مجلة الرسالة/العدد 705/المسألة الإسلامية في الهند
مجلة الرسالة/العدد 705/المسألة الإسلامية في الهند
للأستاذ عباس محمد العقاد
قرأت في بعض الصحف المصرية خطاباً موجهاً إلى السيد محمد علي جناح زعيم الرابطة الإسلامية في الهند لم أر كلاماً أدل على الجهل بالقضية الهندية والتهجم على الشؤون الكبرى بغير علم ولا بصيرة.
ونحن قد ألفنا في صحافة مصر أمثال هذا التهجم العجيب على الشؤون المصرية الخارجية، ولكن التعرض لمشكلة الهند بمثل ذلك الجهل المطبق قد جاوز حدود التهجم المعهود في الصحافة على إطلاقها إن صح أن يكون للتهجم حدود.
فالذين أساءوا الفهم وأساءوا إلى واجب الضيافة في توجيه الخطاب إلى السيد جناح لم يفكروا في موضوع الهند وإنما فكروا في كلمة واحدة وظنوا أن كلمة الهند تقابل كلمة مصر، فهما إذن قضيتان متشابهتان يصدق على إحداهما ما يصدق على الأخرى بلا اختلاف ولا حاجة إلى بحث طويل أو قصير لمواطن ذلك الاختلاف.
وهذا هو الخطأ الأول.
وهذا كذلك هو الخطأ الأكبر.
فمصر غير الهند في كثير من الاعتبارات، ولا سيما اعتبارات القضية السياسية؛ لأن مصر قومية واحدة، تتكلم بلغة واحدة وتشترك في مرافق واحدة، ولا توجد فيها أقليات منعزلة أو قابلة للعزلة في حيز المكان أو في المصالح الاجتماعية.
أما الهند فعلى نقيض ذلك لا تشمل على قومية واحدة بأي معنى من معاني التعريف الحديثة أو القديمة.
فاللغات واللهجات فيها متعددة تتجاوز المائة، وقد شهدنا بأنفسنا ثلاثة أو أربعة من الهنود المتعلمين يجتمعون في مكان واحد ولا يستطيعون التفاهم بينهم بغير اللغة الإنجليزية، لأنهم يتكلمون في بلادهم بلغات شتى تختلف في الأصول، ولا ينحصر الاختلاف بينها في مجرد اللهجات.
واختلاف الأديان هناك أكبر من اختلاف اللغات واللهجات؛ لأن البرهمية وحدها مشعبة الفرق والمذاهب، متعددة الفرائض والشعائر، فضلاً عن البوذية وطوائفها، وعن الفرق الأخرى التي نصفها من الإسلام ونصفها من الديانات الوطنية القديمة كالفرقة المشهورة باسم (السيخ) وعدتها نحو سبعة ملايين.
وليس اختلاف الأديان بمعزل عن المسائل الاجتماع وما يلابسها من مسائل الحقوق المدنية والتشريعية.
فإن البراهمة يدينون بالطبقات الأربع، ويحكمون بالنجاسة على طائفة تسمى بالمنبوذين أو الذين لا يجوز لمسهم قد يتجاوز عدد أبنائها في الهند خمسين مليوناً من النفوس البشرية، ولا ذنب للعالم البشري في اعتبار هؤلاء القوم من الآدميين إذا كان البراهمة لا يعتبرونهم كذلك، لعقيدة من العقائد التي هجرها الزمن ويأبى أن يهجرها البرهميون!.
ويظهر لنا مبلغ التعصب في رعاية هذه التقاليد من حقيقة واحدة، وهي أن المهاتما غاندي على اعتباره مثلاً في السماحة الإنسانية قد أنذر بالصيام حتى الموت إذا منحت هذه الطائفة دوائر معينة في قانون الانتخاب.
وفي الهند ثمانون أو تسعون مليوناً من المسلمين لا يعتبرون قلة في قومية واحدة بأي معنى من معاني القلة المصطلح عليها؛ لأنهم كثرة غالبة في بعض الأقاليم، ولهم أصول جنسية ولغة مكتوبة غير التي تشيع بين جمهرة الهنود. وقد يزيد عددهم على العدد المسجل في دفاتر الإحصاء؛ لأنهم يثبتون وثائق زواجهم في غير دواوين الحكومة، ولا يرجعون إلى تلك الدواوين في وثائق الولادة والميراث.
وتشتمل الهند على مائة مليون موزعين في سائر الأرجاء يحكمهم أمراء مستقلون أو على نصيب من الاستقلال.
وقد بينا هذه الحقيقة قبل سبع سنوات في كتابنا عن هتلر حيث قلنا في صفحة 158 منه إن (بين الأمم المستقلة والأمم التابعة أمماً كأهل الهند يتقدمون في طريق الاستقلال، وقد تكون للنازيين مصلحة في الحلول من أهل الهند محل الإنجليز. . . ولكن ما هي مصلحة أهل الهند؟ وما هي مصلحة العالم؟ وما هي مصلحة الأمم الغالبة أو الدول المغلوبة؟ وما هي مصلحة الأمم الواقعة في الطريق؟.
(على أننا لم نذكر الهند لنقرر هذه الحقيقة، فهي غنية عن التقرير، وإنما ذكرناها لنقول إن الحالة الحاضرة في الهند لا ترجع إلى العوامل الخارجية كما ترجع إلى العوامل الداخلية، وإن بريطانيا العظمى لو رفعت يدها اليوم عن تلك البلاد لما زالت جميع الحوائل بينها وبين قيام الحكومة الوطنية الشاملة، ولا قاربت الزوال.
