مجلة الرسالة/العدد 695/خاتمة فلسفية. . .!

مجلة الرسالة/العدد 695/خاتمة فلسفية. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 10 - 1946



للدكتور أحمد فؤاد الأهواني

تلك هي الخاتمة التي انتهى الأستاذ عباس محمود العقاد.

ولم تكن هذه الخاتمة غريبة على هذا الكاتب الذي بدأ حياته أديباً، ناقداً، شاعراً، وكل شيء إلا الفلسفة. فقد يبدو للقارئ العادي أن معالجته الفلسفة الحقيقة مما يتنافى مع مظاهر كتاباته وكتبه، ومطالعاته في الكتب والفنون، غير أن الناظر في أعماق آثاره القلمية، أو القارئ ما وراء السطور، يلمح ولا ريب فكراً نافذاً عميقاً يتخطى الظواهر القريبة المألوفة، ويذهب إلى الأصول الأولى والغايات البعيدة. وتلك هي النظرة الفلسفية، رد الكثير إلى الواحد، والبحث عن العلة الأولى والغاية النهائية.

ولهذا السبب كان جمهور القراء يجدون مشقة في فهم آرائه، لأنه لا يحفل بالتوافه ويمضي إلى الأعماق، ولأنه كاتب لا ينزل إلى الجماهير بل يأخذ بأيديهم إلى مستواه.

وكتاب (في بيتي) الذي صدر في سلسلة (أقرأ) ينبئ عن هذه الخاتمة الفلسفية، ولو أن صاحب الكتاب تجنب الإعلان في العنوان.

أما كتاب الشيخ الرئيس أبن سينا، الذي صدر بعد ذلك بعام، فقد أسفر وأبان، وكشف فيه العقاد عن حقيقة نزعاته الفكرية، واتجاهاته العقلية.

غير أن نزعة الأدب التي ألتزمها خلال سنوات طويلة من حياته لم يتخل عنها، فهي منه بمنزلة الطبيعة. وبتعبير فلسفي: أصبحت (مادة) فكره فلسفية، و (صورة) فكره أدبية. وأعني بالصورة الأدبية أنه ينحو منحى ذاتياً شخصياً في التعبير، في مقابل النزعة العلمية التي عبر فيها صاحبها تعبيراً موضوعياً. لا تحس فيه بالتأثيرات الشخصية.

أو هكذا أفهم الأدب، ولعل فريق الأدباء يفهمون منه شيئاً آخر.

وقد تسأل نفسك: ما المادة وما الصورة، هذان الاصطلاحان اللذان وضعتهما بين أقواس؟.

ليس غريباً على من درس الفلسفة أن يعرفهما، فهما خلاصة مذهب أرسطو في الفلسفة، حين يقول: إن كل جسم طبيعي مركب من هيولي أو مادة، وصورة. ولا مادة بغير صورة كالتمثال مادته النحاس، وصورته هيئته التي هو عليها. ولست تجد نحاساً بغير صورة، مهما تكن لقد تعرض العقاد، حين تحدث عن فلسفة أبن سينا، لأفلاطون وأرسطو، وأفلوطين، والكندي والفارابي، بل وصل إلى فلسفة العصر الأخير الذي نعيش فيه، فكأنه اتخذ من الشيخ الرئيس محوراً تدور حوله الآراء من الماضي البعيد إلى الحاضر القريب.

وهو منهج سليم، لأن الفلسفة هي تاريخ الفلسفة.

وقد رأى أن يصنف المشكلات الفلسفية التي سوف يعالجها حتى يمضي في ترتيب ووضوح، فلخصها في مسائل أربع: وجود العالم، وجود النفس، وجود الشر، حرية الإنسان، ثم نظر إلى حلول الفلاسفة القدماء لهذه المشكلات العسيرة الحل، وأثبت رأي أبن سينا فيها، وهي على كل حال مشكلات لا تزال قائمة، تعالجها الفلسفة، وأكبر الظن أن الآراء سوف تظل متضاربة في شأنها، لأنها تفوق نطاق العقل وحدوده، على الرغم من تقريب العلم الحديث لبعض تفصيلاتها.

وإذا أردت أن تعلم رأي العقاد الشخصي في هذه المشكلات فاقرأ تعقيبه في آخر الكتاب، فهو يذهب إلى أن المادة والعقل شيء واحد. فيضع بذلك حداً حاسماً للمشكلة التي أثارها الأقدمون مشكلة الثنائية في الموجودات، أو الفلسفة المادية والفلسفة الإلهية، كما يقول العقاد في تقسيمه لمشكلات الفلسفة، وبين المادية والروحية كما يذهب إلى ذلك بعض المفكرين.

وفي ذلك يقول ما نصه في آخر الكتاب (فصورة المادة في أذهاننا باطلة. فكيف نعلم ما ي} ثر فيها وما لا يؤثر فيها على وجه التحقيق؟

(والذي يثبت في روعنا أن الكائنات خلق واحد يدور حول (الوحدانية)، ولا فرق بينهما غير الفرق بين التعميم والتخصيص.

(فالتعميم مظهر المادة، والتخصيص مظهر العقل والحياة.

(فالمادة في أبسط صورها شعاع (عام) لا فرق فيه بين مكان ومكان من الفضاء).

ولقد ميز ديكارت من قبل بين المادة والفكر، وجعل في العالم ثنائية يصعب الجمع بينهما بعد ذلك. غير أن اسبينوزا بالذانت وهو من المدرسة الديكارتية، اضطر للتوفيق بينهما إلى القول بوجود ما يسميه الامتداد العقلي

مهما يكن من شيء فإن اهتداء العلم الحديث إلى أصل المادة وأنها ذرة أو جزء لا يتجزأ، وأن هذه الذرة هي في النهاية إشعاع أو طاقة، كل ذلك لا يحل مشكلة المادة والعقل، لأن العقل ليس إشعاعاً. . من يدري لعله كذلك ولكننا لا نستطيع أن نجزم بشيء.

والعبر التي نأخذها من كتاب العقاد كثيرة، منها أن اتجاه مفكرينا وجهة فلسفية دليل على الرقي العقلي، والسمو إلى عالم المعاني، ومنها أن استساغة الجمهور لهذا النوع من التأليف، بل إقباله عليه. دليل على رقي الجمهور بل على انتقاله من طفولة الفكر إلى شبابه.

والخاتمة الفلسفية هي نهاية التقدم.

أحمد فؤاد الأهواني