقصر كلامنا على الركنين الأخيرين، إجم أولا: ما هو الاستقلال الاقتصادي وأهميته وأثره؟

هو أن يكون للبلد زراعة ثم صناعة ثم تجارة مزدهرة، بحيث يكون ميزانه التجاري وميزانه الحسابي سليمين، فلا يعتمد في شيء من حاجاته على بلدٍ أجنبي ما لم ينتج ما يسدّ النقص. وعلى ضوء هذا التعريف البسيط الموجز نتساءل هل نحن مستقلون اقتصادياً؟؟ الحق أننا لم نجتز بعد الخطوة الأولى في مضمار التقدم الاقتصادي، وما نزال مستعبدين اقتصادياً، فكثير من المشاريع المنتجة العظيمة في بلاد العرب، تُستغلّ برؤوس أموال أجنبية ولا يصيبنا منها إلا نصيب الأيتام على مأدبة اللئام!

ولم تغب بعد من الأذهان والخواطر تلك الحالة الاقتصادية البائسة التي فرضت علينا طيلة الحرب العالمية الثانية، وما تزال، حيث تمكن الأجنبي من تحطيم كيان العرب الاقتصادي بين عشية وضحاها، فأحصى علينا حركاتنا وسكنانا، ووقعنا تحت رحمته إساري، وازدهرت الأندية والملاهي والخلاعة. . . وسهل عليه أن يستعمل جيشاً لجباً من رجالنا. . . كمرتزقة. . .!! الخ. . . الخ. . . الخ. . .

(وأبقى لنا جلداً رقيقاً وأعظما) أورثنا الطبلاوي أفندي هذا الحيوان الذي أتخيله وحشاً يخرّب ويدمّر. . . ويبتلع الأخضر واليابس. . . وأورثنا التضخم النقدي. . . وسرق الرغيف منا سراً وعلانية، وابتلع نتاج أرضنا من بترول ومعدن. . . وذهبت الدماء التي أريقت منا هباءً منثوراً. . . ولئن عادت تلك الظروف عدنا نحن والهنود وغيرهم. . . ندفع الثمن!!!

إذن ما نزال تحت رحمته، ولم نخط خطوات محسوسة في سبيل الاستقلال الاقتصادي، وهذا يعني - وهو حقيقة مرة - أن الوضع الحاضر المقيت سيمتد إلى أجل غير مسمى في بلاد العرب. . . وسيبقى الاستقلال السياسي - إذا أتممناه - عديم الفائدة.

ثانياً: ما هو الاستقلال الفكري وأهميته؟؟

هو ألا نجري وراء الآخرين بل نجاريهم في كل شيء!

هو ألا نصدق بكل ما يرد إلى بلادنا من أفكار ومذاهب وآراء على علاّتها.

هو ألا نشعر بأننا قاصرون، وأقل جدارة، وأحط أهلية من الآخرين. ففي مضمار السياسة والوطنية يجب أن نعمم الأفكار العربية الصحيحة، وأن تكون لنا فكرة أو عقيدة ثابتة لا نخرج عن حدودها.

وأن نميز بين الآراء الصحيحة والمغشوشة التي تُبث في وسطنا، فنفضح الموضوعة بقصد التمويه والتضليل. . . فكثير من المفتريات والأباطيل تلعب دوراً خطيراً في عقول عامة الناس وفريق من الخاصة.

ولنضرب مثلاً: لنفرض أنها حدثت ثورة في بلد عربي في وجه الطغيان. . . وقد حدثت فعلاً. . . وكانت النتيجة المعروفة. . . وذهبت الأمة في آرائها مذاهب شتى! لماذا؟ لأن الأجنبي سمم الأفكار وألبس الباطل بالحق. . . بأبواق دعايته المنظمة. . . ونجح أخيراً في تفريق الكلمة وصدع الشمل، وتشتيت الجماعة، ورد الكيد إلى النحر. . . وباتت الأمة تئن أحراراها. . . وتخبط في دياجير العمى جهلتها. . . وكانت الطامة الكبرى والعياذ بالله!.

وفي مضمار المعرفة: يجب أن يكون لنا منبع علمي عربي تنهل منه ناشئتنا، فلا نشعر بالنقص على الدوام، وبعقم عقليتنا.

وفي اللغة: (وهي الأمة. . . والأمة هي) كما يقول الحكماء لغتنا الخالدة يجب أن نؤمن بعبقريتها، ونفخر ونعتز.

ولابدّ من زيادة الإيضاح حول (الاستقلال الفكري) لكي ندلل على أهميته وأثره:

قضت البلاد العربية حيناً من الدهر طال وهي تتلقى صنوف المصائب من غفوة طبيعية في ظلام العهد العثماني. . إلى غفوة صنعية الكراهية في هذا العهد الأسود الأبيض المميت، حيث تتلقى كل يوم بل كل ساعة بل كل لحظة؛ ضربة صامتة في صميم الاستقلال والكرامة - يوجهها عبدة المادة وإخوان المطامع. لقد توطنت النفوس على الشعور بالنقص، وضعف الثقة بالذات مع مرور الزمن. . . وصرنا نسلك مسلكاً عجيباً، يندى له جبين التاريخ العربي. لنذكر كل أولئك لنعرف مدى حاجتنا إلى الاستقلال الفكري!

وصفوة القول: لا استقلال صحيح إلا بهذه الثلاثة.