مجلة الرسالة/العدد 711/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 711/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 02 - 1947



أعلام المحاماة

في كتاب الأستاذ عبد الحليم الجندي

بقلم صاحب العزة الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك

(جرائم واغتيالات القرن العشرين) كتاب نفيس وضعه الأستاذ عبد الحليم الهندي في جزأين أخرجهما للناس في الشهر الماضي. وابرز ما في الكتاب تصويره حياة ثلاثة من أعلام المحاماة. اختارهم المؤلف ضمن عظماء المحامين الذين تألق نجمهم في سماء المحاماة بمرافعاتهم في القضايا الكبرى في القرن العشرين وهم: الهلباوي في مصر، ومارشال هول في إنجلترا، وهنري روبير في فرنسا. قرأت الكتاب قراءة وتأمل وإمعان، فألفيته جديراً بان يقرأه كل مواطن، وكل محام، وكل شاب يعتنق مبدأ الحرية الفردية والسياسية.

المؤلف أستاذ أديب. ومحام نابه. كان محاميا عن الأفراد وقتا ما، وهو الآن محام عن الحكومة في مجلس الدولة. لازمته روح المحاماة، وكتب عنها بقلم المؤمن بها، المحب لها، فجاء كتابه قصة رائعة للمحاماة في أشخاص ثلاثة من أعلامها. مجد المحاماة تمجيدا صادرا عن عقيدة وخبرة إذ وصفها بأنها مهمة قبل أن تكون مهنة، وجعلها دعامة الحرية وسندها في ساحات القضاء. ولعمري أن هذا الوصف لهو أكبر مفخرة للمحاماة. وإن المحامي ليعتز بمهنته إذ يراها سبيل الدفاع عن الحرية وعن الحق. وفي ذلك يقول المؤلف: (سنرى في الصفحات التالية بطولة المحاماة وهي تخوض الغمرات في هذا السبيل. إنما هي الحرية غاية جيلنا من حياته. لا وسيلة لأغراضه ولا طب لأمراضه إلا بتدعيمها، وتعميمها والفسح من مداها، وما حرية الأمة إلا فيض من حريات بنيها واستقرار العدالة فيها. فإلى دعاة الحرية والعدالة هذه الصورة المصغرة لثلاثة من كبار المدافعين عن الحرية في ساحات العدالة).

وفي الحق أن الحرية هي ركن أساسي من أركان المجتمع الإنساني الجدير بهذا الاسم. وإذا تقلص ضلها في بلد من البلدان نزلت الأمة إلى درك عميق من الذل والهوان. الحرية قد تحميها النظم والقوانين، وقد يكفلها الدستور، وتحميها الصحافة. ولكن خط الدفاع الأول والأخير لها هو القضاء والمحاماة. فالقضاء هو فيصل التفرقة بين الحق والباطل، بين الحرية والاستعباد. هو ملاذ المظلوم ممن يتحيفهم طغيان الأقوياء والحكام. والمحاماة هي لسان الحرية والحق المدوي في ساحات القضاء، والمناضل الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، فالقضاء والمحاماة صنوان متلازمان. يتعاونان على أداء مهمة قدسية سامية وهي استخلاص الحق وكفالة الحرية.

عرض لنا المؤلف في الجزء الأول من كتابه صورة حية من الهلباوي المحامي، والهلباوي الرجل، والهلباوي الخطيب. فحلل شخصيته أدق تحليل، وتابعه منذ نشأته إلى أن انتظم في سلك المحاماة إلى أن ظهرت مواهبه فيها وذاعت شهرته في أرجاء البلاد بمرافعاته في القضايا الهامة، وعدد أشهر القضايا التي ترافع فيها في مختلف العهود. وأبرز فضائله في المحاماة ونزاهته فيها إلى جانب عبقريته كمحام قدير، وأبان للقارئ كيف كان يحضر قضاياه، وكيف كان يهاجم ويدافع، وكيف كان يسترعي الأنظار في مرافعاته، وكيف كان يستهدف لغضب ذوي السلطان في أداء واجبه

وعني على الأخص بالقضايا الوطنية التي ترافع فيها عن الحرية وحملاته الصادقة على خصومها ومضطهديها. وأفاض المؤلف في هذا الجانب من حياة الهلباوي، ولا غرو فهو الجانب الذي يضفي عليه هالة من المجد وخلود الذكر.

وأعجبني من المؤلف الأديب انه استثنى من الإشادة بمواقفه مرافعته كمدع عام في قضية (دنشواي) فلم يدافع عن بطله فيها واقتصر على التماس (الظروف المخففة) له حتى عزى موقفه فيها إلى سوء الحظ. وفي الحق أن قبوله المرافعة عن الاتهام في هذه القضية كان سقطة كبيرة من المحامي الكبير؛ لم تنسها له الأمة طول حياته ولا يلومها منصف على ذلك بل هو دليل على تقدم الوعي الوطني فيها. لأن التساهل بازاء أمثال هذه السقطات يغري بتكرارها.

صور لنا المؤلف حيات الهلباوي في كل نواحيها، صورها بلغة مختارة ممتازة، وفي الحق أن لأسلوبه وتعبيراته طابعا أدبيا بليغا، وفيه أناقة وفيه جاذبية، وفيه عمق في المعاني والأفكار وبهذا الأسلوب انتقل بنا من الشرق إلى الغرب. فصور لنا حياة (مارشال هول) الذي سطع نجمه في سماء المحاماة في إنجلترا، وزميله (هنري روبير) في فرنسا. ذلك النقيب العظيم الذي قال عنه (دي مورو جيافري) أن المحاماة في فرنسا فقدت بوفاته اكبر رجل رفع شأنها منذ عهد (بربيه) وهي كما يقول المؤلف مقالة عن مكانته في التاريخ، فلعل (بربيه) اكبر رجال المحاماة في التاريخ الفرنسي، كما كان أعجوبة البلاغة والشجاعة في مجلس النواب ومجلس الأعيان.

إن لدراسة الشخصيات الكبيرة وتحليلها بالطريقة والأسلوب اللذين نهجهما الأستاذ عبد الحليم الجندي قيمة في توسيع الأفق الثقافي والذهني، ففي خلال هذه الدراسات يطالع القارئ وصفا دقيقا لحياة المجتمع وتطوره، وعادات الناس وأخلاقهم وعلاقات بعضهم ببعض. كما يلمح بشيء من التأمل والمقارنة مبلغ الفرق بين الحياة في عصرنا والحياة في العصر الذي سبقه. وفي الكتاب ميزة أخرى وهي انه يطالع المحامي بما هيأ لأعلام المحاماة في الشرق والغرب ما وصلوا إليه من مكانة رفيعة ومنزلة سامية، وما هي العناصر التي عبدت لهم طريق الشهرة والمجد.

فهو كتاب المحاماة وكتاب المحامين. فيه يجد المحامي كبيراً كان أو مبتدئا ما يرسم له سبيل النجاح والتوفيق. 0 فلعل في كل محام مواهب لو عرف كيف يتعهدها يستخدمها على ضوء حياة العظماء من المحامين لأدرك من المكانة والمنزلة ما لا يدركه إذا اغفل هذا الجانب من البحث والدراسة. وأني لأنصح كل محام وكل من يعد نفسه محاميا أن يقرأ كتاب (الأستاذ عبد الحليم الجندي) ففيه صورة واضحة قوية للمحاماة الرفيعة الناجحة

عبد الرحمن الرافعي