مجلة الرسالة/العدد 695/زورق الأحلام. . .

مجلة الرسالة/العدد 695/زورق الأحلام. . .

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 10 - 1946



للأستاذ عبد المنعم خلاف

هذه السفينة الجوية الجبارة التي طارت في أربعين ساعة من هونولولو إلى القاهرة في مرحلة واحدة، مصعدة إلى جزر ألوشيان وشبه جزيرة ألاسكا ومنطقة القطب الشمالي، ثم حادرة إلى جزر جرينلند وأيسلند والجزر البريطانية والقارة الأوربية والبحر المتوسط، مخترقة أجواء مختلفة ومناطق متضادة، حاملة عشرة رجال من طلائع الإنسانية الحديثة. . إنها زورق أحلام حقاً تطير به الإنسانية كلها من أمسها إلى غدها في غزوة من غزواتها للطبيعة

أجل، ليس الذين طارت بهم عشرة وحسب، وإنما هم الإنسانية كلها عبرت حاجزاً، وكسرت قيداً، وتخطت عقبات، وكشفت مجهولاً، وأدخلته في رحاب المعلوم، وصححت أخطاء، ومهدت طريقاً لنفسها في سعيها الحثيث نحو صوب مجهول. . .

وإنه لزورق أحلام حقاً عاشت به الإنسانية الواعية الراصدة في حلم سعيد ما لبث معبر الزمان أن أوله وعبره مع فلق صباح جميل على أرض النيل. . .

وقد أحسست قلبي يرافق هؤلاء العشرة حين علم بانطلاق ذلك الزورق من قيود الأرض هناك في هونولولو، فأن فيهم سر نوعه الذي توثق به وآمن بمستقبله ودعا إلى ذلك. . .

وإنها للحظة فرح عميق سجلت على لوح الأرض حين بلغ هذا الزورق مرساه في غزوة من غزوات الإنسان لحصون الزمان والمكان. . .

ولو قيل للناس: إن ملكاً أو جناً سيطير إليكم من هونولولو إلى النيل لخرجوا إليه في يوم مشهود مجموع له ليزودوا فضولهم ونهمهم بحديث متاع لا يزالون يجترونه ويذيعون سيرته مدى أعمارهم. . . ولكن الذين طاروا كانوا عشرة من الناس ذوي الوجوه المألوفة والأجسام المحدودة المعروفة، ولذلك قل من أبه لهم من هذا الجنس الذي لا يزال ذاهلاً عن قيمة ما يصنع في فتوح العلم وقيمتها في عقائد الحياة. . .

إن فرحي بوصول زورق الأحلام في هذا الأوان الذي يجادلني فيه المجادلون في قيمة الإنسان لا يعدله إلا فرحي يوم طالعت الإعلان عن كتابي (أومن بالإنسان) في جريدة الأهرام منشوراً تحت خبر الوصول إلى سر القنبلة الذرية الذي أعلنه ترومان واتلي، فشعرت أن هذا التوافق المصادف إشارة موافقة من الأقدار على فكرة الكتاب! ولقد ظل هذا الإعلان ينتظر في الأهرام دوره في النشر ما يزيد على شهر حتى أتى ذلك اليوم. ولو خيرت ما اخترت غير هذه المناسبة للإعلان ولو تأخر شهوراً أخرى. . . ولو طولبت بأجر على ذلك التأخير وتلك الموافقة التاريخية لدفعته عن طيب خاطر؛ فإنه ليس بالقليل أن ترى الأقدار تؤنسك بلفتة من لفتاتها وتتطوع لتصديق رأيك بتقديم دليل جديد يؤيدك وأنت في شك مما سيقابلك الناس به غداة الإعلان على رؤوس الأشهاد عن قضيتك: (أومن بالإنسان)!

وحسبك من جزاء على التبشير بمستقبل الإنسان في زمن الشك والجحود به أن ترى أو تسمع كلمة تصديق وتشجيع ينطق بها ناطق الزمان فجأة وعلى غير انتظار!

وإنه لنصر في أول الطريق يثير الشجاعة إلى المضي إلى آخره حيت تحس أن الكون معك بهتافاته وإرهاصاته!

وإن القضية التي يعلن عنها وتدخل إلى الأذهان مع صدى ذلك الطارق الجبار العنيف الذي تنسف القدرة الإنسانية به مدينة في لحظة تترك عاليها سافلها، لقضية ينبغي أن تكون أسلوباً جديداً من أسلوب تجديد الدعوة الدينية، دعوة إقرار القيمة العليا التي للوجود ورب الوجود وخليفته في الأرض!

