مجلة الرسالة/العدد 710/حول مهرجان جامعة الأدباء بالفيوم:

مجلة الرسالة/العدد 710/حول مهرجان جامعة الأدباء بالفيوم:

مجلة الرسالة - العدد 710
حول مهرجان جامعة الأدباء بالفيوم:
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1947



في موكب الشعر:

للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي

قرأت هذه القصائد الثلاث التي أنشدها الأستاذة الغزالي وطاهر والعوضي في مهرجان أدباء العروبة بالفيوم والتي نشرتها (الرسالة) فوجدت فيها من قبس الفن، وروح الشاعرية، واختلاف المواهب الفنية في الشعر، ومن طريقة كل شاعر في التصوير، وأسلوبه في البيان، ما يستحق النقد والدراسة.

شعراؤنا الثلاثة متشابهون في الثقافة، متقاربون في النزاعات؛ ربطهم صلات الصداقة والأدب والدراسة في مدرسة واحدة، والحياة في ميدان واحد، أو كالواحد، بروابط قوية متينة؛ ولكنهم مع ذلك يختلفون في نزاعاتهم الفنية اختلافا كبيرا.

فالغزالي شاعر وصاحب فن في شعره؛ وطاهر شاعر يعلن بشعره الثورة على الحياة؛ والعوضي شاعر صناع يحفل شعره بالصنعة الهادئة الجميلة؛ وهذه النزاعات الفنية المتفاوتة تكاد تلمسها في هذه القصائد الثلاث كما تقرؤها في ملامح وجوههم وألوان حياتهم طوى (الغزالي) والصحارى في سفرهم لرياض الفيوم الساحرة بعد ما هزه الشوق لزيارتها، وصور ذلك كله في مطلع قصيدته الرائع:

من لسارٍ إليكِ يطوى الصحارى ... هزَّه الشوقُ أن يزور فزارا

ثم يصور عواطفه وإجهاده وقلقه وسهده قبل سفره وتطلعه إلى الفيوم لتزيل عنه أثر كل هذا العناء في تصوير جميل أخاذ فاتن:

عابراً كالطيوف ولهانَ كالأنسام ... هيْمان كالأماني الحيارى

مُجْهَداً علَّ في ظلالكِ مأوى ... قلِقاً علَّ في رُباكِ قرارا

ومم كل هذا الإجهاد والقلق والشقاء؟ وقد فارق الشاعر محبوبه و (رفيق صباه) فعاش عيشة البائس الشقي المحروم من أجمل ما في الحياة:

يا جنان الفيوم نازحُ أيكٍ ... بانَ عن عشه إليك وطارا

قد خلا العش من رفيق صباه ... فمتى تالف القطاةُ الهزارا

نسلتْ ريشة الليالي طوالا ... أترى تصبِحُ الليالي قصارا؟ ويستمر الشاعر يصور آلامه وآماله وعواطفه في حبه؛ متمنيا أن يكون له في رياض الفيوم سلوى، شاكيا إلى عذارى الرياض ما يلقاه من أترابهن العذارى:

أتراه هنا سيمسي قريراً ... في رياض الفيوم طابت جوارا

يا عذارى الرياض من كل شاد ... أنا أشكو إلى العذارى العذارى

أنا أشدوا لها جراحي شعراً ... فعساها تُضَمِّد الأشعارا

ثم تذكرهم بحيرة قارون في دجى الليل بمحبوبه، فيشدو ويصدح مؤكدا وفاءه لعهد الأحباب:

يا أحبَّاي والديارتناءت ... كيف أنسى أحبتي والديارا

لست أنسى ملاعبي والضفاف ... الخضر تجري من تحتهن نضارا

لست أنسى بها مواثيق عشنا ... نتحدى بصدقها الأقدارا

لست أنسى ولا أخالك تنسين ... فحتى متى نطيق انتظارا

أما (طاهر) فقد شاهد قافلة الشعر تسير إلى الفيوم وفيها الأدباء والشعراء والوزير الضخم فعنى بتصوير هذا الموكب وجماله أكثر من أي شئ، إنه لموكب رائع للبيان وكما يقول:

