مجلة الرسالة/العدد 695/الأدب في سير أعلامه:

مجلة الرسالة/العدد 695/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 10 - 1946



ملتن. . . .

(القيثارة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية والخيال. .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 30 -

البطل الضرير:

وكان ينتاب الشاعر الحزن على فقد بصره الحين بعد الحين وذلك كلما أحس الوحدة قاسية موحشة بعد فقد زوجته الثانية والظلمة محيطة به وبنياته لا يملكن لأبيهن ولا لأنفسهن عوناً ولا نفعاً، ولقد كان يتمهن وهن زغب الحواصل وأبوهن ضرير، لا يرى في وجوههن رضاءهن إذا رضين ولا ألمهن إذا ألمن، من أكبر بواعث حزنه وغمه. .

ولكنه كان يعتصم بالحكمة أن يهن أو يتخاذل عزمه أو يتزايل وقاره، وكان يلوذ بالشعر فيجد فيه ما ينشد من عزاء لروحه، بل لقد كان والظلام والغم يعتورانه يجد فيه الأنس ما يكاد يحس معه مثلما يحس الناس في الحياة لنفوسهم من بهجة؛ وبحسب المرء أن يذكر هذا، وأن يذكر كيف بلغ مع ذلك بقصيدته الكبرى مبلغاً تتقطع دونه الآمال، وقد توالت عليه ألوان غير هذه من الشدائد، ليرى مقدار أصالته في الشعر ومبلغ تعلقه بفنه ومدى إخلاصه له؛ والحق أنه إن كان ثمة رجل له مما حاق به أكبر المعذرة عن القعود عما نهض له فلن يكون هذا الرجل إلا ملتن، ومن لقي من الحياة مثلما لقي؛ ولكنه لم يقعد بل لم تزده المحن إلا صبراً وإقداماُ. فدل بذلك على أنه من الأفذاذ القلائل الذين تتضاءل الدنيا في نظرهم وتتحاقر تلقاء ما يسعون إلى بلوغه من نبيل الغايات. .

وضايقه يومئذ من ابني أخته أن سارا على نهج غير نهجه في الأدب والفن وسلكا سبيلاً غير سبيله، بل لقد كان ذلك يكربه أحياناً إذ يحس الفشل حتى في هذا، فلقد قام على تربيتهما بنفسه وتوجيههما الوجهة التي يريد، فلما كبرا كرها التزمت والمزيد من الجد والاحتشام، وبرما بالبيوريتانية الجافة التي تبدو لهما كالشجرة جردت من كل ثمرة وكل زينة وإن بقيت قوية الجذع والأغصان فما ترى العين من معاني الشجرة فيها إلا القوة والصرامة

وأقبل الفتيان يستمتعان بالحياة كما يستمتع الفتية في المدينة وكان الناس قد سئموا البيوريتانية في نزعتها الاجتماعية وضاقوا بالحياة خالية من المرح والزينة. فتهافت الشباب على الموسيقى والشعر، ورأت الحكومة ألا مناص من مماشاة هذه النزعة مخافة أن يؤدي التشدد في صدها إلى ازدياد الدعوة إلى إعادة الملكية؛ فسمحت بنشر بعض الكتب الخفيفة التي تطلب للتسلية واللهو أكثر مما تطلب للمنفعة؛ وكانت المسارح جميعاً مغلقة تحول الشرطة دون فتحها؛ ولكن واحداً استجد فسمحت الحكومة بأن يستمتع فيه الناس بالموسيقى، وبعض المسرحيات من النوع الغنائي، وأحس أهل لندن بشيء من المرح والأنس يدب في الحياة التي ألقت عليها قيود البيوريتانية كثيراً من الوحشة والجهامة.

وتطرف الفتيان في مسايرة النزعة الجديدة، وعلى الأخص أصغرهما جون فيلبس فقام على نشر كتاب احتوى على غير قليل من الاستهانة والمجون. ثم نشر كتاباً آخر جعل عنوانه: (سخرية من المنافقين) وهاجم فيه البيوريتانية هجوماً عنيفاً، وأما أكبر الأخوين فكان لا يزال يغلب عليه التحفظ والتحرج وإن شايع الاتجاه الجديد كما تجلى في كتابه: (أسرار الحب والفصاحة).