إن خطوات الفكر الإنساني في مجالات العلم السرية والجهرية خطوات متلاحقة تطالعنا بها الصحف والمجلات مع كل صباح، ولكن طي الأبعاد والمسافات الشاسعة في سرعة بالجسم البشري الثقيل، رهين الأحباس والقيود بطيران يخترق حجاباً وراء حجاب، ويركب طبقاً عن طبق فوق الباب والسحاب والتراب، وبين المناطق المتضادة الجواء، وعند قمة الأرض في قطبها الشمالي، حيث البقاع التي يعمرها السكون الموحش والصمت المطبق والمناطق البكر والسهوب الثلجية التي تتجمد فيها الحياة وتضل فيها خطرات الظنون والأوهام - يجعل أمر اليوم الذي حمله زورق الأحلام أمراً خطيراً كبيراً يراه العوام قبل الخواص، فيشعرون جميعاً أن هذا هو المجال الأصيل للجهد الإنساني كله لو عقل الناس!

أيها الزورق العابر مناطق الجو وفضاء النفس البشرية! القاهر لما في الآفاق من سدود وعوائق، ولما في النفس من شكوك وقيود تقعد بالإرادة البشرية عند العجز القديم الذي يقعد ببني الإنسان عن أن يبلغوا غايتهم من السيادة التي أرادها لهم خالقهم حين ينبههم كل يوم إلى أنه ليس هناك باب في الطبيعة مكتوب عليه (ممنوع الدخول) إذا ما كان في أيديهم المفتاح!

لقد كانت حمولتك أيها الزورق من أحلام البشرية العالمة الراصدة أضعاف حمولتك من ثقل الحديد والفولاذ الوقود وأجسام ملاحيك!

ولقد سلمت تلك الأحلام من الارتطام بصخور العجز والشك والوهن والكسل عن الاقتحام حين سلمت أثقالك من الارتطام بصخور الأرض!

وأن اليد الإلهية التي حملتك وسددتك إلى غايتك من غزو المجهول وكشف المستور وتصحيح المغلوط، إنما هي يد تشير بالموافقة وتلوح للقاعدين على التراب أن هبوا ويحكم أيها النوّام إلى السحاب، ولا تقعد بكم عقائد الجهل ومثبطات الهمم عن محاولة الانطلاق وراء أحلامكم الطليقة ما دامت لا تبطل حقاً ولا تحق باطلاً

وما كانت عبثاً تلك الطاقات المذخورة التي عشتم بها أيام العجز القديم، ورفرف بها خيالكم حول عالم القدرة والحرية. .

أجل، ما كان ذلك عبثاً، وإنما كان إعداداً لهذا الحاضر، وتدريباً باللعب على مستقبل حياة الجد والاكتمال، وإرهافاً للعزائم والإرادات، ودفعاً لها إلى أن تحاول تحقيق الأحلام في عالم اليقظة!

أيها الزورق! لقد ألقيت بحمولتك من الأحلام التي حملتها من تلك الجزيرة التي كانت مجهولة غائبة في المحيط الأعظم إلى أرض النيل التي عرفت في دفاتر التاريخ إنها أول أرض حاول الإنسان فيها تحقيق الأحلام وتجسيم الآمال، وحبت الإنسانية على عتباتها ودرجت وخطت إلى بعض غاياتها الآلاف الأربعة قبل الميلاد، فكأن هذه الرحلة عبور لطريق الحضارة الإنسانية من آخرها في أمريكا إلى أولها في مصر. .

وكم ذا من الآماد بين الأمس البعيد واليوم! وكم من جثث الرواد الذين عبدوا هذا الطريق مطروحة على حافتيه! وكم رأى هذا الطريق من وجوه تطلعت في نهاياته البعيدة فهالها بعد الشقة فقعدت حيث ولدت إلى أن ماتت ودفنت في حفر وأغواره! وكم قرعته أقدام القافلة الإنسانية في وقع رهيب وزحف ودبيب، وصلصلة قيود وأصفاد جعلتها تسير ثقيلة الخطى، محرومة الهدى مطموسة الأفق!

واليوم أيها الزورق الحالم، تأتي طائراً في أربعين ساعة من أقصى الأرض، وفي هبوة من هبوات الرياح تثير غباراً في أثرك هو لا شك رفات مسحوق من عظام أولئك الرواد الذي ماتوا على الطريق ودفنوا فيه!

وحسبهم عزاء أنهم رأوا ذواتهم غباراً يلحق ذيلك الجرار. . وأن رأوا أحفادهم يمتطونك في خيلاء القوة، وعزة الحديد وقبضة العلم كأنهم ركب من الجن في زي ناس. .

وهل تملك الجن الحمراء أن تطير في عالم الثلوج البيضاء؟!

أفتنا يا سليمان! فأنك أعلم الناس بعالم الريح، وصاحب البساط ومسخر الجن وملهب ظهورها بالسياط!

وعليك السلام، فقد كنت ثمرة مبكرة في شجرة الإنسانية مدت أحلامها وغذت آمالها وأفهمتها أن أحلام القدرة والانطلاق في حيز الإمكان، فلم تيأس حتى وصلت إلى تلك (الكرامات) العامة بعد تلك (الكرامات) الخاصة التي صنعها الله لبعض أصفيائه ليشير للنوع بهم إلى طريق التحرر والقدرة والانطلاق!

عبد المنعم خلاف