مجلة الرسالة/العدد 705/الفقر آفة البشر
مجلة الرسالة/العدد 705/الفقر آفة البشر
كيف عالجه الإسلام
لصاحب السعادة الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا
الفقر أعظم آفات الاجتماع البشري، وأعظم ما يثير السخط على الحياة، وأشد ما يفجع الناس في حياة الكرامة والسكينة والاطمئنان، ويثير بينهم الحقد والبغضاء، ويرميهم بحروب الطبقات وحروب الأمم، فإذا عولج المجتمع منه نجا من آثار قرينيه وهما الجهل والمرض اللذان يتبعانه ويكوّنان معه ثالوث الشقاء الإنساني الذي إذا خلا منه وجه الحياة بدا جمالها ورضى الناس عن الحياة ورضى الله عنهم. . . لقد نظر الإسلام في حال الفقير فرآه إما أن يكون عاجزاً عن الكسب لعلة به، وإما أن يكون عاجزاً عن الكسب لفقد الوسيلة إلى العمل.
فأما الذي يعجز لعلة لا علاج لها فقد جعل مواساته حقاً على المجتمع لا تبرعاً وتطوعاً. قال الله تعالى (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) فصان بذلك كرامته الإنسانية.
وأما الذي يعجز لفقد الوسيلة إلى العمل فقد أوجب على الدولة إيجاد الوسيلة لتكسبه، وقد قنح الإسلام السؤال ودعا المسلم للترفع عنه، فاليد العليا خير من اليد السفلى. وقد أعطى رسول الله ﷺ سائلاً درهماً وأمره أن يشتري به فأساً وحبلاً ويحتطب، ولا يتعرض لذل السؤال.
والأصل في الإسلام هو العمل والتكسب، وقد حض عليه بجميع الوسائل، حتى لقد فضله على الانقطاع لعبادة الله، ولكنه كذلك أنصف المجتمع بإلزام الدولة أن تعين على إيجاد العمل لمن لا يجده، وأن تحمي من يعجز عنه.
وقد أراد الإسلام أن يجعل مستوى المعيشة متناسقاً ومتقارباً بين أتباعه، فحارب الترف في أعلى المجتمع، وطار البؤس في أسفله، وأتخذ لذلك وسيلتين: وسيلة الضمير وهي أقواهما، ووسيلة القانون، فجعل الحياة السعيدة الخالدة لا تنال إلا بالإنفاق على المستحقين من الأهل والأقربين والمساكين، ولا ينال متاعها المسرفون الذين جعلوا شهواتهم في هذه الحياة أهدافهم.
جعل ضمير المسلم لا يستريح إذا طعم ولبس وتمتع، وجاره ومن حوله قد عجزوا عن القوت؛ وحضه حضاً قوياً على البذل والقناعة والحد من شهواته في سبيل إغاثة الملهوفين والمحتاجين؛ حتى لقد أمر أن يطعم السيد الخادم مما يطعم، ويكسوه مما يكتسي.
قال المعرور بن سويد (رأيت أبا ذر رضي الله عنه عليه حلة وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه).
ولم يكتف الإسلام بإيقاظ الضمير لهذا، بل جعل للدولة أن تقتضي من فضلة مال الفرد مقادير لا يستهان بها لتكفل بوسائلها هي أيضاً حاجات الفقراء والمساكين.
وفي الحقيقة حين يحارب الإسلام الترف والاكتناز والربا ويقول: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. هذا ما كنزتم بأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) وحين يقول: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) وحين يقول: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) وحين يقتضي الزكاة على الأموال المكنوزة ويحرم الربا، إنما يريد بذلك كله أن يرفع مستوى الطبقات الفقيرة ويخفض من مستوى المترفين، ليجعل حياة الجميع سعيدة متناسقة.
فتحريم الترف يوجه الأموال إلى إنتاج أكثر فائدة للجميع، وتحريم كنزها يوجب تداولها، وتداولها من غير ربا يؤدي إلى المشاركة فيها. وإذا لم يجد الناس في الترف لذتهم وجاههم، وجدوهما في الإحسان والبر. وإذا لم يجدوا في الكنز ضمانا لهم وجدوه في ضمانة المجتمع الإسلامي المتكافل الذي لم يهمل أحداً، ولم يحتقر أحداً. وإذا لم يجدوه في الربا وجدوه في لذة الكسب والمشاركة مع إخوانهم الذين يعملون في أموالهم.
ولو قامت الدولة بواجبها في كفالة المتخلفين من إخواننا لما يصيبهم في أنفسهم أو أبدانهم، أو مما يصيبهم من انقطاع السبل بهم مع رغبته في العمل، وذلك بأن تكون سياستها قائمة على أساس التكافل الذي جاء به الإسلام في قول رسوله (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً) فوزعت الصدقة على من لا سبيل له غير الصدقة، ووزعت العمل على الناس بقصد الخير العام ولو على سبيل الإجبار على عمل معين للقادر عليه، لقاتلت هي أيضاً الفقر بوسائلها الفعالة.
وقد جعل الإسلام في هذا سلطات واسعة لولي الأمر، فله في سبيل الإصلاح العام أن يحدث أقضية بقدر ما يحدث من المشكلات، وله أن يكيف الأحوال لتسير وفق الغرض الأساسي للإسلام، وهو الإحسان.
وقد قرر الإسلام في وضوح وعزم مبدأ المساواة، وهو أعظم المبادئ في مقاومة الشرور الاجتماعية وأخصها الفقر، وجعل هذه المساواة مستقرة في ضمير المسلم، ومالكة زمام تصرفاته في العبادة والمعاملة والأدب.
