مجلة الرسالة/العدد 702/القصص

مجلة الرسالة/العدد 702/القَصَصُ

ملاحظات: وفاء أو رحلة En voyage هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1883. نشرت هذه الترجمة في العدد 702 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 16 ديسمبر 1946



وفاء. . .!

للقصصي الفرنسي جي دي موباساق

بقلم الأديب السيد كمال الحريري

كانت عربة القطار غاصة بالركاب منذ (كان)، والأحاديث تدور على ألسنتهم، بعد أن تعارفوا أو تآلفوا. وحين مر القطار (تاراسكون) قال أحدهم.

- في هذا المكان تجري حوادث القتل. وهنا طفق الركب يتكلمون عن سفاك مجهول، أعجز الأمن وأخذ عامين يعيث فتكاً بأرواح المسافرين فكل أخذ يبدي عنه افتراضاً ويدلي برأيه، أما النساء فكن ينظرن برعب إلى الليل البهيم من خلال زجاج العربة، وقد خفن أن يبصرن فجأة رأس ذلك السفاح، يطالعهن من باب غرفة القطار.

ثم أفاض المسافرون في سرد قصص مرعبة ومصادفات مفزعة ومجابهات مع المجانين في عربات القطار.

كل حاضر كان يعلم حادثة من هذا النوع يسردها على شرف جرأته. وما منهم على زعمه، إلا سبق له أن خوف لصاً أو صرع مجرماً أو جندل أثيماً: في ظروف غريبة وبديهة حاضرة وشجاعة فائقة. وأراد طبيب أعتاد كل شتاء عبور جنوب فرنسا أن يدلي بدلوه بين الدلاء فقال:

- أما أنا فلم يسعدني الحظ باختبار شجاعتي في ظروف كهذه، بيد أني أعرف امرأة من زبائني المرضى (وتوفيت الآن) حدث لها أغرب حادثة يمكن أن تحدث في هذا العالم.

لقد كانت روسية، واسمها ماري بارانواي، وهي من كرائم العقائل، ذات جمال ساحر وحسن رائع. وأنتم تعلمون كم هن جميلات الروسيات، أو على الأقل كم يظهرن لنا حساناً فاتنات بآنافهن الدقيقة، وثغورهن الصغيرة، وعيونهن الزرقاء السنجابية

وإن فيهن مزيجاً غريباً من الوقاحة المغرية، والكبرياء الحلوة والقسوة العطوف، التي تجذب القلب الفرنسي وتأسره. وفي الحق قد يكون اختلاف الجنس هو الذي يريني فيهن هذا النوع من الجمال.

لقد كان طبيبها منذ سنين عديدة، يراها مهددة بمرض صدري عضال، وكان يسعى كثيراً أن يحملها على السفر إلى جنوب فرنسا للاستشفاء ولكنها كانت ترفض بإصرار مغادرة (بطرسبورغ).

غير أنه، في الخريف الأخير، وقد أيقن الطبيب أنها هالكة توصل إلى إقناع زوجها الكونت، بالإيعاز لها بالسفر إلى (مانتو). فاستقلت القطار وجلست في مقصورة وحدها بالعربة، أما خدمها ومرافقوها، فقد شغلوا غرفة خاصة بجانبها. وهناك لبثت حزينة، بقرب نافذة القطار تطل على الجبال والدساكر والقرى، وهي تمر مراً خاطفاً أمام عينيها. بينما هي وحيد ة منبوذة من الحياة، ايس لها ولد ولا قريب، غير زوج زال حبها من قلبه، فألقى بها إلى البلد النازح كما يبعث السيد بتابعه العليل إلى مصحة دون أن يرافقه. وعند كل محطة كان وصيفهه (إيفان) يأتيها مستعلماً أما إذا كان هناك حاجة تنقصها. ولقد كان خادماً قديماً في خدمة مولاته، متفانياً في إخلاصه لها، مستعداً دائماً لإنفاذ كل رغبة أو إشارة. واعتكر الليل والقطار يدوُِي ويهوي هوياً على السكة الحديدية، وجفن (الكونتس) لم يغتمض لتهيج أعصابها وثوران نفسها. خطر لها فجأة أن تعدّ ما خلفه لها زوجها حين توديعه إياها من نقود ذهبية فرنسية. ففتحت حقيبتها الصغيرة وأفرغت منها على حجرها موجاً براقاً من المعدن الذهبي. ولكن على حين غرة هبت عليها نسمة باردة. وما كادت ترفع بصرها مذعورة مصعوقة من المفاجأة حتى أخذت قبضة باب العربة تتحرك وتهتز، فذعرت الكونتس وألقت بغتة على نقودها المنتشرة شالاً كان في حضنها ثم راحت تنتظر. ومرت لحظات ظهر بعدها رجل عاري الرأس، جريح الذراع، يلهث وهو في ثياب المساء. فأغلق باب العربة وجلس يحدق بعينين لماعتين، إلى جارته. ثم إنه ربط كفه التي كانت تقطر دماً بمنديل. فشعرت الصبية بالخوف يهدها هداً، وتحقق لديها أن الرجل عاينها وهي تعد النقود، وإنما أتى إليها كي يقتلها ويستلبها ما عندها. كان يحدق بها منبهر الصدر لاهث النفس متشنج عضلات وجهه، وهو متهيئ لأن يهاجمها ويسطو عليها بلا ريب. وقال بغتة:

