مجلة الرسالة/العدد 7/جلال الدين منكبرتي

مجلة الرسالة/العدد 7/جلال الدين منكبرتي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1933



للدكتور عبد الوهاب عزام

سارت جيوش التتار تقذف بالموت والدمار. (وفتحت يأجوج ومأجوج وهم من حَدب ينسلون). خرَّت المدائن لصولتهم فأسروا وقتلوا، ثم سلّطوا الماء والنار فأخربوا ودمروا. وانطلقوا في جحافل من السيوف والسهام والنار والدخان، والدماء والماء، والهول والفزع.

وعلاء الدين ملك خوارزم. قد أوقد النار فلم يستطع إطفاءها، وفتح باب الشر فلم يقدر على إغلاقه. لم يفن جنده ولم تثبت عزيمته. فما زال يهجر المدينة بعد المدينة حتى اعتصم بجزيرة في بحر الخَزَر فهلك بها.

ورث جلال الدين ملك أبيه. وإنما ورث الضراب والطعان، وعرشاً في أشداق المنون، تخاض إليه الأهوال، وتقطَّع دونه الآمال. لقد ذهب الملك وعلاء الدين معاً. وورث جلال الدين دَين أبيه من الكفاح والنضال، ورث القتال الحاضر , والملك الغابر.

هلَّم جلال الدين!: ادفع عن رعيتك ملا يُدفع، وأختر لنفسك وليس في الشر خيار: هما خطتا إما إسار وذلة وإما دم، والقتل بالحر أجار.

تحفز البطل تحفز الأسد، وتقهقر ليثب، ولكن المغول كانوا في أثره حيثما سار، يطوون وراءه الليل والنهار، حتى خرج من ملكه وقارب الهند. وهنالك صف جلال جنده وهم:

عصابة ليس لهم ديار ... إلا ظهور الخيل والغبار

فهزم عدوه الجبار في ست معارك.

يلقى المنية في أمثال عُدَّتِها ... كالسيل يقذف جلموداً بجلمودا

ولكن طوفان المغول أعظم من أن تثبت فيه صم الجلاميد أو يغنى فيه العزم المرير والبأس الشديد.

فذلكم جلال الدين على نهر السند وأولئكم المغول على نهر السند. يكرّ عليم كالأسد المُحرَج ويَصدقهم القتال من الفجر الى الظهيرة، يموت في يمينه الحسام بعد الحسام، وينفق تحت عزائمه الجواد بعد الجواد. فلما سدت على العزائم سبل النصر، وضاقت بالمجال حيل الأبطال، حمل على عدوّه فحطمه، ثم انثنى إلى النهر فأقتحمه، والموت خزيان ينظر. تلك لجة النهر تموج بجلال الدين وجنده، وفوقهم من سهام المغول وابل منهمر. وفي اله القعساء تستوي الغبراء والدأماء. أعجب الأعداء بهؤلاء الأبطال فوقفوا معجبين ينظرون.

غرق معظم الجند وخرج البطل ببقايا القتل والغرق ليلقى بهم عدواً آخر. فهذا (جودي) أحد أمراء الهند يغير على البطل المرزَّأ لينفيه من أرضه. وهذا جلال الدين على العلات يصمد للمغير فيهزمه، ثم جاءه مدد من جنوده فتقدم في أرض الهند وأقام بها حيث شاء على رغم (قراجه) أمير السند وأيلتتمش أمير دهلي إذ تحالفا وحالفا عليه الدهر.

وما جهد هذا الدهر إلا هزيمة ... إذا نازلت عزم الكرام كتائبه

أتحسب جلال الدين بلغ من الجهد غايته، ومن الجلد نهايته، وقد أعذر إلى المجد والملك والرعية؟ أتحسبه قد فقد ملكه جميعه، وهزم في أرض غريبة فهو حريّ أن يطلب في فجاج الأرض مفراً أو يلتمس في زواياها مستقراً؟ كلا! إنه فقد ملكه ولم يفقد رجاءه، ولا عزمه، ولا إباءه. إن له ملكاً وإن يكن في يد العدو الجبار وإن له عرشاً وإن يكن في ذمة الزمان الغدّار. إن أمامه في عراك الخطوب ثماني حجج تطير فيها بين المشرق والمغرب همته. وتنقله من حرب إلى حرب صرامته. ويسلمه من مصيبة إلى مصيبة حظه.