ومن فضل الدعوة المحمدية على البشر أنها تبغض في الاستعلاء والترفع على الناس، حتى ليكاد المسلم يفر من مجرد الخاطر الذي يخطر بذهنه بأنه أفضل من غيره. والمسلم الصادق لا يضمر في نفسه أنه خير من خادمه مع سيطرته عليه.
والله تعالى يشتد على الرسول نفسه ويعاتبه بالقرآن، لأنه تصدى لقوم من رؤوس العرب يرجو من وراء إيمانهم إيمان أقوام يتبعونهم، وتلهى بهم عن رجل فقير ضعيف جاء راغباً في الأيمان فقال:
(عبس وتولى أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى. أما من استغنى فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى. وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى فأنت عنه تلهى)
ولست تجد في أي تشريع احتفالا بالفقراء واعتناء بشأنهم مثل ما جاءت به الدعوة المحمدية، إذ تحض المسلمين على رياضة أنفسهم على احترام الغير وتقديره (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء، عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان).
ومتى رسخ هذا المعنى في أذهان الملوك والحكام والعامة والفقراء والأغنياء والملاك والعمال كما أرادته الدعوة المحمدية، استحالت الفرقة الاجتماعية وما يثيرها من حسد وبغض، وما يترتب عليها من خلاف وشر ثم قتال وحرب، وما يكون من تسلط الأقوياء على المستضعفين، أو ما يكون من ظهور المستضعفين واستذلالهم لمن كانوا أقوياء.
ظاهر إذاً أن مبدأ المساواة بالمعنى الإسلامي هو من أكبر دعامات البر وأفتك الأسلحة بآفة الفقر.
وقد دعا الإسلام إلى البر بكل وسيلة، دعا إليه بالترغيب والترهيب، ودعا إليه بقوة القانون والدولة، فقال تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات).
وقال (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقال (أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين) وقال. (كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين).
وكتاب الله وحياة رسوله يفيضان بفضل الإنفاق في سبيل الله، واتخاذ الدنيا مطية للآخرة. ولم يكتف صاحب الدعوة ﷺ بأن تكون دعوته موجهة بكل قوتها للبر بالفقراء والمساكين والضعفاء والمصابين والمعوزين، بل جعل البر بهم حقاً مفروضاً لا سبيل إلى المماطلة فيه، حتى إن العرب لما ارتدت عن دفع الزكاة عقب وفاة الرسول، ونصح الخليفة الأول بأن يداريهم، وقد تفاقم الشر، قال رضى الله عنه (والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه). أي أنه يوجه كل قوى الدول لقتال قوم يمنعون حق الفقير فيما قيمته قيمة حبل يعقل به بعير.
فحقوق الفقراء في الدول الإسلامية مصونة، وليس لأحد أن يمن بها فهي حق الله في ماله وكسبه وملكه، وقد بينت الشريعة الزكاة وأنواعها وكيفية أدائها، كما بينت مستحقيها وما لهم وما عليهم بتفصيل دقيق.
وكان من أثر الدعوة المحمدية للبر والإحسان تلك الأوقاف المحبوسة على الخير في المشرق والمغرب، وكان من أثرها أن تطهرت نفوس المسلمين، حتى حبسوا من أملاكهم على القطط والكلاب والحيوانات. ومن أمثلة هذا أن نور الدين محمود وقف أرضاً في دمشق لتكون مأوى للحيوان الهرم، يرعى فيها حتى الموت.
وتاريخ المسلمين في كل أوطانهم بفيض بالبر والعطف والرحمة بالبؤساء والغرباء، وما الكرم الذي كان به فخر البيوت والأسر والشعوب إلا أثر من آثار روح البر والإحسان الإسلامي.
ولم يكن البر في الدعوة المحمدية خاصاً بأهل الجنس أو الدين، ولكنه كان عاماً للمساكين من البشر، فما منع اختلاف في الدين دون البر. قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين) (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)
وتنظيم البر في العصر الحاضر يجب أن يقوم على نفس الأسس والوسائل التي جاءت بها الدعوة المحمدية، لأنها أفعل وأدوم، ولكن يجب كذلك أن نتصرف ونجتهد كي نحقق المقصد والغاية، وأن ننظر في عصرنا، وموارد الثروة فيه، ومصادر الغنى، وحالات الناس لنكفل الخير للجماعة ونرضي الله سبحانه وتعالى، حتى يعود للظهور بيننا من كانوا يأبون أن يتعرضوا لوجوب أداء الزكاة عليهم بإنفاق أموالهم كلها، حتى قيل لبعضهم كم يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال: أما على العوام بحكم الشرع فخمسة دراهم، وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع.
ولهذا المعنى تصدق أبو بكر رضى الله عنه بجميع ماله، وعمر رضى الله عنه بشطر ماله.
ولا عجب فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وروح الدعوة المحمدية واضحة في أن الزكاة وحدها لا تبرئ أموال المسلمين من حقوق المحتاجين فيها، فما دام محل للبر والصدقة فهي واجبة، وحق المسلم لا ينتهي بأداء الزكاة.
يجب إذاً أن نستلهم من شريعة الإسلام الهدى، وأن نستوحي من روح الدعوة المحمدية نظاماً للبر تقوم عليه الدولة، لتوازن بين الثروات والحاجات، وتقيم التكافل الاجتماعي، ونقضي على حرب الطبقات (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).
عبد الرحمن عزام