- لا تراعي مني أيتها السيدة. فلم تنطق بكلمة لعجزها عن فتح فمها رعباً، واستمعت له وقلبها خفاق من الذعر، وأذناها تطنان طنيناً مدوياً. قال لها: - إني لست فاتكاً ولا مجرماً أيتها السيدة. بيد أنها ظلت ملتزمة جانب الصمت، وبدت منها حركة فجائية، اقتربت منها ركبتاها إلى بعضهما فجرى الذهب من حجرها إلى بساط الأرض، كما يجري الماء من الأنبوب. ودهش الرجل، فأخذ يحدق في هذا الجدول الجاري من الذهب. . . ثم مال فجأة إلى الأرض لالتقاطه. أما هي فريعت ونهضت ملقية على الأرض جميع ثروتها، ثم هربت إلى باب عربة القطار تود أن تقذف بنفسها؛ غير أنه أدرك ما عزمت عليه، فوثب من مكانه وأمسكها بيديه، ثم أجبرها على الجلوس وقال لها وهي ترتعد بين يديه:

- اصبغي أيتها السيدة. لست شريراً ولا فاتكاً، ودليلي على هذا إني سألتقط هذه النقود وأردها إليك. . . إني رجل هالك ومحكوم علي بالموت، إن لم تعينيني على اجتياز الحدود الروسية، وليس بوسعي أن أبسط لك القول أكثر من هذا. ففي خلال ساعة سنصل آخر الحدود الروسية، فإن لم تنجديني إني إذاً من لهالكين. ومع ذلك أيتها السيدة، أقسم لك أني لم أرتكب قتلاً، ولا اقترفت سرقة أو جرماً يسيء الشرف ويخدش الكرامة. احلف لك على هذا، وليس بمقدوري أن أزيدك في القول. ثم جثا الشاب على ركبتيه، وأخذ يلتقط النقود، وينقب حتى أصغر قطعة متدحرجة منها، وحين أفعمت محفظة النقود كما كانت، ناولها لجارته دون أن ينبس بنت لسان، ثم انتقل وجلس في الزاوية الثانية من عربة القطار، وظل الاثنان ساكنين، لا يبديان حركة، ولبثت هي في صمتها وسهومها وجمودها: أسيرة الخوف الذي بدأ ينجلي عنها شيئاً فشيئاً. أما هو فلم يظهر حركة أيضاً، ولم يبد إشارة. بل استمر مستقيم الجلسة تحدق عيناه إلى الأمام، ووجهه مصفر اصفرار وجوه الموتى.

على أنها كانت من حين لآخر ترميه بنظرة خاطفة. كان رجلاً في الثلاثين من سنيه، شديد الفتنة سليم القسمات، في وجهه سمة النبل والاستقامة. وظل القطار يخترق حجب الظلام، ملقياً في أذن الليل الدامس صفارته الحادة الصارخة، ولا يكاد يهدأ من سيره ويخفف قليلاً من سرعته حتى يستأنف لجبه وهويه وهديره، ولكن فجأة، خفف من مشيته، ثم انطلقت من قاطرته عدة صفارات ووقف تماماً عن السير.