وفي أوائل شهر سبتمبر سنة 1658 قضى كرمول نحبه، وذهب بذهابه الرجل الذي طالما عقد ملتن عليه الرجاء؛ وحزن الشاعر للنبأ العظيم وازدادت من المستقبل مخاوفه، وإن كانت حماسته لكرمول قد مسها الفتور قبل مماته بسبب سياسته الدينية

ولسنا نعرف على وجه اليقين هل كانت ثمة صلة شخصية بين الرجلين؟ ولقد ذهب فريق من المؤرخين إلى أن مثل هذه الصلة كانت قائمة بينهما، ولكن لا يسوقون حادثة واحدة تؤيد زعمهم هذا وقصاراهم الاستنتاج والظن، فقد كان كرمول يحب النابهين ويحسن جزاءهم ويقربهم إليه فما يفوته أن يصطفي رجلاً مثل ملتن وضعته الحكومة في مثل ذلك المنصب الخطير، وما ينسى له نضاله عن الجمهورية وبلاءه في رد كيد الكائدين، ويحاول هؤلاء أن يجدوا في مقطوعته التي امتدح بها كرمول دليلاً على صلة شخصية بينهما. .

ولكن فريقاً آخر من رجال الأدب ينكر هذه الصلة، ويقولون إن رضاء كرمول عن ملتن لا يستلزم أن تكون له به معرفة شخصية، وما دامت تعوزنا الحوادث المعينة التي تثبت ذلك فلا قيمة للظن والاستنتاج والاعتماد على قرائن واهية، فما كل من ينظم مقطوعة أو قصيدة لملك أو حاكم يكون ذا صلة بذلك الملك أو ذلك الحاكم، وأنا أميل إلى هذا الرأي وأزيد عليه أن ملتن رجل ذو كبرياء، وقد عرف عنه أنه كان قليل الصلة برجال الحكومة أنفة منه وتعففاً أن يقال به حاجة إلى أحد، كما أنه كان شديد الاعتداد بنفسه والحرص على كرامته، فلم يك لذلك حديث مجالس ولا كان ممن يحسنون فن التقرب والتودد الذي هو في حقيقة الأمر ضرب من الملق وإن تعارف أهله على تسميته بالكياسة أو اللباقة، ولذلك لم يتقرب ملتن ولم يتودد وأن كان في دفاعه عن الحكومة بكتبه شديد التحمس فياض الثناء؛ ولم يك تحمسه وثناؤه إلا شعوراً وطنياً من ناحية وأمراً يقتضيه الدفاع والمغالبة من ناحية أخرى. وكان ملتن شاعراً ولم يك للشعراء عند رجال الحكومة من البيورتانز ما ينبغي أن يكون لهم من رفيع المنزلة إن لم يضعهم الشعر في موضع الكراهية لهم والاستخفاف بأمرهم، هذا إلى أنه كانت للرجل آراء في الطلاق وفي الدين عده الناس فيها مسرفاً أو به جنُّة، وكان يحس ملتن كثيراً من الفتور والبرود عند من تضطره الظروف إلى لقائهم من كبار رجال الدولة، وهو رجل في أنفه ورم وفي نفسه أشد من الكبر على كل ذي كبر، ولذلك تجافى هؤلاء الكبراء، ومن كان هذا شانه معهم كانوا خليقين أن يصرفوا بحيلهم نظر كرمول عنه إن أتجه إليه أن لم يعملوا على الكيد له والوقيعة له، أما هو فلم يسع من جانبه إلى التقرب أو تودد؛ قال ملتن يرد على رجل التمس وساطة في أمر (يؤسفني أنني غير قادر على أن أفعل ذلك، فإن معرفتي ضئيلة بأولئك الذين في أيديهم القوة تناسب في ضآلتها حرصي على أن ألزم بيتي في الأكثر، وأني لأوثر أن ألزمه).

وظل ملتن بعد موت كرمول في منصبه يعينه فيه مساعد، ولكنه كما قلنا كان فيما يشبه العزلة فقلما شغله من ناحية منصبه عمل وإنه ليطيب بذلك نفساً لأنه يستطيع أن ينصرف اليوم إلى بغية شبابه ويعكف على تحقيق ذلك الحلم الذي أنشغل عنه دهراً طويلاً. . .

