مجلة الرسالة/العدد 710/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 710/الأدب والفن في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1947



محو الخلافات المذهبية توثيق لعرى الوحدة الإسلامية:

تألفت في مصر لجنة كبار رجال الفكر وعلماء الفقه والمعنيين بالدراسات الإسلامية هدفها رفع الخلافات المذهبية بين المسلمين وتمحيص المسائل التي هي مثار هذه الخلافات في ضوء البحث الحر والتغاضي عن النزعات التي تدعو إلى التعصب في الفروع والمسائل الشكلية.

وهذا هو الواقع عميل جليل، فإن هذه الخلافات التافهة كانت شر ما منيت به الوحدة الإسلامية، وكانت عامل التفرقة بين صفوف المسلمين، حتى شتتت شملهم وصدعت بنيانهم الأصيل، فلم يقو على رد المستعمر الدخيل.

لم تكن هذه الخلافات في شئ من أصول الدين الواضحة، ولكنها كانت من صنع السياسة وأصحاب الأغراض والمآرب في الملك والحكم يوم كان الدين هو الأساس في الملك والحكم، فأخذ هؤلاء يؤلفون العصبيات ويخلقون الجماعات، بما يختلقون من الأخبار والآثار، وبما يعملون في إثارة النفوس وتأريث العداوات، وزاد في البلاء بهذا صنيع الجهلة من الفقهاء الذين كانوا يستجيبون لأهل السلطان وطلاب الحكم بما يقوي نعراتهم ويتمشى مع أهوائهم ومن العجيب أن الأيام تطورت، والأحداث تواترت، وفتح على المسلمين من أبواب البلاء والعناء ما بصرهم بعاقبة الوبال في تلك الخلافات التي فرقت الصفوف، وباعدت بين القلوب ولكنهم لم يتبصروا لحالهم، ولم يدبروا لشانهم، ولم يسارعوا إلى إنقاذ أنفسهم، حتى يمكنهم أن ينقذوا أنفسهم من غيرهم!!

وكثير ما أشفق عقلاء المسلمين من هذه الحال الأليمة، وكثير ما أهاب المصلحون والغير على الإسلام والوحدة الإسلامية بالمسلمين أن يتلافوا تلك الصغائر وأن يوحدوا بين اتجاههم في الرأي لتم لهم الوحدة في الغاية والهدف بازاء الاستعمار الأجنبي وتغلغل الدول الأوربية في بلادهم، وقد كان السيد جمال الدين الأفغاني رضوان الله عليه وهو شريف النسب يعتد بنسبه كثيرا - أول من ندد بهذه الحال وسخر من المسلمين لإصرارهم عليها وهزئ بأولئك الذين يتخذونها مجالا للكلام، ومن كلماته المأثورة في ذلك (لا يصح بحال أن نجسم أمر هذه الفروق في الفروع ونجعلها واسطة للتفرقة وللنزاع فالخصام والاقتتال، وإذ سلمنا أن وجود جهل الأمة وسفه الملوك الطامعين في توسيع ممالكهم كان مفيدا في الزمن الماضي، أو يرجى ورائه إحقاق حق وإزهاق باطل فأن بقاء هذه النعرة إلى اليوم ليس فيه إلا محض الضرر وتفكيك عرى الوحدة الإسلامية وقد آن للمسلمين أن ينتبهوا من هذه الغفلة ومن هذا الموت قبل الموت. .)

هذه الصيحة التي هتف بها السيد جمال الدين الأفغاني منذ أكثر من ستين عاما كثيرا ما تداولها الألسن، وتناولتها الأقلام، وهتف بها المشفقون على الوحدة الإسلامية والداعون لجمع كلمة المسلمين، حتى اقتنع السواد الأعظم بضرورة تحقيقها ووجوب العمل على تنفيذها وإني لأذكر إنه لما عقد المؤتمر الإسلامي في القدس عام 1931 تقدم فضيلة السيد آل كاشف الغطاء وأم وفود المسلمين للصلاة في المسجد فطرب المسلمون في سائر أنحاءالأرضلهذا النبأ ورأوه بشير خير وتمنوا أن تكون هذه بداية القضاء على الفروق المذهبية القائمة. وقد كان من الطبيعي أن يفزع الاستعماريون لهذا، وأن يتساءلوا عن الخطوة التي تكون بعده، ولذلك أخذت الصحف الأجنبية يومذاك تعلق على هذا النبأ بمختلف التأويلات، والتهويلات، وقالت إحداها وهي بسبيل تحذير الاستعمار الأوربي: يظهر إن المسلمين بدءوا يجمعون كلمتهم للقيام بحرب مقدسة ضد العرب من أجل إبقاء فلسطين.