وبدا الوصيف (إيفان) على باب الغرفة، يتلقى أوامر سيدته فتأملت الكونت ماري مرة أخيرة رفيقها الغريب، ثم قالت لتابعها بصوت أجش: - إيفان ستعود إلى زوجي (الكونت)، لأني لست بحاجة إليك الآن. فصعق الرحل وأطل عليها بعينين مفتوحة دهشة ثم تمتم:

- ولكن يا مولاه. . . فقاطعته

- لا، لن تأتي معي، لقد بدا لي فغيرت رأيي، وأريد أن تبقى في روسيا. هاك نفقة رجوعك، وهيا ناولني معطفك وقبعتك.

فتجرد الخادم المدهوش من معطفه، وأنزل قبعته عن رأسه طائعاً دون كلمة، لأنه تعود من مولاته كل إرادة فاجئه أو رغبة وهوى لا سبيل إلى مقاومته. ثم غادر عربة القطار، وعيناه تفيضان من الدمع. وتحرك القطار ثم إنقذف مخترقاً الحدود، وحينئذ قالت (الكونتس) لجارها:

- هذه الملابس هي لك يا سيدي، فأنت منذ الآن (إيفان) تابعي. على أني اشترط عليك شرطاً واحداً جزءاُ ما قدمته إليك من جميل الصنع: هو أن تكلمني ولا تفتح معي باباً من حديث، سواء أكان من أجل شكري؛ أم من أجل توضيح هذا التصرف معك. فانحنى الرجل المجهول أمامها طائعاً، ولم تتحرك شفته بكلمة. وبعد قليل وقف القطار من جديد، ثم طفق موظفون بملابس وبذلات خاصة، يفدون إلى عربات القطار، فمدت الكونتس إليهم أوراق السفر، ثم أشارت إلى الرجل الغريب القابع في زاوية العربة وقالت:

- هذا تابعي (إيفان)، وهاكم جواز سفره. وأستأنف القطار جريانه وهديره، ومرَّ عليهما الليل بطوله ورأسها إلى رأسه لا ينطق ولا تنطق. وأقبل الصباح وقد جاز القطار قرية ألمانية فنزل الرجل المجهول من العربة، ثم وقف على بابها يقول:

- اعذريني أيتها السيدة، إذا أخللت بشرطي معك. . . ولكني حرمتك من خادمك، فمن الظرف والعدل، أن أحل مكانه. . . هل أنت محتاجة إلى أمر أنفذه، فقالت في برود.

- نعم استدعى وصيفتي، فغادر العربة ليقوم بما أمرته ثم اختفى عنها. . .

ولما نزلت إلى مشرب المحطة (بوفيه)، بصرت به عن بعد يرامقها النظر ثم. . . ثم بلغ القطار (مانتون).

وسكت الطبيب المتحدث لحظة، ثم واصل كلامه يقول: ففي ذات يوم، بينما كنت أتقبل زبائني في عيادتي، شاهدت فتى غرانقاً يدخل عليَّ ويقول: - سيدي الطبيب، لقد جئت استعلم منك، عن صحة الكونتس (ماري بارانواي) فإني برغم كوني نكرة عندها، صديق وفىّ لزوجها. فأجبته في أسى: إنها مشرفة على التلف، ولن ترجع إلى روسيا ثانية. فاستخرط الفتى في بكاء مرّ. ثم نهض خارجاً من الغرفة، وقد رنحه الخبر ومال بعطفه.

وفي نفس المساء، أنهيت إلى الكونتس، بأن غريباً جاء يستخبرني عن أنباء صحتها، فبدا عليها التأثر، وراحت تقصّ كل ما سردته على مسمعكم ثم أضافت.

- هذا الرجل الذي ما كنت أعرفه قبل ذلك الوقت، يتبعني الآن كظلِّلي. وإني لألتقي به دائماً، في مراحي ومغداي. وأراه ينظر إليّ نظرات غريبة دون أن يناقلني الحديث، ثم أطرقت لحظة واستأنفت.

