مجلة الرسالة/العدد 705/لمن الملك اليوم؟
مجلة الرسالة/العدد 705/لمن الملك اليوم؟
نبوءة من غير نبي
يعيش جارنا طاهر أفندي الكاشف بعد خروجه إلى المعاش عيشة الصوفي المتبتل، يتعبد النهار، ويتهجد الليل، ويُزَجّي ما بقي من فراغه بمطالعة الصحف ومتابعة السياسة ومراقبة الحوادث. وقد آتاه الله ألمعيّة عجيبة يستشف بها حجاب الغيب كأنه رسول ينطق عن الوحي؛ فلا يتظنن إلا تحقق ظنه، ولا يتكهن إلا وقعت كَهانته. وكثيراً ما يرى في المنام أموراً لا يلبث أن يراها في اليقظة. وربما أخذته حال من الذهول عن الوجود الخارجي تنفذ بصيرته فيها إلى غيابة المستقبل، فيكون كما يقول أشبه بالصبي الذي ينظر في فنجال (المندل) يرى ما لا يُرى، ويَسمع ما لا يُسمع!
قص علي في صباح هذا النيروز رؤيا من رُؤَى يقظته لم أجد كلاماً خيراً منها أجعله مقدمة لهذا العدد، وفاتحة لهذا العام. قال: كنت في الساعة التي تفرق بين عام وعام في تقويم الزمن، وتفصل بين فصل وفصل في رواية الحياة، قائماً في غرفتي أصلي ركعتين لله توديعاً لعام قضى، واستقبالاً لعام أهل. . . وكان الجو المتماطر القارُّ قد حبس الناس في الدور فلا أسمع في الشوارع المحيطة صوتاً ولا حركة؛ فوجدت نفسي من جلال الساعة ورهبة الوحدة وعمق السكون، كأنما تنسرح من ثوبها المادي وتندمج في الروح العام والشعور المطلق، ثم تغيب في طوايا المجهول، وتصفَحُ كتاب الغد ورقة بعد ورقة، حنى تقع على عنوان من الدم معقودٍ على ما سجلته يد الأقدار من قضايا الدول ومصاير الشعوب، فتحدّق إلى العنوان، وتدقق في السطور. ثم خيِّل إليَّ وأنا مغمض العينين أني أرى نقطة مربعة من النور تنداح في الحماليق وتنبسط حتى تصير في مثل الصحيفة الكبيرة، وأني قرأت في هذه الصحيفة كلاماً كنت في أكثر الأيام أفكر في بعضه، وقد وعته ذاكرتي حتى لأستطيع أن أؤديه إليك الآن على سرده. فقلت له أعد عليَّ بعضه إن شئت. فقال: اجعل بالك إليّ. ثم انطلق يتلو عن لوح قلبه:
(قال جون بول الماكر لصديقه العم سام بعد أن غسلا أيديهما من دم التنّين الألماني وحمدا الله على السلامة: ما هذا الدب الروسي الذي لجّ في الخلاف وأصرّ على العناد حتى كدر بجموحه صفو السلام، وزور بطموحه معنى النصر؟ ألسنا بما جاهدنا في سبيل الحرية والحق والعدل أولياء الله وخلفاءه؛ جعل إلينا وراثة الأرض، وكتب علينا سياسة العالم؟ فما سكوتنا إذن عن هذا الدكتاتور الآخر؟ فقال سام وقد تذكر أن استجابة رزفلت لتشرشل قد كسبته نصف الدنيا: من الطبيعي أن ينبو علينا هذا الوحش ما دام طعامه غير طعامنا، وكلامه غير كلامنا، ومرامه غير مرامنا، ونحن خليقان أن ننظر في أمره؛ فما عندك من الرأي؟
قال جون بول وهو ينفض بيبَته على كعب حذائه: الرأي عندي أن نتغدى به قبل أن يتعشى بنا. وسأضع بين يديك موارد الإمبراطورية، لتضمها إلى موارد الجمهورية، فيكون منهما جميعاً ذلك السلاح الذرَّي الخفي الذي يمحو الروسيا والروس في يوم أو بعض يوم. وحينئذ نقسم الكرة بيننا قسمين بالطول أو بالعرض كما تشاء، وأترك لك أن تختار إما غرب جرينتش أو شمال خط الاستواء!
وكان الدب في الوقت نفسه يقول لخليفة استالين: ما هؤلاء الذئاب الذين لبسوا مسوح الرهبان حتى سلموا وأمنوا، وولغوا في دماء المغلوبين حتى بشموا وسمنوا، وظنوا أن قذائفهم الذرية ما نعتُهم من الله فبغوا بغي (موسو)، وطغوا طغيان (هتلر)؟ إن رسالة الشيوعية إعتاق الإنسان من رق الإنسان. ولن يزول من الأرض استعباد الأفراد برأس المال، واستعباد الأمم في سبيل المال، ما دام على ظهرها ناطق بالإنجليزية. ومن المحال أن يتحالف الخير والشر، ويتآلف الصلاح والفساد. فسبيلنا إذن أن نعمم رسالتنا، ونتمم إنسانيتنا، فنبيد هذه الجراثيم بما هيأه لنا الله من قوى المال ومعجزات العلم فيطهُر الكون ويصلح المجتمع.
