مجلة الرسالة/العدد 702/المسرح والسينما
مجلة الرسالة/العدد 702/المسرح والسينما
بمناسبة مشاهدة وفود الجامعة العربية لرواية:
حواء الخالدة
بدار الأوبرا الملكية
للأديب خليل منصور الرحيمي
مسرحية ألفها الكاتب الكبير (محمود تيمور بك) زكي طليمات، ومثلتها الفرقة المصرية. وقد استطاعت هذه المسرحية أن تفرض نفسها على الجماهير - خاصتهم وعامتهم - أياماً وأياماً. وكانت طيالها حديث المشاهد العادي وشغل الأديب والناقد. فهل أتيح لها ذلك كله اعتباطاً وعفو المصادفة، أم تهيأ لها ذلك بما أودعته من خصائص فنية هي وحدها الحكم فيما يكتب له الخلود من ثمرات القرائح. وما يكون نصيبه الموت ساعة ميلاده. ذلك ما سنحاول تبيين أمره في نقدنا للمسرحية.
وقبل الدخول في صميم النقد نحب ن ننبه إلى أمور لها دلالتاه التي يجب ألا تفوت المعنيين بشئون الفن في مصر، وبخاصة الفن المسرحي.
أولاها أن هذه المسرحية كتبت بلغة عربية فصيحة. وكان من الأراجيف الشائعة في الأوساط الفنية، أن لغتنا الفصحى لا تجد استجابة من الجماهير، فضلاً عن أنها تعوق المؤلف عن النفوذ إلى غوار شخصياته مستجلياً خفاياها معبراً عن خلجاتها فكانت استجابة الجمهور لمسرحية (حواء خالدة) شاهداً صادقاً على كذب ما يرجف به القاصدون. فليس باللغة قصور ولا بالجماهير عقم، ولم يعد من الصائغ مد يد الملاينة إلى العامية المبتذلة جرياً وراء ادعاء ثبت بطلانه.
وثانيتها أن المسرحية، من المسرحيات ذات الموضوع، وقد عولجت بطرية علمية، فلم يعمد فيها المؤلف إلى إثارة عواطف الجماهير بالحوادث والمفاجآت والمشوقات المقتسرة. ولكنه استخدم الحوار للتعبير عن الحادث ومغزاه وسببه في آن معاً، فساوق بين العقل والعاطفة في كشفه عما يختلج في طوايا النفوس وما يستتر في أعماقها. وتلك طرفة جديدة في فن المسرحية المصرية، تبعد بها عن (بهلوانيات) الحوادث المفتعلة والاعتماد ف التشويق على النكتة المعتمدة. . . ومن هنا كانت هذه المسرحية بدء النقلة الجدية في حياتنا الفنية، والاتجاه بها وجهة سامية.
ونعود إلى المسرحية فنقول أنها موضوع وعلاج، ثم عرض وإبراز. أما الموضوع والعلاج فمن عمل المؤلف؛ وأما العرض والإبراز فمن عمل المخرج والممثل، ونبدأ حديثنا بالموضوع، وكيف عولج.
تدور المسرحية على قصة عنترة وعبلة، تلك القصة التي انحدرت على ألسنة الرواة من أغوار الماضي، ولا تزال شائعة على ألسنة الناس. فعنترة شاعر فارس تيمه الحب، فلم يعد يرى من الدنيا غير محبوبته، يهجر من أجلها الديار، ويركب في سبيلها الأخطار، ويرضى إكراماً لها بالهوان وإن كان أشجع الشبان. وعبلة حسناء بدوية، امتلأ قلبها بالحب لفارسها الأسود زهدت وفاء له في نعيم الحياة، وانتظرت الهناء في ظله وحده دون الناس جميعاً.
فماذا فعل تيمور بتلك المادة التي تقدمها إليه أقاصيص الرواة بيد جامدة في قفص صلب من جلال الماضي.
لقد ارتفع تيمور بالقصة على أوضاع الزمان والمكان والحادث الخاص، فجعل منها قصة إنسانية عامة، دائمة الحدوث ودائمة التجدد، غير متقيد بما يروي عنها من أخبار فالحادث لا يعنيه، وإنما تعنيه دلالته، وذاتيته لا تهمه، وإنما تهمه إنسانيته. . . فالفرد عنده وحدة تتركز فيها أهواء الإنسانية كلها، بل أنموذج صادق لنوازع النوع البشري عامته، على شتى تباين هذه النوازع. فالمسرحية إذا من مسرحيات النماذج البشرية، التي لا تعرض الأشخاص بخصوصياتهم ولكن بدلالاتهم الإنسانية. تلك الدلالات التي تهيئ لها نوزاع أصيلة واغلة في أعماق النفوس. بدأت مع الناس منذ بدأ الخليقة، وصاحبتهم في موكب الحياة، وستظل لهم مصاحبة أبداً، تلبس لهم كل لباس، وتتبدى لهم في كل لون.
فهي في البادية حيية خجولة، تضع نقابها وعينها من ورائه فاحصة وهي في المجاهل مروعة نفور تستتر بأوراق الشجر، ونفسها مشرئبة متطلعة. وهي في المدينة الحديثة متبرجة سافرة وحيلتها حاضرة عاملة. . . إنها هـ هي، في الماضي، والحاضر، وستكون هي عينها في المستقبل، فهي حوا التي لا تحول، حواء الخالدة.
