مجلة الرسالة/العدد 7/في الأدب العربي
مجلة الرسالة/العدد 7/في الأدب العربي
القصة المصرية
للأستاذ جيب
أستاذ الأدب العربي في مدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن
- 2 -
أول قصة مصرية بالمعنى الحقيقي خرجت إلى الوجود، وهي غفلاء من أسم مؤلفها، فلم تلق أول الأمر إلا اهتماماً قليلاً من جانب المتعلمين، تلك القصة هي (زينب) مناظر وأخلاق ريفية، بقلم فلاح مصري - القاهرة، مطبعة الجريدة عام 1914. ومؤلفها هو الدكتور محمد حسين هيكل، ولما كان غداة نشرها محامياً صغير السن طموحاً لم يشأ أن يذكر أسمه مخافة أن يقف ذلك عقبة في سبيل عمله.
خرجت (زينب) خروجاً تاماً، في لغتها وأسلوبها وموضوعها وفي الطريقة التي عالجها بها المؤلف عن جميع ما تقدم من الآثار في الأدب العربي. وليس هناك علاقة بينها وبين قصص زيدان التاريخية، وقصص فرح إنطوان، فلقد كتبت كما يتضح من عنوانها لتصوير الحياة الاجتماعية في الريف بسلسلة من الحوادث تدور حول فتاة قروية.
ونستطيع أن نسرد الحكاية في أيجاز، فنقول، أن زينب وهي فتاة قروية جميلة، قوية الإحساس، بعد علاقة بريئة بشاب متعلم يدعى حامد أبن صاحب الأرض في القرية، قد أحبت فتى يقال له إبراهيم، ولكنها تزوجت رغم أنفها وبمشيئة والديها من صاحبه حسن. فحرصت على وفائها وولائها له، ولكنها ظلت على حبها لإبراهيم، ولقد أدى التنازع بين هاتين العاطفتين، عاطفة الحب وعاطفة الإخلاص الزوجي إلى تأثير سيئ في صحتها، ولما علمت بدخول ابر أهيم في الجيش بلغ ذلك من نفسها مبلغاً عظيما حتى أضناها الحزن ثم أودى بحياتها، وبجانب هذه الخطة تقوم حكاية أخرى. وهي تلك العلاقة بين حامد وابنة عمه، وهي فتاة من فتيات المدن، ثم اختفاؤه عندما أخفق مسعاه في التزوج منها.
ويتضح من ذلك أن الخطة على العموم أقل من أن تكفي لملء أربعمائة صفحة، وبالقصة من جهة أخرى عيوب سنعرض لها الآن. وينبغي أن نتذكر أن تلك القصة ليست أو مجهود لشاب صغير السن فحسب. بل هي كذلك أول مجهود من نوعه في أدب فني، فيجب أن ينظر إليها مع هذا الاعتبار، والواقع أن ما في القصة من تفاصيل تستوجب النقد، يقل شأنه، إذا قارناه بتلك الحقيقة وهي أن هناك مجهودا بذل، وأن تلك القصة تعتبر شيئاً جديداً من نوعه أضيف إلى الأدب العربي.
ويعد بناء هذه القصة ممتعا من الناحيتين الوصفية (والسيكلوجية) وواضح أن القصة إنما قصد بها انتقاد تلك الروح الرجعية التي ما زالت تسيطر على طبقة خاصة من الناس على الرغم من التقدم الحديث، على أن نجاحها في هذا السبيل لم يكن تاما، إذ أن الشخصيات نفسها لم تركب بدرجة كافية، اللهم إلا شخصية حامد، وهي بلا شك تمثل إلى حد كبير شخصية المؤلف نفسه. كذلك نلاحظ أن تصوير الأشخاص والحوادث بطريقة (درامية) جاء ضعيفا بالجملة.