وفي مقام الأنصاف نذكر أن المغفور له الشيخ المراغي طالما ردد الدعوة إلى هذا الغرض، ونادى جهارا للعمل على تلافي تلك الخلافات التي لا مبرر لها، والتي تؤدي إلى الأضرار بالمسلمين بقدر ما تفيد الاستعمار والمستعمرين.

ولعل القراء يذكرون أن (الرسالة) كثيرا ما أهابت بهذا في كل فرصة سانحة ومناسبة داعية، وكثيرا ما باركت أصوات الدعاة لهذا العمل، والحداة للركب أن يسير، ثم كثيرا ما تعجبت للمسلمين أن تظل بينهم هذه الخلافات قائمة وهم الذين يتوجهون جميعا إلى قبلة واحدة، ويأخذون بكتاب واحد هو القرآن ويسيرون بهدى نبي واحد هو محمد صلوات الله عليه، فإذا ما تألفت اليوم لجنة من أكابر الفضلاء والعقلاء للعمل على محو هذه الخلافات وتمحيص الآراء في دائرة الفكر الحر، فإن مما يطرب الرسالة أن تبارك هذا العمل وأن ترجوا التوفيق فيه، كما يطربها ويسرها أن تسهم في ذلك، وأن تفسح في صفحاتها لما يكون من تمحيص فكرة، أو تصحيح رأي، أو تحقيق مسالة، أو إذاعة دعوة في هذا السبيل.

كان. . . ثم انقضى!

إلى عهد أدركناه كان المولد النبوي الشريف موسما للأدب والشعر والفن والغناء وكان في هذا مجلى العبقريات الكبيرة والأصوات الرخيمة، والمواكب الضخمة الحافلة بكل لون وكانت مصر تمضي على هذا ثمانية أيام وكأنها في فرح شامل عام وكأني بالناس قد ابتدعوا بدعة الحلوى في المولد النبوي حتى يتخففوا من الطعام الثقيل ليفرغوا إلى ما ينشدون في مباهج المولد من متع الفن ومجاليه. . .

كان المولد النبوي موسما للسهرات العظيمة الممتعة بقيمها الأثرياء والوجهاء من أرباب البيوتات الكبيرة العريقة، ويستقدمون لإحيائها عباقرة المغنين وأهل الفن من أمثال عبدة الحموالي ويوسف المنيلاوي وأحمد ندا وعبد الحي ومحمد عثمان وغيرهم؛ ويفتحون أبوابها لرواد الحظوظ والسماع من سائر الطبقات، ويمدون في أسبابها إلى نفوس الفقراء بنحر الذبائح وإطعام الطعام. . .

وكان المولد النبوي موسما لأقامة الحضرات الشجية الفخمة، يقيمها أبناء الطريق على شروطهم ويحيها كبار المنشدين على ذوقهم، ويقبل عليها الناس من كل لون، يستمعون لرائع التواشيح ورائق الفن. .

كان المولد النبوي ذكرى تهز عواطف الشعراء، وتملا وجدانهم، وتسموا بنفوسهم وأرواحهم، فتجيش شاعريتهم بأقوى القصيد وبارع النشيد، ويهل (شوقي) على العالم الإسلامي ليهز عواطفه بقوله: (ولد الهدى فالكائنات ضياء.)

وأخيراً كان المولد النبوي صلة بين الحاكمين والمحكومين، فكان الشعب والحكومة يلتقيان في ساحة، ويتقابلان في أحيائه، ويتقاربان في ذلك على المحبة والألفة والتخلص من الأوضاع الرسمية والبرامج الأميرية ولهذا كان الشعب يشعر دائما بأنه قريب من نفوس الحاكمين. . .