(فهناك الأمراء الحاكمون في ولاياتهم وهم لا يتفقون ولا يرضون أن يحكمهم مجلس في عاصمة بعيدة عن عواصم الإمارات.
(وهناك المسلمون وهم كثرة في بعض الأقاليم وقلة في بعض الأقاليم الأخرى، ولو شملتهم حكومة واحدة لأصبحوا قلة ضائعة في جميع الأقاليم.
(وهناك المنبوذون وهم عشرات الملايين ينظر إليهم البراهمة نظرتهم إلى الرجس الذي يفرقون من ظله، ولا خير لهم في حكومة تضعهم هذا الموضع وتهملهم هذا الإهمال.
(وهناك اختلاف الأقاليم في الأجناس واللغات وعناصر الثروة ومعادن التربة الزراعية، مما لا يجتمع نظيره إلا في قارة من القارات الكبار.
(فمسألة الهند العضال ليست مسألة السيادة الخارجية وحدها سواء كانت عالمية أو مقصورة على بعض أجزاء العالم. إذ لو فرغت كل سيادة عالمية في الدنيا لما فرغت المسألة الهندية، بل لعلها تبدأ يومئذ من جديد. . .).
نعم تبدأ على نحو لا يخطر على بال أولئك الواهمين الذين يحسبون (الهند) كلمة ولا تزيد معرفتهم بها عن هجاء حروف هذه الكلمة.
فإن نهرو زعيم المؤتمر الهندي شيوعي وليست الشيوعية على مسافة بعيدة من الحدود الهندية، وليس طريق الزحف العسكري على الهند بالطريق المسدود.
وعصبيات الدين في داخل البلاد أعجب ما عرف الناس من مصائب المصيبات في جميع الأقطار.
ففي تلك البلاد أناس يقدسون البقر ويحكمون بالنجاسة على خمسين مليوناً من النفوس، ويتحرجون من ذبح البقر وقد ذبحوا في بيهار وما جاورها أربعين ألف مسلم، لأنهم تقربوا بضحاياهم في عيدهم الكبير!.
فأوجز ما يقال في مشكلة الهند أن حكمها كلها بدستور واحد من هيئة واحدة وراء المعقول والميسور.
وإن نظام (الباكستان) ليس بالنظام العجيب كما يبدو للوهلة الأولى، ولا يمكن أن يوصف بأنه انشقاق وطني عن قومية واحدة، كما تخيله بعض الواهمين في هذه الديار.
ولم نقرأ في صحافتنا مقالاً يدل على الإحاطة بحقيقة المشكلة كالمقال الذي كتبه الدكتور هيكل باشا في صحيفة السياسة حيث قال في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر الماضي: (ويدل على هذا الجور كذلك أن الهند ليست أمة لها مقومات الأمة من اتحاد في اللغة أو في العقيدة أو في العنصر، بل هي أدنى إلى أن تكون قارة بين أديانها ولغاتها وعناصرها من التباين ما يزيد أضعافاً على ما بين دول أوربا. .)
وقال قبل ذلك: (ما كنا لنعالج هذا الموضوع لولا ما نرى في التعريض بالمسلمين من الدعاة إلى الباكستان من جور لاشيء من الإنصاف فيه. يد على هذا الجور أن هؤلاء الدعاة إلى الباكستان لم يطلبوا أي امتياز للأقليات الإسلامية الموجودة في سائر ولايات الهند. .)
وهذه صورة قريبة من صورة المشكلة الكبرى التي يعالجها نظام الباكستان. ونحن لا نقرر هذه الحقيقة لأن الباكستان في رأينا يحل المشكلة ويحسم الخلاف، فإن الباكستان يحل بعضاً منها ويترك بعضها الآخر في انتظار الحلول. ولكننا نقرر تلك الحقيقة ليعلم الواهمون عندنا أن الهجوم على المسائل العالمية هجوم على ما يجهلون وخلط في أمور لا تؤمن عاقبة الفتوى فيها بغير علم وبغير روية، وإن الحكاية ليست حكاية كلمة إزاء كلمة وثلاثة حروف إزاء ثلاثة حروف، ولكنها حكاية أمم وأرواح وقضايا تجور على سلام العالم كله إذا عولجت بغير حقها من الفهم والدراية وحسن التقدير لعواقب الأمور.
أما النقص في نظام الباكستان كما نراه فخلاصته أن الأقاليم التي يراد لها الاستقلال لا تأوي إليها جميع المسلمين وليس سكانها جميعاً من المسلمين، وان الرابطة الإسلامية يتبعها عدة ملايين وينفصل عنها فريق آخر بعضهم من الشيعة وبعضهم من السنيين، وأن تبادل السكان بين الأقاليم الإسلامية والأقاليم الهندوسية لتسوية عناصر القلة في جميع الأقاليم ليس بالحل الميسور ولا يتأتى إتمامه في بضع سنوات.
فربما كان نظام الاتحاد على المثال المتبع في الولايات المتحدة أقرب إلى تسوية المشكلة مع الأخذ بالأساس المقرر في نظام الباكستان.
وعلى ذكر الولايات المتحدة الأمريكية نعود إلى الواهمين ليفهموا مرة أخرى أن تقسيم الولايات شيء وجريمة الانشقاق شيء آخر، وأنه إذا جاز هذا التقسيم في بلاد كالبلاد الأمريكية لا تفرق بين أبنائها أمثال تلك الفوارق ولا تعترضهم أمثال تلك المشكلات، فنظام الباكستان في الهند أحق بالتدبر والمعذرة أدنى إلى القبول.
عباس محمود العقاد