وكانت النتيجة أن تعليقات المؤلف (السيكلوجية) كانت تأتي على لسانه هو بطريقة أقرب إلى طريقة الكتب المدرسية مع استعمال ضمير المتكلمين الجمع. ويظهر تدخل المؤلف بشكل أوضح في مواضع الوصف. ولقد ذكر هيكل بك في مقدمة الطبعة الثانية الظروف التي وضع فيها كتابه، وذلك حين كان يطلب العلم في باريس وجد به الحنين إلى وطنه، فجعل يتمثل في ذهنه جميع مظاهر الحياة القروية، ومجالي الطبيعة في مصر، ويظهر أثر ذلك في كل صفحة من صفحات الكتاب تقريبا، في قطع وصفية مسهبة للمناظر الطبيعية، كالشمس والقمر والنجوم والمحاصيل والجداول والبرك. . . الخ، ولقد يرتفع أسلوبه في ذلك إلى درجة عظيمة من الفخامة والروعة الموسيقية، ولكن طول الوصف مما يسبب السآمة وتشتيت الذهن. ففي كل حادثة وفي كل منظر وصف وتعليق، مما جعل القصة في بعض المواضع تسير متعثرة. أضف إلى هذا أن الكاتب كان يعمد أحيانا إلى قصص استطرادية تافهة، لا تمت بصلة قوية إلى القصة الأصلية، لا لغرض سوى أن يستطيع بواسطتها أن يضيف بعض الفقرات الوصفية، ثم بين الفينة والفينة تظهر بعض جمل مثقلة بالوصف الى درجة تفقد معها مبناها ومادتها.
ولكن يجب ألا ننسى أن هذه الفقرات الوصفية تحمل من المعاني إلى ذهن القارئ المصري أكثر مما تحمل إلى غيره، وإن تأثيرها الفني في نفسه، يعد أحد الأسباب الرئيسية التي قامت عليها شهرة هذه القصة عند المصريين.
أما ما حوته من المباحث الاجتماعية، فكان أكثر تمشيا مع الخطة، إذ كان من المحتم أن يتلمس المؤلف أسباب المساوئ التي ذكرها وأسباب المأساة النهائية، وأن يرجع ذلك إلى أصله في العادات الاجتماعية. ويغلب على القصة من أولها إلى آخرها التعرض لنقد المساوئ التي أنتجها التمسك بالعادات البالية، ولكن النقد الاجتماعي لم يحشر بالطريقة التي حشرت بها الفقرات الوصفية (والسيكلوجية) ويرجع ذلك إلى أن المؤلف قد أجراه على لسان حامد، وهو شاب متعلم متأثر بأفكار قاسم أمين وغيره من المصلحين الاجتماعيين، على أن المؤلف كان يلجأ هنا أيضاً في بعض الأحيان إلى اصطلاحات الكتب المدرسية.
وكان تنظيم الأسرة وتحرير المرأة هما المحور الذي تدور عليه انتقادات المؤلف الاجتماعية، أضف إلى ذلك بعض مظاهر الحياة الاجتماعية في مصر، كبعض الحرف البعيدة كل البعد عن حقائق الحياة، مثل حرفة طبيب القرية (الحكيم البلدي) ومشايخ الطرق الذين يتجرون بتضليل العامة وغير ذلك.
أما شعور المؤلف القومي، فكان مضمراً أكثر منه صريحا وإن كان قد أظهره في بعض المواضيع، وبخاصة عند إشارته إلى حقارة الخدمة العسكرية، تحت سيطرة الأجنبي.
أما أسلوب القصة فقد سار الكاتب فيه على الأسلوب الأدبي الحديث مع تهذيبه في أغلب الأحيان في اللفظ والتركيب، ويلاحظ فيه من جهة أثر الاصطلاحات العامية الخاصة بدلتا مصر، ويتضح ذلك في اقتضاب بعض الجمل، وفي طريقة الانتقال وغيرها، كما يلاحظ فيه من جهة أخرى أثر الفرنسية، ويظهر ذلك في طول الجمل والتوائها مع كثرة الجمل الفرعية والمعترضة التي تدخل على الجملة الرئيسية، مثال ذلك الجملة التي تبتدئ بالفقرة الآتية (ومن الظلام روافه) صفحة 37 من الطبعة الأولى و34 في الطبعة الثانية وكذلك الجملة التي تبتدئ بقوله: ولم تكن إلا لحظات. . . ص 89 في الطبعة الأولى و 70 في الثانية.
أما ما يتعلق بتلك المشكلة الصعبة، مشكلة أسلوب الحوار فقد لجأ هيكل بك في شجاعة إلى استعمال اللغة العامية إذا كان الحوار بين الفلاحين، أما إذا كان بين الطبقات المتعلمة فيتركهم يتكلمون اللغة الفصحى.