كان هذا كله. . . وكان المولد النبوي يأتي كل عام بجديد في هذا كله أما اليوم فقد انقضى هذا كله، وأصبح الشعب بسائر طوائفه وطبقاته لا يحس بهذا المولد الأعلى وضع رسمي آلي، فالموظف لا يعنيه منه إلا إنه يوم راحة من عناء الديوان، والتاجر لا يحفل فيه إلا ببيع لعب الحلوى للاطفال، وطوائف الشعب لا تستقبله إلا على أنه عادة خلقتها الأيام، أما أبناء الذوات والبيوتات فلم يعد هذا الموسم منهم على بال، وهيهات أن يبلغ في تقديرهم مبلغ سهرة من سهرات (بديعة). وأما أرباب الشعر والفنفإنهميعتقدون أن المناسبة فيه مناسبة قديمة عتيقة. وهكذا مضى المولد النبوي هذا العام وكأنها الرسوم المحلية، وكلمات ألقاها بعض الوعاظ والخطباء وهي لا تعدوا الألفاظ والتعابير التي تموت على الشفاه. . . فما الذي عدا مما بدا؟ هي طبيعة العصر ووجهته، أم ظروف العيش وقسوته، أم هو صنيع الآلة بنا حتى أصبحنا لا نحس الحياة في أجلى مظاهرها إلا على وضع آلي؟!. . .

شاعر يتحدث عن الشعر:

ألقى الأستاذ عمر أبو ريشة الشاعر المعروف في (النادي العربي) بدمشق حديثا عن الشعر وما ينشد من المثل الأعلى في الحياة قال فيه:

(. . . كم شعرت برعشة وأنا أقرا بعض الشعر! وكم حاولت أن أتبين المواطن التي أثارت عندي هذه الرعشة فكنت أبوء بالخيبة)

(أنا في كل يوم أحب وأكره، وأومن وأكفر، فلا أقيم على رأي، ولا أستقر على اتجاه. . . قرأت منذ أمد بعيد الملاحم في الشعر، فأسكرتني روعتها، وهزتني حيويتها، حتى إذا كدت احسبها ما ينتهي إليه طموح شاعر، سمعتني أتمتم بيني وبين نفسي: ما لي ولهذا الشعر الذي ترضعه الخرافة، ويريبه المجهول، ليصبح تسبيحا للماضي السحيق الموهوم؟ ومرت الأيام، إذا أنا في إحدى العشيات، وبعد أن شيعت صديقا عزيزا علي إلى مقره الأخير أمد يدي إلى (الألياذة) مندفعا برغبة ملحة إلى قراءة دموع (أخيل) على جثمان صديقه (بتروكلس)، تلك الدموع التي قراها قبل الشاعر (بيرون)، فشعرت بميل خفي نحو (هومير) فرجعت إليه وقرأته مرة ثانية في نشوة وطرب وأصبحت أجد في الملاحم متعة للنفس المثقلة بأسرار الحياة وأعبائها، فإذا كانت غاية الشعر كما تقول بعض الآراء أن يرفه عن النفس، ويخرجها من افقها الضيق، وينسبها ما يحيط بها من متاعب الدنيا ولو إلى حين، فلماذا أربأ بالشعر أن يكون مشحونا بالخرافات والأوهام؟)

(وقد قرأت الشيء الكثير من القصائد والمقطوعات الشرقية والغربية حتى إذا ارتويت، أو ظننت أني ارتويت، سمعتني مرة أتمتم بيني وبين نفسي: ما لي ولهذا الشعر الذي يخنق الروح الحساسة المرهفة، ثم ينشرها أشلاء مشوهة بألفاظه وتعابيره. . إن الحياة والطبيعة ينبوع الشعر، وهو ما تعيه الروح قبل أن يعيه السمع والإدراك، وليس إلى هذا الشعر الذي يروي ظمأ الروح من سبيل؟. .)