ومن عجيب أمره أن همه يومئذ لم يك منصرفاً إلى الشعر وحده على شدة ولوعه به وتحرقه إليه؛ بل لقد كتب باللاتينية رسالة طويلة في العقائد المسيحية ضمنها آراءه في الله وفي غرضه من خلق الناس وفي أصل الوجود وفي الحياة والموت وفي خطيئة آدم وخروجه من الجنة، وفي علاقة المرأة بالرجل ومنزلتها في المجتمع وفي السياسة والدولة والحرية. وفي مسائل القضاء والقدر وما يتصل بها. .

ولكن كتابه هذا لم يعثر عليه إلا سنة 1823 أي بعد قرابة قرن ونصف من وفاته، وقد عثر عليه مصادفة ضمن إضبارة من الورق كانت تحتوي كذلك على صور مراسلاته اللاتينية الرسمية التي كتبها وهو في منصبه؛ وليس يعرف على وجه اليقين متى بدأ كتابة هذه الرسالة، وأكبر ظن المؤرخين أنه كتبها ما بين سنتي 1655 - 1660، وكذلك لم يعرف غرضه من كتابتها؛ ويرى النقاد من تقسيمها وتبويبها أنه يقصد بها أن تكون رسالة يدرسها الناشئون. ويقرؤها غيرهم من المثقفين ويرى آخرون أنه ضمنها خلاصة فلسفته لتكون مرشداً وهادياً لمن يقرأ قصيدته الكبرى فأكثر آرائه في القصيدة يتمشى مع ما ذكر في رسالته اللاتينية، وكلا العملين الفني منهما وغير الفني يلقي من الضوء على الآخر وما يكشف عن دقائقه ويوضح كثيراً من أسراره، ولعل هذا هو غرضه الحقيقي من كتابة هذه الرسالة، ولذلك نميل إلى أن نرجئ الكلام عنها حتى يأتي ذلك عند دراسة فلسفته في قصيدته الكبرى، ونكتفي الآن بأن نذكر أن ملتن اعتمد على الكتاب المقدس فيما أورد من آراء كما ذكر ذلك، ولكنه لم يتقيد بأقوال المؤولين والمفسرين قبله، بل اعتمد على تأويله هو تفسيره. فأتى بكثير من الآراء التي لا يتفق معه أحد فيها؛ ويعنينا ذكر هذا لأنه يدل على ناحية من نواحي شخصيته وهي حرية فكره ورغبته في التخلص من كل قيد، ولقد تجلت هذه النزعة فيه من قبل أيام كان يجادل القساوسة وأيام كان يدافع عن الطلاق. .

وما كان يظن أحد ممن حوله أنه سوف ينصرف عما أقبل عليه من شعر ومن دراسة؛ ولكنه ما لبث أن أنصرف عنهما سنة 1659 وعاد إلى كتيباته! ففي أوائل تلك السنة قدم للبرلمان رسالة عنوانها: (حول السلطة المدنية في الأمور الدينية لبيان أنه ليس من المشروع لأية قوة على الأرض أن تتبع الإكراه في مسائل الدين)؛ وأخذ يدافع عن الحرية الدينية ويعلن أشد سخطه على الاضطهاد الديني وإكراه الناس على غير ما يعتقدون، ولم يقتصر سخطه على غير البروتستنت، بل شمل البروتستنت كذلك، لأنه يمقت الاضطهاد والقهر أياً كان مصدره؛ ومعنى ذلك أنه يجب أن يقبل أن تتاح الحرية للكاثوليك، وإلا فكيف يحل لنفسه ما يحرم على غيره ويدعي مع ذلك أنه طالب حرية؟ ولكنه يناقض نفسه في هذا الأمر فيحاول أن يفلت من التناقض فيأتي برأي عجيب عن الكاثوليكية، فهي ليست ديناً، ولكنها بقية باقية من حكومة روما، وعلى ذلك فلا تسامح معها في انجلترة خوفاً على سلامة الدولة، فما يضطهد الكاثوليك لمذهبهم، وما عوقبوا من قبل لإلحاد أو زبغ ولكن لخيانة؛ ومهما يقل ملتن فلن يستطيع أن ينفي عن نفسه ما يكرهه من غيره من اضطهاد وإكراه؛ وألح ملتن في هذه الرسالة في مطالبة البرلمان بما طالب به كرمول من قبل، وهو ألا تكون هناك كنيسة للدولة.