يشق بين الأهوال طريقه إلى كرمان ففارس فأصفهان فالري. ثم يصمد للخليفة العباسي الناصر فيهزم جنده ويقتل قائده ويسوق المهزومين إلى أسوار بغداد.

ثم يستولي على تبريز ويتخذها دار ملكه، ويغير على الكرج كأن أعداءه ليسوا أكفاء نضاله. وبينما هو في تفليس جاءه نبأ هائل. وناهيك بخيانة الأعوان في حومة الطعان: أنبئ أن براقا الحاجب والي كرمان قد مالأ المغول. فبادر من تفليس إلى كرمان ليعاقبه بخيانته. ثم يرتد من كرمان إلى الشمال ليحارب التركمان والملاحدة فيهزمهم ويجزيهم بما اقترفوا في غيبته. ويشرق تلقاء دامغان ليهزم جيشاً من المغول. ويرجع إلى الغرب حين يعلم إن الكرج تألبوا عليه. فيلتقي الجمعان وتأبى على جلال الدين شجاعته ومضاؤه إلا أن يبارز أبطال الكرج. وقد قتل أربعة من صناديدهم وِلاءً ثم حمل على الكرج فهزمهم أجمعين.

هذه سنة سبع وعشرين وستمائة وجلال الدين يعمل ليؤلف أمراء المسلمين ويضرب بهم هذا العدو المدمر فلا يمهلهم عدوه فيباغته ثلاثون ألفا من المغول فينهزم أمامهم ولكن ليستولي على مدينة كنجة.

عشر سنين نازل فيها جلال الدين منكبرتي أحداث الزمان مجتمعة وغلب فيها جهد الأعداء وخيانة الأصدقاء، وجالد عدو المسلمين وخليفة المسلمين. وحارب المغول والتركمان والملاحدة والكرج.

أرأيت جلال الدين نجما يدور به فلك من الخطوب بين المشرق والمغرب؟ أعلمت أن الرجل العظيم يخلق أحداث التاريخ ولا ينقاد لها. إن يكن ما يروى عن جلال الدين مستحيلا فكم بين حقائق التاريخ من مستحيلات.

غياث الدين أخو جلال الدين يمالئ الأعداء أيضاً فانظر إلى البطل العظيم عام 628 وقد أجتمع عليه الأعداء وخانه الأخوة والأصدقاء وناء بقلبه خذلان أعوانه لا بطش أقرانه. ها هو ذا مكتئبا حزيناً مشرداً يسير في قرى الكرد ولعله كان ليحاول أن يخلق من عزمه جنداً وحرباً وانتصاراً وملكاً. ولكن رجلاً من الكرد باغته ففتك به:

أتته المنايا في طريق خفية ... على كل سمع حوله وعيان

ولو سلكت طريق السلاح لردها ... بطول يمين واتساع جنان

ولكن النفس العظيمة التي ملأت العدو والصديق هيبة وإعجاباً لا تموت بموت الجسد، فقد أكبر الناس أن يموت البطل الذي غلب الموت في كل معترك. فبقوا أكثر من عشرين عاما يتحدثون أن بطلهم حي وأنه ظهر في هذا المكان أو ذاك. بل حاول بعض الناس أن يلبسوا عظمته ويحملوا أسمه فناءوا بالعبء فأخذهم المغول بغير عناء.

يا شباب الشرق! قلبوا صفحات مجدكم فإن أعظم المصائب أن تمحى ذكرى الآباء من صدور الأبناء. وأن لكم في جلال الدين لعبرة.