(إذن ما هو مثلي الأعلى في الشعر؟ أأريد من الشعر أن أشم فيه روائح الحياة، وأسمع منه أنفاسها، وأتذوق به نكهاتها؟ أمأريد من الشعر أن يغيبني في هذه الحياة حتى لا أعود اشعر بكياني الذاتي؟ لا أدري ماذا أريد!!. .)

(إلى هذه الدرجة انتهى بي القنوط من فهم الشعر فهما منطقيا، فعجيب إذن أني ما أزال اكتب الشعر! واعجب من هذا كله إنني أحدثكم هنا عن كيف اكتب الشعر! والواقع أني إذا تركت جانبا الموازين المنطقية التي تزن بها قيم الشعر، والتي أراها لا تشفي غلة ولا تبلغ غاية لأن الإحساس بالجمال - كما أرى - مصدره العاطفة والذوق لا العقل والعلم، وأقول أني إذا تركت تلك الموازين جانبا، والتفت إلى الشعر الذي أكتبه، وجدتني فيه شاعر قصيدة لا شاعر بيت ومقطع، والقصيدة عندي فكرة معينة ينطوي تحت أجنحتها الثلاثة: الخيال، واللون، والنغم) هذا ما تحدث به الشاعر (عمر أبو ريشة) عن الشعر، وإنه في حديثه لشاعرأيضاًيفهم الشعر بعاطفته وذوقه، ويعترف بعجزه عن أن يجد في ذلك سبيلا للموازين المنطقية، ومقتضيات العقل العلم، وهذه الحقيقة هي التي عاناها رجل المنطق (سقراط) منذ الآلف السنين إذ قال: لقد وجدت جميع الناس يفهمون الشعر أكثر مما يفهمه الشعراء أنفسهم. .

والخلاف القائم بين الشعراء والنقاد يبتدئ من هنا، فالشعراء يقولون إن الشعر مجرد عاطفة وذوق وينتهون عند هذا، والنقاد يقولون إن الشعر منطق وفهم ويتشبثون بهذا، وذو آن لنا أن نفهم أن الشعر هو الجانبان معا. وعجيب من الشاعرأبيريشة أن يقول: (إن ينبوع الشعر هو الحياة والطبيعة)، ثم ينتهي بعد ذلك إلى إنكار الموازين المنطقية في فهم الشعر، وهل (الحياة والطبيعة) عاطفة وذوق فقط، أو هما عقل ومنطق فقط؟. . . كلا! ولكنهما كل ما في الإنسان. .

مات إلياس أبو شبكة: هتف الناعي من بيروت منذ أيام بموت الأديب الشاعر إلياس أبو شبكة، فعز نعيه على أصدقائه وعار في فضله، وهز فقده وجدان أبناء العروبة القادرين لفضله. . .

مات إلياس أبوشبكة وهو في عنفوان الحياة، إذ كان أوفى ما يكون نشاطا وإنتاجا وكانت آثار قلمه البليغ، وفنه الرفيع تتناثر على أبناء العروبة كأنها قطرات الطل على أوراق الزهر. وهكذا تحطمت (القيثارة) فجأة وهي لما تزال مشدودة الأوتار، تردد أعذب الألحان وأطيب الأناشيد.

نشأ إلياس رحمة الله عليه فتى يتيم، فقد فتكت يد أثيمة بوالده في مطارح الغربة بعيداً عن زوجه وصغاره، فكانت فاجعة قاسية أفعمت نفس الفتى بالألم، وأرهفت قلبه بالأسى والشجن، ثم كانت الحرب العالمية الأولى وآثارها في لبنان موطن الشاعر. . . أرض لا يعمرها (إلا أشلاء الجائعين، ونسمات لا تحمل إلا عبق البارود وأبخرة الدماء والدموع، وأطيار ماتت في الحقول على الأغصان المتكسرة والأوراق اليابسة الصفراء، وليس من حداء الحياة إلا أنين المتألمين وحشرجة البائسين)، ومن هذا كله تغذت نفس الياس، وعلى هذا كله تفتحت شاعريته، فنبت كالزنبقة البيضاء على قمم لبنان وفي أحضان أغواره يتموج بالنشيد، ويهتف بالقصيد. .

