مجلة الرسالة/العدد 695/حول بيت لأبي نواس. . .!

مجلة الرسالة/العدد 695/حول بيت لأبي نواس. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 10 - 1946



للأستاذ عباس حسان خضر

مات أبن الحجاج وأخوه في يوم واحد، وكان اسم كل منهما محمداً، فقال: (يا الله! محمد ومحمد في يوم!) فكرر محمداً، ولو قال: (محمدان في يوم) لما أدى المعنى الذي أداه التكرار، فأحد المحمدين أبنه والآخر أخوه، وهو بالتكرار يفصل الفاجعة فيهما، وما تقوم التثنية بنقل هذا الشعور إلى السامع، أو قل ما شئت في التعليل، ولا أشك في أننا متفقون على حسن التكرار هنا، وأن التثنية لا تغني شيئاً.

وقال أبو نؤاس:

ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديدُ ودارسُ

مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جنىّ ويابس

حبست بها صحبي فجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس

ولم أدر من هم غير ما شهدتْ به ... بشرقيّ ساباط الديار البسابس

أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً ... ويوماً له يوم الترحل خامس

أفترى التكرار في البيت الأخير حسناً كذاك، أم تراه معيباً لا غناء فيه؟

وقع نظري في كتاب (البلاغة الواضحة) لمؤلفيه الأستاذين علي الجارم بك ومصطفى أمين بك على هذا البيت (أقمنا بها. الخ) مسبوقاً بهذه العبارة: (بيّن ما تراه في الأبيات الآتية من العيوب البلاغية) ومتلوَّا بأبيات أخرى. تأملت هذا البيت المتهم بالعيوب البلاغية وهو ماثل في قفص التمرينات المطلوب حلها. . فلم أر به ما يريب، ثم رجعت إلى نفسي وكدت أتهم عقلي بالقصور، وتخيلت أني طالب ألقي إليه بهذا لسؤال في الامتحان، فهالني الصفر الأحمر يسقط عليّ من قلم الممتحن المهيب. . ثم لمحت رقماً بين قوسين على آخر البيت، فتبعته إلى الهامش حيث وجدت به: (يريد انهم أقاموا ثمانية أيام، عد منها ثلاثة في الشطر الأول، ثم أضاف إليها خمسة في الشطر الثاني، لأنه يقول إننا أقمنا بعد ثلاثة الأيام الأولى يوماً له يوم الرحيل خامس أي خمسة أيام أخرى) فذهب عني الفزع وقلت: وهذه مسألة أخرى أرى الخطأ فيها ظاهراً، مما يطمعني في تبرئة البيت مما يراد لصقه به من العيوب البلاغية ويلحق بهذا الكتاب القيم - رغم ما نحن بصدده - كتاب أسمه (دليل البلاغة الواضحة) لنفس المؤلفين، يشتمل على حل التمرينات التي تضمنها كتاب (البلاغة الواضحة). فلا بد أن يكون به بيان (العيوب البلاغية) الموجهة إلى بيت أبي نؤاس، وهناك رأيت (في هذا البيت تكرار غير مفيد، فإن أبا نؤاس يريد أن يقول إننا أقمنا بها ثلاثة أيام، فكرر كلمة (يوماً) تكراراً معيباً لا غرض فيه، ولا قصد منه، والتكرار إذا لم يورث اللفظ حلاوة، ولم يكسب المعنى طلاوة كان ضرباً من السخف والعيّ، والعجب لأبي نؤاس يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش مع أبيات عجيبة الحسن تتقدم هذا البيت).

ووجدت بالهامش تعليقاً على ثمانية الأيام ما يلي: (في المثل السائر أن أبا نؤاس يريد أن يقول إنهم أقاموا بها أربعة أيام).