ويتضح مما قدمنا أن عنصر الخيال في زينب أقل منه في مثيلاتها من القصص الأوربية المتوسطة، وأن ما في القصة من فقرات عقلية ووجدانية (وهي في الواقع العنصر الشخصي فيها) يسمو على الناحية القصصية. ولقد ذكر الكاتب في مقدمة الطبعة الثانية أن القصة فضلا عن مظاهرها الخاصة تأثرت أيضاً بطريقة القصة الفرنسية السيكلوجية الحديثة، ولكنا على الرغم من ذلك (إلا إذا ثبت تماما أن القصة قد جرت في تفاصيلها وأسلوبها وخطتها على نمط القصة الفرنسية) نقول أنه يستحيل علينا أن ننكر على زينب أنها أول قصة مصرية كتبت بقلم مصري للقراء المصريين، وأن شخصياتها وأوضاعها وخطتها قد اشتقت من الحياة المصرية الحاضرة.
لم تلق هذه القصة إلا اهتماما قليلا حينما نشرت في عام 1914، ولكنها لاقت بعد ذلك نجاحاً كبيراً لما اتسعت دائرة القراء. وكان إعادة طبعها في عام 1929 بناء على طلب الجمهور، وقد أدى إلى ذلك عدة عوامل نذكر منها أنها زادت في إحساس الناس بقوميتهم، وأن مؤلفها قد ارتفع صيته في عالم الأدب، وأنها اختيرت موضوعا لأول (فلم سينمائي) أخرج في مصر.
ومن أجل ذلك أصبحت القصة موضع بحث، وكتب في نقدها بعض مقالات كان معظمها مدحا وتقريظا. ومن أحسن ما كتب في هذا الصدد مقالتان طويلتان للمازني في السياسة الأسبوعية بتاريخ 27 أبريل و4 مايو سنة 1929. وحدث أن كتب بعد ذلك كل من هيكل بك ومحمد عبد الله عنان سلسلة مقالات في السياسة الأسبوعية في أوائل عام 1930 ذات فائدة كبيرة فيما يتعلق بنشأة القصة في مصر.
يسائل هيكل بك عن أسباب ذلك الضعف وذلك الفقر الغريبين اللذين يمتاز بهما الأدب العربي الحديث في القصة، مع أن المصريين يمتازون بمقدرة طبيعية على سرد القصص. ولقد علل ذلك بعدة أسباب منها: فقدان المقدرة على طول الخيال، والفرق بين لغة الكتابة ولغة التخاطب، وكسل الكتاب المصريين. ولكن ليس في هذه الأسباب ما يمكن اعتباره السبب الحقيقي وإن بدا في الثاني منها بعض الوجاهة. ويذكر هيكل بك بعض الأسباب الفرعية الأخرى ومنها (1) نسبة الأمية الهائلة في مصر، وهي تحول دون أي تقدير حقيقي من جهة، وتكون سببا في قلة العوض المالي من جهة أخرى (2) عدم التشجيع من جانب الطبقات العالية والطبقات الغنية، وربما كان السبب في ذلك أن هؤلاء لم يجدوا تشجيعا من جانب المرأة وبهذه المناسبة يشير المؤلف إلى أثر المرأة في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر والى أهمية تشجيع المرأة للحركة الأدبية في الأدب العربي القديم (3) الحط من قيمة الأدباء في مصر والتشهير بهم علنا من منافسيهم وممن هم أقل منهم منزلة (4) انشغال الناس بالمسائل السياسية والاقتصادية وميل الكتّاب إلى الاهتمام بالناحية السياسية أكثر من اهتمامهم بالناحية الأدبية.