وصف فقيد الأدب (فيلكس فارس) شاعريته وهي تتماثل للتمام علم1925 فقال: (لقد قرأت شعر إلياس أبوشبكة قبل أن أعرفه، فجزعت نفسي عليه من نفسه. سمعته ينطق بأرق ما في القلب من الحب، وبأرقى ما في الحب من الوحدة والإخلاص، فقلت إنه قلب معد للسحق، مهيأ لأنيذبح على مذبح غواية الغانيات في زمان وفي وطن تمرد فيه المرأة على كل شئ لتمد عنقها صاغرة أمام آلهة التقليد والبذخ والمطامع. .)

(ورأيته يترامى متهالكا على المغاور المظلمة وقد رفع بيمناه قبس النور، ونبضات قلبه تتدفق بآيات الحكمة من فمه، فارتعشت نفسي أمام هذا الشاب المتلاعب بالحياة والموت، وقلت ان مغاور الظلمة ستبتلعه، وإن قبس النور سيحرق يمناه. .)

(وشاهدته يتهدد سلطات النفوذ والجهل والمال، ويصرخ بالأمة داعيا إلى النهضة والحياة، وسمعت في شعره أجمل شاعر لنصرة الحق على الباطل، فأمسكت على قلبي وسترت عيني بيدي حتى لا أرى ضحية جديدة وشهيدا جديدا. .).

(ثم رأيت إلياس أبيشبكة بعد أن قرأته، فعاينت شعره فيه، كما عاينته في شعره. . إن في لفتاته لمعات ليست من هذه البلاد ولا من هذا الزمان، لقد انتقم جسده من روحه قبل أن تنتقم السلطات منه، ويبتسم الشعب المستعبد لأقواله. .).

ذلك هو إلياس أبوشبكة الذي فقده الأدب والشعر، وتلك هي شاعريته التي خسرها الفن والحق، نمت واكتملت، وظهر من آثارها الخالدة ما أكبره أبناء العروبة وقدروه حق قدره. على إنه إلى جانب الشعر كان كاتبا له أسلوبه المشرق، وتعبيره المونق، وفنه المتدفق، فلا شك أن كان فقده نكبة للأدب وخسارة على العربية.

مبشر ثقافي أم سياسي:

لقيني صديق كريم من أبناء سوريا فحدثني عما نشرته (الرسالة) عن رحلة الأديب الفرنسي الكبير الأستاذ جورج ديهاميل إلى بلاد الشرق العربية: (لقد قرأت ما كتبتموه في عددين سابقين عن هذه الرحلة التي يقوم بها مسيو (جورج ديهاميل) الآن، ووصوله إلى مصر لألقاء بعض الأحاديث والمحاضرات، وقد أعجبني أن فطنتم للغرض من هذه الأحاديث والمحاضرات إذا قلتم إنه يقصد بهذا إلى الدعاية للثقافة الفرنسية، وأحب أن أقول لحضراتكم ولقراء الرسالة الكرام، إن ديهاميل قدم إلى أقطار الشرق العربي وفي برنامجه الرسمي الموضوع أن يرى بعينيه ما يريد العرب والمسلمون، وأن يستمع بأذنيه إلى ما عندهم من الآراء فيما يقصدون ويهدفون، وعليه من ضوء ما يرى وما يسمع، أن يذكر بما أدته الحضارة الغربية عامة، والفرنسية خاصة إلى العرب والمسلمين والى التراث الإسلامي، وأن يواجه أنظار الذين يقابلهم ويتحدث إليهم إلى أن مطامحهم لا يمكن أن تتحقق إلا بتمام الاتفاق والحرص على الاتصال بالحضارة الغربية، أو بمعنى أخص وأجلى بالحضارة الفرنسية. . . فهو في الواقع مبشر سياسي يصبغ فكرته بصبغة الثقافة، ولعل ديهاميل يقتنع في نهاية الأمر بأن الشرق قد أصبح على بينة من أمره، وأنه صار يدرك تمام الإدراك أن نفوذ الثقافة لا حد له، ولا وطن له، ولكن نفوذ السياسة يجب أن يكون محدودا بالحدود الطبيعية، محصورا بالدعائم القومية، وعلى هذا الأساس الذي هو ضمان السلام فيالأرضيريد الشرق ان يصغي على حسابه مع الغرب).

