مجلة الرسالة/العدد 697/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 697/الكُتُب

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 11 - 1946



دعوة في وقتها:

الرسالة الخالدة. . .

بقلم الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية

عرض وتعليق

للأستاذ عبد المنعم خلاف

- 1 -

دين وسياسة

هذا الكتاب أن شئت قلت هو كتاب دين كتب بقلم سياسي مفكر عارف بآفاق الحياة البشرية، له بأكثر الأمم والأديان والعلوم والمعارف والحوادث العالمية والقومية خبرة نادرة، فلست تجد في كتابه الذي نحن بصدده تلك العقلية النمطية المقيدة التي تواجه القارئ في أكثر ما يعالج المسألة الدينية من كثب.

وإن شئت قلت هو كتاب سياسة كتب بقلم رجل هو في أعماق نفسه وظاهر حياته رجل عقيدة وفضيلة وسمو، يرى الحياة السياسية لن تكون على شيء غير الخداع والكذب وحب الغلب واللعب بالشعوب والأفراد إن لم تؤسس على العقائد السامية التي يستمدها العقل والقلب من التعلق بتلك الحقيقة الأولى العليا وهي الإيمان بالله عز وجل واستمداد الضمير مما يفيضه سبحانه على الكون من قيم الحق والخير والعدل والرحمة والجمال والنظام وغير أولئك من عزائم الإحسان التي توحي بأن تكون وجهة الناس خدمة الحياة البشرية جميعاً بدون نظر إلى ما بين الناس من فروق الجنس واللغة والدين والطبقات، والسعي المخلص للتوفيق بين الأمم ودفعها لخدمة الحضارة والعلم ومقاومة عوامل التفريق والتنازع في مجالات الكسب المادي.

صوت متوقع من الشرق والصوت الذي يعلو في هذا الكتاب كان لابد أن يرتفع الآن من الشرق العربي مع أصوات الدعاة في العالم ومع نهوض الجامعة العربية برسالة (الأمة الوسط) التي يلتقي لديها الشرق والغرب لقاء جميلا، ليجلو هذا الصوت وجهة رسالة الله الواحدة الخالدة التي تنقلت بشعلتها يده تعالى مع تنقل البشرية وتطورها التاريخي حتى استبانت معالمها التاريخية على أيدي أربعة من هذه (الأمة الوسط) هم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.

وكان لابد لهذا الصوت أن ينطق عن هذه الرسالة بلسان هذا العصر ويوضح منطقها بأسلوبه ويبين عن آرائها في الحضارة الروحية التي لا بد منها أولا لتوطيد أسس الحضارة المادية في القلوب والعقول قبل إقامتها في المجلات المادية.

وقد رأينا دعاة السلام في الغرب يعالجون مشكلات العالم بأسلوبهم وحسب تكييف حياتهم ومواصفات بيئاتهم، مثل ما فعل (وندل ويلكي) و (هنري ولاس) و (ويلز) وغيرهم. وما كان لسكان الشرق الأدنى صاحب الرسالات الفاصلة في توجيه الحضارات الروحية والمادية، والماهد لها في قديم التاريخ وأوسطه، والجامع لأطراف إنسانية الشرق والغرب حيث نزل إلهام الله ووحيه على رسله وأنبيائه في رسالات لا تزال هي المسيطر على أرواح أعظم جماهير الأمم العظيمة للآن. . . وما كان لهم أن يتركوا الناس يتخبطون في التماس الهدى وحل مشكلات الفكر والعيش دون أن يرتفع فيهم صوت يذكر الناس برسالة الله الخالدة ويعلن عما فيها من هدى قديم جديد.

البحث عن غد

والغربيون يبحثون عن غد يشرق عليهم ضحاه، وقد خرج روادهم منذ الحرب العالمية الأولى يبحثون عن ذلك الغد في كل مكان حين أحسوا ظلمة المادية تخنق أمسهم ويومهم وتتراكم على منافذ حياتهم الروحية فتحجب عنهم أضواء الهدى وتخنق حياة الوجدان والضمير وتطارد طمأنينة النفس إلى الحياة وإلى قيم الحق والخير فيها. . .

غير أن الموجة المادية كانت قد وصلت إلى ذروتها من الظلام والطغيان على الفكر الغربي بحيث لم يستطع الباحثون عن السلام أن يصدوا من طغي أنها وظلامها، فأنطلق سيلها الجارف الهدار حتى طم على حياة الغرب والعالم كله فأغرقه بفلسفة البحث عن (الذهب الأسود) و (الفحم الأبيض) وأحرقه بنارهما مع ما جمع من الحديد والفولاذ وأدوات المتاع والزينة والخيلاء والجشع والاستعلاء. . .، وإذا بأوربا موئل الحضارة المادية تشقى بحضارتها وتدمر بوسائل قوتها حتى تصبح خاوية على عروشها لا يطمئن إلى الحياة فيها سكانها وهجرها عشاقها كما تهجر الفيران السفينة حين تشفى على الغرق. . . وإذا الحقيقة الخالدة تتجلى من جديد وهي أن الحياة الإنسانية إذا لم تقم على الطمأنينة والسلام وعقائد الخير وانسجام الإنسان مع ما أراده الله من الطبيعة، فهي إلى فناء وزوال في غدها مهما غنيت في أمسها وحاضرها!