موكب للبيان فيه اللواء ... يفزعُ الدهرَ وخدُه والحُدَاءُ

ضاربٌ في صَحرائها يسبق الركب ... جلالٌ من هدية ورُواءُ

مثلما يسبق الشعاعُ إذا ما ... أعلن الصبحَ للوجود ذُكاءُ

والشاعر لا ينسى نفسه في هذا الموكب، وكيف ينسى وهو الذي (في محرابه يعبد الفن وتستهوي ضوءه الأضواء)؟

لو تحس البيداء منِ سار فيها ... لتغنَّت من شجوها البيداءُ

شاعر في محرابه يُعبد الفنُّ ... وتستهوي ضوءه الأضواءُ

ذو بيان لو عاقرته الندامى ... لتناهت عن شربها الندماءُ

وهتوف يكاد يشرق في أنحاءه ... الخبر والمنى والرجاءُ

ثم يعلى شأن الفن في الحياة ويثور على العلم الذي أصبح المعلول الهدام في صرح الحضارة:

ومن الشعر ما يعلمك الحق ... إذا موَّه الوجودَ الرياء ربما استعنت الحياة عن العلم ... على رغم ما أتى العلماء

وعلى الفن وحده عاش أج ... دادُك دهراً وهم به سعداء

ثم يعود إلى قافلة الشعر وموكب الشعراء ومن فيه من (الأبدال والأدباء) و (الوزير الضخم) حتى يحط رحاله في رياض الفيوم:

وإذا نحن في رياض من الشعر ... لها رونق وفيها صفاء

ثم يشيد برحم الفن وصلات الأدب التي جمعت بين أدباء الجامعة وبين أدباء الفيوم:

صلة وثَّق البيان عراها ... ونماها فكلنا أقرباء

جمع الشعر بيننا في صعيد ... ومن الشعر منسب وإخاء

أما (العوضى) فقد وصف ذكرياته في الليالي البعيدة مع أحبائه، وأثر هذه الذكريات في قلبه، ثم وصف روضات الفيوم وجمالها، (الأخوان الكرام) الذين استقبلوه هو وصحبة فيها، وصلات الأدب والعروبة التي تجمع بين الأدباء والشعراء، يقول:

حدا الركبَ حادية فأين مكانيا ... أُبين من الأشواق ما كان خافيا

على شفتِي من خمرة الحب نشوة ... تَلهَّب ترنيمي بها وغنائيا

لنا ذكريات في الليالي بعيدة ... ألا من يعيد اليوم تلك اللياليا

ثم يستمر في شدوه الهادئ وتصويره المصنوع فيصف الفيوم وفتنها:

سقى الله في الفيوم روضات فتنة ... ونضر فيها أربعاً ومغانيا

فراديس منضورٌ بها الظل والجنى ... تألَّقُ نوَّاراً وتسحر شاديا

وإخوانه الكرام فيها الذين سقوه صافى الود:

فجئنا لأخوان كرام وصحبة ... سقونا من الودِّ المطهر صافيا

ويشيد بصلة العروبة التي جمعت بين الجميع وبذلك ينتهي من قصيدته:

هذه هي الأغراض العامة لكل شاعر في قصيدته وهي تجمع بين العواطف الوجدانية والوصف الفني، وكنا نود أن تكون قصائد هؤلاء الشعراء أوسع نطاقا من هذا الأفق المحدود؛ ما ضرهم لو كانت قصائدهم في القرية والحياة فيها أو في النيل وأثره في وحدة الوادي أو في العلم وآثاره على الحضارة في عصر الذرة، أو في شتى الأغراض القومية أو الإنسانية العليا؟ ولكنهم أثروا تلك السبيل الفنية وحدها فلم يشعروا إلا فيها وفيما يتصل بها من العواطف الوجدانية وإن كان (طاهر) قد خرج قليلا عن هذا المجال فأشاد بالفن وأعلن الثورة على العلم والعلماء:

إنَّ من أطلقوا العقول علينا ... لست تدري: أأحسنوا أمأساءوا

ربما استغنت الحياة عن العلم ... على رغم ما أتى العلماء

أما من حيث الأسلوب: فالغزالي يشعر ويسحر ويبلغ في التصوير منزلة كبيرة، نجد ظلالها في كثير من أبياته كما يقول عن نفسه:

عابراً كالطيوف ولهان كالأن ... سام هيمان كالأماني الحيارى

وقوله وهو يعبر عن نفسه أيضا:

يعبر الليل في خداع الأماني ... وتمِّنى آصالة الأسحار

وقوله:

والشوادي من حولنا مرهفاتٌ ... سمعَها تستبينُنَا الأسرار

وقوله:

لست أنسى بها مواثيق عشنْا ... نتحدَّى بصدقها الأقدار

وسوى ذلك من قصيدته التي تمتاز بما فيها من (عيون) كما يقول النقاد؛ ولكنه على رغم ذلك يخطئ سبيل الفن أحيانا فبيته:

يا عذارى الرياض من كل شاد ... أنا أشكو إلى العذارى العذارى

يقصد فيه العذارى حقا؛ فوصفهن بالسحر والفتنة ورقة العاطفة أولى من وصفهم بالشدو، بل وصفهم بالشدو يكاد يكون لا معنى لتخصصهن به من بين سائر الأوصاف. ولو قال (من كل أحوى)، مثلا لكان أولى؛ وتضميد الأشعار في بيته:

أنا أشدُو لها جراحي شعرا ... فعساها تضمّدُ الأشعاراً

لا معنى له، فما ألفنا في القول بان الأشعار تمثلت جراحا بل هي استعارة نافرة عن سمع العربي وذوقه. والبيت:

والتي قد تخذْتُها مجدافي ... خصل أُرسلتْ عليَّ نثارا

لم أفهمه فوق ما فيه من (تشعيث) قافيته، وهذه الهنات لا تغض من القصيدة مكانها الأدبية.

أما (طاهر) فمستوى الشاعرية في أسلوبه، ولكنه في ثورته الفنية التي يستمدها من روحه الثائرة، يبعد أحيانا عن الاجادة، كما تراه في قوله:

الطريقَ الطريق: قافلةُ الشعر ... وركب الوزير والوزراء

وفي قوله يتحدث عن حلهم في رياض الفيوم:

طرق الشعر بابها، فإذا شعر ... يقول: ادخلوا وطاب الثواء

وذلك سبيله في فنه، يثور حتى على سبل الفن الواضحة المألوفة. و (العوضى) أظهر استواء في شاعريتهلأنأسلوبه أسلوب مصنوع تأنق الشاعر في صوغه كما أراد، وهو فيه هادئ واضح، من حيث كان (طاهر) مفكرا ثائرا، والغزالي فنانا شاعرا.

وفي قصيدة (طاهر) روح الحارث ومعلقته:

آذنتْنا بينها أسماء ... رب ثاو يملُ منه الثواء

بل هو يستعير يعض أبياتها:

اجمعوا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

كما يستعير بعض ألفاظها وقوافيها، ولكنه مع ذلك ذو شخصية قوية في قصيدته.

والغزالي يشترك في بعض معانيه مع بعض الشعراء؛ فبيته:

نسلتْ ريشه الليالي طوالا ... أترى تصبح الليالي قصارا؟

شبيه بقول ابن أبي ربيعه في المعنى والوزن والقافية من قصيدة طويلى:

والليالي إذا نأيِتِ طوالٌ ... وأراها إذا دنوتِ قصارا

ولكن في قوله (نسلت ريشه الليالي) زيادة في بليغة ليس لها نظير في بيت عمر.

أما العوضي فتكاد قصيدته تشبه قصيدة جرير - في الفن والروح:

ألا أيها الوادي الذي ضمَّ سيله ... إلينا نوى ظمياءُ حييِّتَ واديا

إذا ما أراد الحي أن يتفرقوا ... وحنَّت جمال الحيّ حنِّت جماليا

وان كانت تختلف عنها في كثير من الأوصاف الفنية.

هذا ما أردت أن أذكره من نقد أدبي لهذه القصائد الثلاث لشعراء لهم من بين شعرائنا الشبان مكانة ممتازة ومجد أدبي نرجو أن يعملوا له ليكون لذلك أثره في مستقبل القريض وبالله التوفيق.