ويوافق عنان على تلك الأسباب في الجملة، غير أنه يقول أن ثانيها هو أكثرها خطرا، فإن الوسيلة الحقيقية إلى نمو القصة في مصر تنحصر في مركز المرأة الاجتماعي ويشير عنان إلى أن الدور الذي لعبته المرأة في إنهاض الشعر العربي القديم لم يكن له علاقة بالقصة، لأن أساس القصة إنما يوضع في مجتمع تلعب فيه المرأة دورا خطيرا ويكون المجتمع متأثرا بنفوذها خصوصا في رسم مستوى الخلق والسلوك. وكان من نتيجة فقدان هذا الأثر ضيق مجال الأدب العربي القديم والأدب الأوربي في العصور الوسطى ونقصهما في جمال الشعور والعواطف. ولا يزال هذا الضيق موجودا في الأدب العربي الحديث لأن المستوى الاجتماعي لم يزل كما هو لم يتغير. وتعتبر قصة زينب إحدى الشواذ التي تنهض دليلا على صحة القاعدة، فإن نجاحها إنما يرجع إلى تلك الحرية النسبية التي تتمتع بها المرأة في الحياة الريفية. وعلى ذلك فإن عنانا لا يشارك هيكل بك في تفاؤله، ففي نظره أنه لا يمكن أن تتقدم القصة المصرية ما لم تتحسن تلك الظروف القائمة، ولا يمكن أن تترجم أو تمثل العواطف والأخلاق السائدة في الحياة الاجتماعية. ولا ينتظر أن يكون لها مستقبل في التطور الأدبي الحديث ما دامت الحياة الإسلامية محافظة على تقاليدها الموروثة. ومما قاله في هذا الصدد (استطعنا أن نقطع بأن المجتمع الإسلامي لا يمكن (متى بقي تطوره وتقدمه محصورين في المبادئ الإسلامية الخالدة أو في التقاليد التي كانت أثرا لهذه المبادئ) أن يظفر كتاب القصص العربي يوما بمادة واسعة أو غزيرة كالتي يقدمها المجتمع الغربي إلى كتاب الغرب أو أن يغدو الأثر الذي يفسحه للمرأة ذات يوم وحيا للفن والجمال).
ولقد أدت مقالة عنان إلى رد من جانب هيكل بك يتعرض فيه إلى الناحية (السيكلوجية) للموضوع، وهي مقالة جديرة بأن تقرأ بمزيد الاهتمام. يقرر الكاتب أن الضعف الحقيقي في القصة القصيرة والقصة الطويلة في مصر إنما يرجع إلى عدم المقدرة على تفهم الحياة والى حاجتنا إلى تربية العواطف، فإن العواطف النبيلة لا يمكن أن تثمر في حياة اجتماعية يقف فيها الشعور عند نقطة تقوم معها الأغراض الجسدية مقام أي عاطفة سامية من عواطف النفس الإنسانية. وإن أي فن لا يكون في الأصل قائما على حب الفنان لناحية من نواحي الحياة لا يمكن مطلقا أن يصل إلى درجة الكمال، وتطور غريزة الحب إلى عاطفة إنسانية سامية يحتاج إلى تدريب طويل شاق وقد لا يكفي لبلوغ ذلك جيل بل عدة أجيال. وحتى فضيلتا الإحسان والعطف يندر وجودهما في مظهرهما الاجتماعي الراقي في مصر. ولم يزل الحب أيضاً قريبا من الغرائز الأولية، ومن النادر أن يعثر المرء في هذه الناحية على مثل من المثل العليا الجميلة. وأخيرا يتلمس الكاتب أسباب نقص التهذيب العاطفي في انعدام وسائل التربية التي تقصد إلى هذا الغرض في المنزل، كما يتلمسها في طرق التعليم القديمة التي تعد أدخل في باب الحرف منها في باب الإنسانية.
ولم يكن من السهل مرور هذه المناقشات دون أن تثير معارضة من جهات مختلفة وسنوضح أحد هذه الانتقادات الشهيرة عند الكلام على قصة المازني (إبراهيم الكاتب) ولقد صدرت تلك المعارضة عن صفوف المثقفين. ومما قاله أحدهم في هذا الصدد. . . . ما هذه المناقشة الطويلة حول القصة؟ لقد سار الأدب العربي بدونها في الماضي ولم ينقص ذلك من قدره، وإن التطلع إلى إيجاد القصة فيه الآن ليعد مثلا جديدا من أمثلة تقليد الأوربيين تقليدا ضارا ينذر بتقوض دعائم الحياة الاجتماعية في الشرق. إن القصة الغربية بما فيها من نقص وتزييف وعدم ملاءمة للتقاليد الاجتماعية في الشرق قد أثرت تأثيرا هداما في حياة مصر الاجتماعية. أفنسعى بعد ذلك وراء هذا الداء الوبيل؟