نعمة تستحيل إلى نقمة

وهذه الحضارة نعمة عظيمة لا يكدر صفوها إلا الطيش والجشع بينها؛ لأنها حضارة جعلت للإنسانية قدرة على تحقيق أحلام السيطرة والتغلب على كثير من قوى الطبيعة، وكشفت للبشر عن مدى قدرتهم التي صارت لا يقاس بها ما كان لآلهة الخرافة عند القدماء من قدرة على التكوين والتخريب. فلماذا يصرون على الحروب والخصام بعد أن صار في حروبهم من الهول والدمار ما يسحق جذور الحياة نفسها، وبعد أن وضح لهم أن الأرض دار واحدة لهم جميعاً وأن خيراتها كافية لأن ينعم بها الجميع ويتمتعوا ما وسعتهم القدرة على المتاع؟!

إن ذلك طيش وسفه يجب أن ينهض لمقاومته العصبة ذوو القوة من المفكرين والمربين ودعاة السلام في الشرق والغرب وأن يصدعوا بذلك، كل في محيطه ووطنه والعالم.

وهذا ما أراده عزام باشا حين أخرج بحوث هذا الكتاب الذي لا شك في أنه ضوء عريض سيكشف للعالم جميعه مدى ما عند وارثي (الرسالة الخالدة) من فهم وإدراك وعلاج لمشكلات الفكر والعيش والسلم والحرب والاجتماع، وما لديهم من استعداد عظيم للمشاركة في إقامة حياة كريمة بين الناس جميعاً؛ ومدى ما في طبعهم من سماحة تؤهلهم أن يكونوا بحق (الأمة الوسط) لا في المركز الجغرافي وحده، بل في المركز الفكري كذلك

مسألة المسائل

والمسألة الدينية هي أعظم مسائل الحياة قيمة وتشويقاً وإثارة للجانب السامي في النفس البشرية وللتفكير والرجاء والرغبة والرهبة، وقد كانت ولا زالت محور بحوث العقول المفكرة وعقول الجمهرة، لأنها تتصل بأعماق الفطرة ويترتب عليها قيمة الحياة وقيم الحق والخير فيها، ومعرفة المصدر والغاية منها، وما برحت (ما نحن؟ وما الكون؟ ومن أين؟ وماذا وراء الطبيعة؟ وما هي الغاية؟) أسئلة خالدة تثيرها القوى المفكرة في كل فرد، وهي موجهات الحياة ومكيفاتها، تضل الجماعة البشرية أو تهتدي حسب توفيقها في الإجابة عليها. وهذا الكتاب يعالج الحياة الإنسانية ومشكلاتها بتثبيت جذور هذه المسألة الدينية وتفريع فروعها فيتمشى بذلك مع طبيعة الشرق واتجاهاته من قديم، فالشرق دائماً يعالج حياته المادية بالاستمداد من خالق الوجود وواهب الحياة، ويقيم علاقات الاجتماع على أسس من علاقات الناس والكون بالله. بينما الغرب من قديم كذلك يتمشى مع عقليته المادية، فهو دائماً الباحث المادي الرهين بالمحسوسات المستوحى جفاف الأرقام. . .

ولذلك كان المزاج الشرقي واسع الرحاب برحابه ما يتصوره من عالم الكماليات الإلهية وراء هذه الطبيعة، طليقاً في أحيان كثيرة من القيود المادية التي تحبس الخيال وتربطه بالأرض، يأخذ الماديات لا لعبادتها وتأليهها ولكن للتعلق بمسبب أسبابها.

الحاجة إلى حضارة الروح

والدعوة الدينية هذه في حاجة ماسة إلى الحديث الدائم عنها وخصوصاً في هذا العصر المادي، بأسلوب هذا الكتاب الذي رأى المسألة الدينية أكبر معين لبناء الحضارة المادية على أوتاد ثابتة من الإيمان والإحسان، فاستعان بها اعظم استعانة واستفتى نظرياتها وأفكارها لتطبيقها على التاريخ الحي الذي يحياه الناس الآن، ليريهم أن منشأ ضلال الحياة الغربية هو ترك الاستعانة والاعتماد على الهدى المجرب من هذه المسألة.