من هذه الزواية نظر تيمور إلى تلك القصة. فلم تكن عبلة غير امرأة، امرأة من بنات حواء، بل قل إنها حواء نفسها؛ حواء التي مدت يدها إلى آدم بالكأس المرة اللذيذة منذ بدء الخليقة، فتجرعها مستلذاً مرارتها. ولم تزل تمد له يدها ولم يزل يتجرع الكأس ويستلذها، وليس يعنيها من أمره إلا أن تراه أمامها، بل وراءها، بل محيطاً بها من كل أقطارها. تحاربه لتحارب به وتدنيه لتصل به إلى غايتها، ثم تقصيه لتشبع غرورها بلذة سعيه إليها، غير باخلة عليه بكلمات الحب والإخلاص، ودموع العطف والرثاء. فمن هذا المزاج تملأ له الكأس المرة اللذيذة، التي يتجرعها مستلذاً مرارتها. فما هو الدافع الخفي الذي يقف المرأة من الرجل هذا الموقف؟؟ بل الذي يوجه غرائزها وأطباعها إلى ذلك. أرادت أو لم ترد؟؟
إن المرأة تعبد القوة وتهيم بها - قوتها هي - تلك الهبة التي حرمتها منها الطبيعة فكان لزاماً عليها أن تلتمسها في غيرها ثم تفرض نفسها على ذلك الغير لتكون هي الدافعة والمحركة، فهي القوة وهو آلتها، أما وسيلتها إلى تحقيق تلك القوة أو أخذها قسراً من الرجل، فهي شباك الطبيعة المعطاة لها من جمال ودلال، تتلمس بهما إعجاب الرجل، لتفرض عليه شخصها فإن بطل إعجابه بها فقد انهارت قوتها، وحق لها أن تغدر وأن تخون
ونتلمس مدى صدق هذه النظرية في عبلة فنراها تحب عنترة القوي بجسمه وروحه، مفاخرة بنات حيها بذلك الحب. فهي (عن عنترة أخذت بلاغة الشاعر) ثم هي مفتونة به، لأنها لا تجد سواه (من يحمي الذمار ويذود عن الحمى) ولكنها كما قلنا تحب القوة في نفسها، فلا بد أن يكون عنترة لها تبعاً، ومن هنا جاز أن تدفعه إلى المخاطرة بمصاولة الضرغام، ليأتها بجلده. والويل له إذا لم يأت به. لأنها لا تعرف إذ ذاك (ماذا تقول لنساء الحي إذا هو عاد صفر اليدين). فنفسها وغرورها وفرض شخصيتها هو همها الأول.
ولكن للقوة مظاهر غير الشجاع. فهناك قوة الجاه والثراء تعرض لها متمثلة في شخص الأمير (عمارة الكندي)، الذي يزور الحمى فتلاقيه عبلة يدفعها الحنق عن غياب عنترة، وتأخذ في ملاطفته، حتى إذا ما عاد بطلها حاملاً إليها جلد الضرغام نسيت الأمير وجاهه، لأن غرورها وجد وقوده. ولكنها تريد أن تتأكد لنفسها من أنها تستطيع استلاب هذا البطل أعز ما يملك، ألا وهو سمة رجولته وعنوان شجاعته، فتحتال عليه حتى يحلق لحيته. ثم لا يكون جزاؤه منها إلا التأبي، لأنها لا تريد غير عنترة القوي! ويذهب عنترة إلى فارس وتطول غيبته هناك ويجد الأمير في غيابه منفذاً إلى قلبها، فترضاه خاطباً إن جلب لها مطلبها المرهق من النياق العصفورية. فيرحل هو الآخر في طلبها. ولكن نعىّ عنترة يأتيها فتبكي فيه حبها؛ بل تبكي فيه الطبل الأجوف الذي ينشر أحاديث حبها؛ وسرعان ما تسمع بمقدم الأمير فتخف لاستقباله مراعاة لأدب الضيافة. وأدب الضيافة أحد سيوف المرأة الفواتك. ولكن عنترة لم يمت، فقد عاد إليها من (فارس)، بقلب جديد، لا يؤثر فيه نسيم الصحراء، ولا يسبيه حديث الغرام، ولا يأسره سحر العيون. . . عاد عنترة المدني الجديد. . . فتحتال لاسترجاعه، ولكن كيف، وقد تفتحت عينه على ما لم يدر من الدنيا، فتثور فيها الضغينة على قوتها المفقودة. وإذ ذاك تعد له الطعنة النجلاء، بأن تعيده إلى رقها بما تملك من وسائل، ثم تولى عنه انتقاماً، ويتم لها ذلك، فتطعن عنترة الذي حركت في قلبه الهوى، وتنحاز إلى خطابها الأمير، معتذراً من مداعبتها له بأنها كانت تلهو معه، ولصدقت لقالت (كنت ألهو به)!!
وتزف إلى الأمير وإن قلبها لضائق به. وما أن يعرض لها ركب عنترة، حتى تغري أميرها بنزاله، وتدفعه بيدها إلى الموت بسيف عنترة. ثم تعود لتنظر إليه، وقد أصبح سيد الموقف، وتغنُّ له النداء كما كانت تغنه. فتنسيه ما كابد بسببها من هوان، وما تجشم من أخطار، ويعود إليها منصاعاً مغلوباً على أمره. . . فأي شجاعة في قلبه هذا البطل المقحام. وما غناء شجاعته إذا كانت الحرب بينه وبين حواء!!!
لقد استطاع تيمور بحق أن يعرض لنا صورة عارية للمرأة، تلك التي تلعب بالرجل لتعوض به نقصها، بل لتسلبه قوته نفسها، وهو هو المطية الذلول، سواء أكان أشجع الشجعان أم أهو من أهل الهوان، كل هذا في أسلوب شائق جذاب، وحبك محكم يستحق عليه تهنئة الناقد وتقدير الأديب.
خليل منصور الرحيمي