وفي كتاب (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) قال مؤلفه الشيخ ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن محمد بن محمد أبن عبد الكريم الموصلي الشافعي في باب التكرير: (وعلى هذا الأسلوب (يشير إلى ما سماه التكرير في اللفظ والمعنى غير المفيد) ورد في قول أبي نؤاس:

أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً ... ويوماً له يوم الترحل خامس

ومراده من ذلك انهم أقاموا بها أربعة أيام، ويا عجباً له يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش في ضمن تلك الأبيات العجيبة الحسن التي تقدم ذكرها في باب الإيجاز وهي: ودار ندامى عطلوا وأدلجوا. . .).

ولقد وددت لو وافق صاحبا (البلاغة الواضحة) مؤلف (المثل السائر) في عدد أيام الإقامة بدار الندامى، وخالفاه في تهجين البيت، ورميه بالسخف والعي. . ولكنهما عكسا، فعارضاه في الأولى، وأخذا بالثانية، وإن كان أدق منهما في عجبه من وقوع هذا البيت في ضمن أبيات عجيبة الحسن وعجبهما من وقوعه بعد أبيات عجيبة الحسن، لأن الأبيات التالية له لا تقل حسناً إن لم تزد عن التي تتقدمه، وها هي ذي:

تدور علينا الكأس في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس

قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريه بالقسيّ الفوارس

فللخمر ما زرت عليه جيوبهم ... وللماء ما دارت عليه القلانس قال الجاحظ: نظرنا في شعر القدماء والمحدثين، فوجدنا المعاني نقلت، ورأينا بعضنا يسرق من بعض إلا قول عنترة: (وخلا الذباب بها فليس ببارح) وقول أبي نؤاس: (قرارتها كسرى. . الخ).

وأرجع إلى جادة البحث فأقول: إنني أخالف مؤلف المثل السائر وصاحبي البلاغة الواضحة في الزراية على بيت أبي نؤاس ورميه بالتكرار المعيب، وأخالف الأخيرين في أن أبا نؤاس وصحبه أقاموا بدار الندامى ثمانية أيام؛ وأقدم الكلام على المسألة الثانية لأفرغ للأولى.

الشطر الأول: (أقمنا بها يوماً ويوماً ثالثاً) يدل على ثلاثة أيام قطعاً، أما الشطر الثاني (ويوماً له يوم الترحل خامس) فيقول صاحبا البلاغة الواضحة إنه يدل على خمسة أيام أخرى، وإني لأعجب كيف يقولان ذلك وهما معدودان في الصف الأول من رجال اللغة العربية في هذا العصر، وهل يستقيم في العربية أن تقول - على رسم ذلك -: أقمت يوماً في الإسكندرية له يوم السفر خامس؟! إنهما يعلمان أن صيغة (فاعل) من العدد لا تكون في مثل هذا الاستعمال إلا مصيره ما تحتها بدرجة واحدة مساوياً للعدد الذي اشتقت منه، أو دالة على بعض العدد الذي اشتقت منه، فيقال خامس أربعة وخامس خمسة، ولا يقال خامس واحد أو اثنين أو ثلاثة. وعلى أن هذا لا يدل قوله (ويوماً له يوم الترحل خامس) إلا على أن هذا اليوم هو الرابع ويوم الرحيل خامسه؛ فالبيت يدل على أنهم أقاموا أربعة أيام وسافروا في اليوم الخامس.

أما الحملة العنيفة التي حملها الشيخ ضياء الدين على التكرار الوارد في بيت أبي نؤاس وتابعه فيها صاحبا البلاغة الواضحة، إذ عّدوه تكراراً معيباً سخيفاً، وعجبوا من الإتيان به في ضمن أبيات عجيبة الحسن - فإني أرد هذه الحملة عن البيت، وأريح العاجبين من عجبهم الذي لا محل له، لأن البيت نفسه عجيب كالحسن كأخوته، وما كان لأبي نؤاس - وهو أبو نؤاس وقد واتاه الإبداع في سائر الأبيات - أن يسف هذا الإسفاف بحيث يكون كل ما يريد أن يؤديه بهذا البيت أنهم أقاموا بالدار أربعة أيام أو ثمانية ويرتكب لتأدية هذا المعنى التافه ذلك التكرار الذي لا غرض فيه ولا قصد منه!