شئ مضحك؟؟ نشرت إحدى الصحف اليومية برقية لمراسلها الخاص يقول فيها: (إن أبناء تونس تدل على أن في هذه البلاد نهضة كبيرة في ميدان الأدب العربي بصفة خاصة، والعلوم بصفة عامة، ومن الأدلة على ذلك أن مسرحية هامة بعنوان (هرون الرشيد) ستمثل قريبا برعاية جمعية النهضة التمثيلية، وستتبعها رواية (فتح العرب لصقلية) بإشراف جمعية الاتحاد المسرحي، كما مثلت رواية (مجنون ليلى) من قبل على مسرح المدينة الرئيسي، ورواية (طارق بن زياد) ثلاث مرات).

ثم تقول البرقية: (ومن النواحي الأخرى في هذه النهضة زيادة عدد الصحف اليومية والأسبوعية، فقد ظهرت جريدة (المرآة) وهي وطنية، ومجلة الشعب التونسي - وهي تنطق بلسان نقابات العمال).

وأخيرا تقول هذه البرقية (وقد ساهمت المرأة التونسية في تثقيف بنات جنسها، واشتركت كثيرات منهن في إلقاء المحاضرات، ومنهن الآنسة - ليلى حلواني - التي تذيع رسائل بالراديو عن فائدة الرياضة للمرأة، وتجمع الآن اكتتابات لإنشاء مدينة جامعية في ضواحي تونس على مثال مشروع المدينة الجامعية في مصر، وما زالت التبرعات تتدفق على العاصمة لهذا الغرض، وقد زادت حتى الآن على عدة ملايين من الفرنكات).

قرأت هذه البرقية فضحكت، وإنها لشيء يدعو إلى الضحك، وإلى السخرية، وإلى الإشفاق! وهل ثمة أعجب وأغرب في هذا العصر من أن يعتبر تمثيل رواية، أو إنشاء مجلة، أو إذاعة آنسة لحديث دلائل (نهضة كبيرة في ميدان الأدب العربي بصفة خاصة والعلوم بصفة عامة)!! إن هذه الأمور التي تعددها البرقية وتشيد بها ليست إلا أمور بدائية ينهض بها التلامذة في مدارسهم. ففي أي مدرسة ثانوية يمثلون الروايات، ويصدرون المجلات، ويذيعون المحاضرات والمناظرات، فكان هذه (النهضة الكبيرة) في تونس بعد هذا الدهر الطويل ليست إلا نهضة مدرسة ثانوية لا أكثر ولا أقل.

على إنك إذا علمت أن هذه البرقية إنما أذيعت من باريس، وأنها دعاية استعمارية هدفها التمويه والتلبيس، وتبينت حقيقة الحال في ذلك القطر الشقيق، وأدركت أن هذا الذي يمن به الفرنسيون في تلك البرقية قد كشف صنيعهم، وأظهر للناس كيف أن الحياة الأدبية في قطر عريق عتيد لا تزال عند ذلك الوضع البدائي التافه الذي لا يعدو مشاهدة رواية تمثيلية، وذلك كله بفضل الاستعمار الفرنسي العريق العتيد!!

لقد آن لفرنسا أن تعلم أن كل هذا العناء في التمويه أصبح لا يجدي ولا يخفي حقيقة الحال في تونس، فإن أبناء العرب في سائر الأقطار يدركون الحقيقة فيما تفرضه على الثقافة هناك من حجر، وعلى حرية الرأي من حصر، وعلى الإنتاج الفكري من رقابة أشبه بالرقابة العرفية. .

(الجاحظ)

فن وتجارة

أرسل إلينا الأستاذ يوسف وهبي بك في آخر لحظة كلمة يرد بها على ما كتبه (الجاحظ) في العدد الماضي تحت هذا العنوان فأجلنا نشرها مضطرين إلى العدد القادم.