ونشر في أغسطس من السنة نفسها كتيباً عنوانه (نظرات في أمثل الطرق لطرد المأجورين من الكنيسة). وعنده أن أمثل هذه الطرق أن تتخلص الدولة من هؤلاء القساوسة جملة؛ فإطعام هؤلاء يمكن أن يوكل إلى من يقومون على رعايتهم وهديهم؛ وفي استطاعة القساوسة أن يجدوا لأنفسهم عملاً آخر وذلك خير لهم؛ وفي رأيه أنه ليس ثمة ضرورة لهؤلاء القساوسة، وأن المال الذي يعطي للكنيسة يمكن إنفاقه في أوجه كثيرة هي خير مما ينفق فيه، كأن تبني مدارس وتنشأ مكتبات تلحق بهاتيك المدارس، حيث يتعلم الناس اللغات والفنون بغير أجر تعليماً شعبياً لا يعوقهم عن مزاولة أي عمل يكسبون منه أقواتهم فتستنير بصائرهم ويرتفع مستواهم الثقافي فتنتشر المدينة في أنحاء الدولة.

وينبغي ألا يذهب رجال الدين إلى الجامعات، فما يتركون فيها إلا أسوأ الآثار، فهم كطلاب يكونون في الأكثر ضيقي الأفق أغبياء وليسوا أحسن حالاً وهم رجال، وخلاصة القول أنه يجب أن تتخلص المسيحية من هؤلاء المأجورين لتتحقق لها السعادة، فإن إفساد الدين على يد السلطة الزمنية يكون بإحدى وسيلتين القوة أو المال، وإفساده بالمال أشد من إفساده بالقوة، لأن القوة ممثلة في الاضطهاد قد تؤدي إلى ازدياد الاستمساك بالدين، ومن ثم تمتد جذوره وتسمق فروعه؛ أما المال فبه تشتري الضمائر وبه تستأجر الضعاف والجهلاء من المرشدين والقائمين على أمر الدين، ومن هنا يكون التدهور والفساد الحق

ولم يعد ملتن بطائل من وراء هاتين الصيحتين، فقد كان البرلمان في شغل بما هو أخطر من المسائل الدينية، فقد أخذت تصطرع الأهواء في عهد ريتشارد حامي الجمهورية الثاني، وتزايدت الدعوة إلى إعادة الملكية، وقل أنصار الجمهورية في البرلمان، وعاد إلى البرسبتيرينز شيء من قوتهم فرغبوا في الثأر من المستقلين وتفرق الناس على هذه الصورة شيعاً وأحزاباً، فلا غلبة إلا لمن يثبت أنه أقوى جنداً أو أكثر نفراً وكان يدرك ملتن أنه كمن يصرخ في واد قفر من أهله فلا سميع ولا مجيب ولا صدى لصوته؛ ولكنه على الرغم من ذلك - كما يقول - مطمئن إلى أنه يفعل ما يجب عليه فعله وأن يفعله في وقته لا يبتغي إلا الخير لدينه ولوطنه

إن المرء ليمتلكه العجب من إصراره على هذا النحو ودأبه على محاربة رجال الدين، لا يدع فرصة ولا يدركه سأم؛ فها هو ذا يرسل عليهم سهامه في عهد ريتشارد مؤملاً أن يجد عنده من القبول ما لم يجده عند أبيه، ويميل بعض من كتبوا حياة ملتن إلى رد هذه الصرامة إلى حنقه عليهم وعلى الأخص البرسبتيرنز لما نال من أذى على أيديهم ولأنهم أعلنوا طرده من الكنيسة، ويرى غير هؤلاء أن مرد قسوته عليهم إلى عقيدة في نفسه لا يتحول عنها وهي أن تسلط رجال الدين مهما يكن مذهبهم على شؤون الدولة هو سبب كل طغيان وكل خنق للحرية، ولما كان يكره الاستبداد من أعماق قلبه بقدر ما يحب الحرية فقد انصبت كراهيته على هؤلاء الذين يرى فيهم رمز العناد الغبي، والتسلط الأحمق، وزاده إيذاؤهم إياه يقيناً بأنهم أصل كل شر، وسبب كل رجعية لأنهم خاصموه من أجل مبادئه في الزواج والطلاق، وهو لم يرد بهذه المبادئ إلا الخير للإنسانية جميعاً، وما ساوره شك في أن ما دعا إليه إنما هو الحق.

(يتبع)

الخفيف