- انظر. إني لأراهنك على أنه الآن واقف تحت نافذتي. قالت هذا، ثم غادرت كرسيها الطويل، وراحت تزيح الستار عن النافذة. فإذا بها تبصر الرجل الذي استقبلته في عيادتي. وكان جالساً على مقعد من مقاعد النزهة، وعيناه شاخصتان إلى نافذة الفندق. وبمشاهدته إيانا، نهض وابتعد دون أن يلتفت إلينا. . .

ومنذ يومئذ، كنت شهيد مأساة غريبة: لحب صامت أخرس، يقوم بين شخصين لا يعرف كل منهما عن الآخر شيئاً. أما هو فقد كان يتعلق بها قلبه، وتهفو إليها جوانحه. بإخلاص الحيوان الشاكر منقذه من الموت. وفي كل مساء كان يزورني متلهفاً.

- كيف حالها يا سيدي؟ يقول هذا وهو يعلم أني لأفهم من يقصد. ولقد كان يستعبر بمرارة، حين يعلم أن الضعف والمرض يتخونانها يوماً بعد يوم. وكانت هي تقول لي:

- إني لم أحاوره في حياتي إلا مرة واحدة. ومع ذلك يخيل إلي أني أعرفه منذ عشرين سنة. وكانا حين يلتقيان صدفة ويحييها ترد إليه تحيته في ابتسامة وقورة فاتنة. وكنت أشيم دلائل السعادة في وجهها: فهي المهجورة المتروكة من الزوج والأهل، وهي التي استيقنت من موتها القريب، كان يُشيع في وجهها الرضى والاطمئنان أن ترى نفسها محبوبة بمثل هذا الاحترام الخالص والشاعرية الملتهبة والإخلاص المحض ومع هذا كانت ترفض بيأس استقباله والتعرف إلى شخصه واسمه حتى ومكالمته ولو بكلمة ولقد كانت تقول:

(لا، لا إن ذلك ليفسد علينا ما نحن فيه من صداقة غريبة. وينبغي لكل منا أن يظل غريباً عن الآخر).

وفي الحق، لقد كان هذا الشاب، صورة ثانية لشخصية (دون كيشوت) لأنه لم يحاول مرة الاقتراب منها، كأنما كان يريد أن يستمسك حتى النهاية بالوعد الذي قطعه على نفسه في القطار: أن لا يحدثها أبداً. وفي الغالب، حين تشتد عليها نوبات مرضها وضعفها، كانت تنهض من كرسيها، وتروح تزيح الستار عن النافذة، لترى إن كان هو هناك؛ يرقبها وإذ تبصره جالساً على المقعد جلسته المتأملة الساكنة، تعود إلى كرسيها وعلى شفتيها بسمة الرضى والسعادة. . .

وماتت الكونتس، في الساعة السادسة من صبح ذات اليوم. فبينما كنت خارجاً من الفندق أقبل عليّ الفتى منطفئ اللون بادي الاضطراب وكان على علم بالنعي الأليم فقال ملتاعاً:

- أتمنى عليك يا سيدي رؤيتها لحظة، ولو أمامك. فرافقته إلى غرفة المتوفاة ولما مثل أمام سرير الميتة، تناول يدها وأذ يلثمها لثمات حراراً طويلة ما لها نهاية. . . ثم انفلت من الغرفة كمن فقد صوابه وصمت الطبيب من جديد، ثم قال:

هاكم يا سادتي أغرب حادثة أعرفها عن السفر، ويجب الاعتراف بأن الرجال مصابون بالخبل. فتمتمت امرأة بصوت خافت:

- إن ذينك المخلوقين اللذين ذكرت هما أقبل خبلاً وجنوناً مما تظن. لقد كانا. . . لقد كانا بيد أنها لم تستطع متابعة جملتها لأن البكاء قطعها عليها، وبما أن الحاضرين انحرفوا بالحديث عن وجهته كي يهدئوا جأشها، لم يعلم أحداً أبداً ما كانت المرأة تود أن تتم به كلمتها. . . لقد كانا. . .

(حلب)

كمال الحريري