إنما يقول أبو نؤاس إن هذه الدار التي غادرها أهلها مخلفين بها آثاراً تدل على ما كان لهم بها من لذات الشراب وطيب العيش عرجنا عليها لنجدد عهد الراحلين عنها، فأقمنا بها يوماً كان العزم أن نرحل بعده، ولكن طابت لنا الإقامة فمكثنا يوماً آخر، وحلا لنا التمادي في التمتع بلذة الشراب بهذا المكان فتلبثنا يوماً ثالثاً، واستمرأنا الإقامة على هذه الحال فتراخينا يوماً رابعاً، وفي اليوم الخامس اضطررنا إلى الرحيل.

فهل كان يمكن أن يؤدي هذا الشعور بغير ذلك التكرير! وأن العائبين عليه ليريدون أن يقيموا من البيت جداراً مسموكاً لا تنفذ منه أشعة ذلك الإحساس المعهود في الحالات التي تستطيبها النفس وتتمنى دوامها. وأي تكرار يورث اللفظ حلاوة، ويكسب المعنى طلاوة إن لم يكن هو هذا التكرار. .؟

ولقد أتى أبو نؤاس بنوع آخر من التكرار إذ قال في وصف صاحبته جنان:

والحسن في كل عضو ... منها معاد مردَّد

فليس هذا التكرار في اللفظ ولا في المعنى، بل المكرر الجمال يرى معاداً مردداً في كل عضو من أعضائها، وهذا التكرار ليس كمثله إلا (تكرير) السكر. . .

ويجرنا حديث التكرار إلى بعض المفارقات العجيبة في هذا الباب، فبينما تجد نسقاً منه لم يدفع إليه إلا العي والحمق، إذا أنت ترى ما يشبه هذا النسق مقبولاً مستساغاً قال الجاحظ في باب العي من (البيان والتبيين):

(وتزعم بنو تميم أن صبرة بن تيمان قال في حرب مسعود والأحنف: إن جاء حتات جئت، وإن جاء الأحنف جئت، وإن جاء جارية جئت، وإن جاءوا جئنا، وإن لم يجيئوا لم نجئ!)

وأنت تعرف التكرير الذي أحلولي به أسلوب الدكتور طه حسين بك، والعجيب أن نحواً منه يشبه الكلام المعزو إلى صبرة بن تيمان. وهناك أمثلة من مقال له عن كتاب (نابليون) تأليف إميل لودفيج في مجلة الكاتب المصري الصادرة في أول أكتوبر الحالي:

(ولست من المعجبين بإميل لودفيج وفنه إعجاباً شديداً. ومصدر هذا في أكبر الظن أني لم أقراه في نصه الألماني، ومصدر هذا في أكبر الظن كذلك أن بين خياله الألماني البعيد وتفكيره الألماني الملتوي وبين خيالي القاصر وعقل العربي الذي يواجه الأشياء أكثر مما يدور حولها، أمداً بعيداً، ومصدر هذا في أكبر الظن كذلك أني حاولت أول ما حاولت أن أعرف لودفيج عن طريق كتابه عن حياة المسيح، ومن طريق كتابه عن حياة جوت، فلم أستطيع أن أمضي في الكتابين إلا قليلاً، ومصدر هذا آخر الأمر أني لقيت لودفيج في القاهرة حين زار مصر مهنئاً لإنشاء كتابه عن النيل، فلم أحمد لقاءه ولم يحمد لقائي)، وفي نفس المقال: (يظهرنا لودفيج على هذا كله وعلى أكثر جداً من هذا كله، في هذا الكتاب الذي لم يخلص للتاريخ ولم يخلص للقصص، وإنما كان مزاجاً منهما).

على أن بعض الناس لا يرتضون هذا التكرار الذي تشتمل عليه كتابة الدكتور طه حسين بك، وغيرهم يعجبون به، ويعدونه حلواً طلياً.

عباس حسان خضر