وقد ثبت أن من الخير المؤكد للناس أن يحكموا بحكومة الوجدان والضمير من داخل نفوسهم قبل أن تحكم أجسامهم وظواهر أعمالهم بالقوانين، لأن حكومة الوجدان راعيها الله المطلع في كل حين على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، بينما حكومة الأجسام لا ترى إلا ما في الشوارع ولن تستطيع أكثر من هذا. . . ولن تقوم حكومة الوجدان إلا في ظلال الدين الصحيح الكفيل بإقناع الناس فيما بينهم وبين أنفسهم بقيم الحق والخير والفضيلة، وبقبح الباطل والشر والإثم والجريمة.

الفكر والسلطة والكتاب مثل واضح لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الفكر والضمير والسلطة حتى يكون (فن الحكم) - وهو اعظم فنون الحياة - قد استكمل أدواته في نفوس الحاكمين والمحكومين

والعلاقة بين الفكر والسلطة هي مشكلة الحضارة في هذا العصر، إذ أن المفكرين المؤمنين العالمين بسير الحياة بالأحياء والساكنين في قمة العلم والخلق لا يزالون بمعزل عن حكم الناس، قد تركوهم للسياسيين المحترفين والسماسرة والدجالين واللاعبين بالشعوب المنقطعين عن العلم والخلق، ولا هم لهم إلا الثروة المادية والبطش والخيلاء والغلبة على الأعداء. . .

والذين يعرفون المؤلف يشهدون في إجماع أنه من نوابغ المفكرين المؤمنين السياسيين العمليين والآملين في آن واحد. ولذلك وفق غاية التوفيق في أن يكون كتابه كتاب تربية وتهذيب ودين وسياسة وإصلاح اجتماعي، وفقه في العلاقات الدولية، ومعالجة أسباب المشكلات العالمية، ووضع نظام عالمي جديد.

فهو كتاب من الكتب المتفردة التي يخرجها عمالقة الفكر والخلق الذين يلتقي فيهم العقل والقلب ذلك اللقاء المنشود المحبب الجميل، ليفرقوا بها أمراً حكيماً من أمور باطلة، يضعونه على طريق الإنسانية في مرحلة من مراحل تاريخها، فيكون مناراً يضئ مسالك الخطى حين تختلط الطرق وتضل الاتجاهات ويحتاج الناس إلى صوت يقول لهم: من هنا الطريق. . .

المدخل

ودعونا الآن نلج إلى الكتاب من أبوابه الستة ذات الفصول الثلاثين لنتعرف إلى أمهات مسائله في إلمامه خاطفة ونظرة عابرة إن فاتها التعرف إلى الدقائق فلن يفوتها التعرف إلى الجلائل:

الكتاب كما يتضح من عنوانه (بحث في رسالة الله الواحدة الخالدة على مدى الزمن، واقتباس من هداها في الاجتماع والسياسة والحرب والسلم والعلاقات الدولية، لإزالة الاضطراب العالمي وإمداد الحضارة بسند روحي في إقامة نظام عالمي جديد) وقد أوضح المؤلف في مقدمته أن الذي دعا إلى تناول موضوعاته هي حالة الشذوذ والاضطراب أثناء الحرب الأخيرة والرغبة في الكشف عن أسباب هذا الاضطراب العالمي، ومحاولة أيجاد علاج له بعد أن تبين أن هذا العلاج غير ميسور في هدى الدعاوى المبادئ السارية في هذا القرن، والتي أوحت بها المدنية المادية الحديثة. فلا بد إذاً من النظر بجد لالتماس الهدى في غيرها بعد أن ظهر عجزها في تنفيذها الواقعي بأوربا وأمريكا.

فهل هذا العلاج في الرسالة الخالدة التي تعاقب رسل الله على الدعوة إليها وجاء بها إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.

وقد تولى الكتاب الإجابة على ذلك، وهو إن كان أفاض في التعرض لشرح وجهة النظر الإسلامية باعتبارها آخر تطور للرسالة الخالدة (فإنما قصد بذلك إلى التعاون والقربى لا التنابذ والتفرقة وأن يجد الناشئ الجديد المتعطش إلى المعرفة والطالب للهدى من المسلمين وغير المسلمين، مادة للتفكير وسبيلا إلى رأي عالمي مستقيم بعد هذه الحروب المدمرة التي أثارت اضطراباً لا نظير له) واضعاً نصب عيون المسلمين وغير المسلمين قوله تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه).

وهو يهيب بالجيل الناشئ من العرب (أن يكونوا أهلا لحمل هذه الرسالة يمدون الحضارة والعلم بالسند الروحي الذي لابد منه لعالم جديد متضامن متعاون على تثمير خيرات الأرض متجه نحو دولة عالمية واحدة تباركها يد الله ويرعاها رضاه).

(يتبع)

عبد المنعم خلاف