وما هي إلا مواضعة الرأي بين رب الشيوعية وزبانيتها حتى انبثت عيون الروس في مخابئ إنجلترا وأمريكا تبحث عن أوكار الطاقة الذرية. وفي ساعة من ساعات الليل الكافر أُرسلت عليها صواريخ روسية ألمانية لم يصل العلم السكسوني إليها بعد. فزلزلت الأرض كلها بضع ثوان، ثم سكن الزلزال وسكن كل حيّ وأنقضَّ به كل قائم.
وأصبح الصباح الأغبر الدامي فإذا العالم قد أسلم وجهه لقوة واحدة؛ وإذا عملاق أصلع من عماليق موسكو يخرج من الكرملين كما يخرج العفريت من القمقم، فيطول ثم يطول حتى يضع رجلاً فوق لندن، وأخرى فوق واشنطون؛ ثم يقول وقد ازدهاه النصر وتملكه الفخر: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه في الغرب أحد! ولكنه يطلع أمامه فيرى شفقاً من سنا الشرق يغشى بلاد الإسلام من مراكش إلى تركية وإيران وأفغانستان وباكستان وقسم عظيم من ملكوت الصين، وقد تألقت في جنباته المآذن والقباب، وأشرقت من خلاله وجوه تمج أفواهها النور، وتشع أعينها الأمل، وتجيب ألسنتها بصوت واحد تجاوبته الأرض ورددته السماء: الملك لله الواحد القهار! ثم يعلو من بين هذه الوجوه وجه ترمقه الدول العربية، وترقبه الأمم الإسلامية، حتى يواجه العملاق الذاهب بنفسه، ثم يقول له: ألست تزعم أن لك رسالة تشيع وسائل العمل بين العمال، وتفك رقابهم من أغلال رأس المال؟ إن هذه الرسالة آية واحدة من آي الرسالة الإلهية المحمدية شوهتها نقائض العقل البشري بما دس فيها من إفراط وإقساط وتهور. وليس من المعقول أن يسعد الفرد وتصلح الأمة وترقى الإنسانية بإلغاء الوساطة الطفيلية بين المنتج والمستهلك وهي مشكلة واحدة من مشكلات الحياة. هناك علاقة الفرد بنفسه وقد تركتموها كعلاقة الآلة بالمحرك عليها أن تعمل ولها الوقود والزيت والشحم. وهناك علاقته بأسرته وقد جعلتموها كعلاقة الفروج بالفروج في معامل التفريخ الصناعي لا يعرف حنو الجناح ولا يدرك نعيم القنّ. وهناك علاقته بدولته وقد رددتموها كعلاقة قطع الشطرنج باللاعب ينقلها من خانة إلى خانة ولا إرادة لها ولا وعي. وهناك علاقته بربه وقد قطعتموها فانقطع نور الوحي عن ضميره وعقله. وبمثل هذه العلائق الواهنة لا يتماسك مجتمع ولا يترابط شعب. فإذا كنت صادقاً في دعواك، مخلصاً في دعوتك، فاقتبس للعالم الجديد شريعة الإسلام؛ فإنها وحدها هي النظام الذي يحقق الوحدة الإنسانية: يؤاخي بين الناس كافة في الروح والعقيدة لا في الجنس والوطن؛ ويسوي بين الأخوة جميعاً في الحقوق والواجبات فلا يميز طبقة على طبقة ولا جنساً على جنس ولا لوناً على لون؛ ويجعل للفقير حقاً معلوماً في مال الغني يؤديه إليه طوعاً أو كرهاً ليستقيم ميزان العدالة في المجتمع؛ ويجعل الحكم شورى بين ذوي الرأي فلا يحكم طاغ بأمره، ولا يصر مستبد على غيه؛ ويأمر معتقديه بالإقساط والبر لمن خالفوهم في الدين وعارضوهم في الرأي؛ ويوحد بي الدين والدنيا ليجعل للضمير السلطان القاهر في المعاملة، وللإيمان الأثر الفعال في السلوك.
عندئذ يتصاغر عظموت العملاق ويتقاصر طوله، ثم يقول في استسلام وإسلام: تلك مبادئ الفطرة؛ فإذا كانت هي مبادئ الإسلام فسيدخل فيه الناس بالطبع، ويعتقدونه بالضرورة كلما تقدم العلم وترقى العقل وتهذب الخلق وصحت المعرفة!
أحمد حسن الزيات