مجلة الرسالة/العدد 717/القصص
مجلة الرسالة/العدد 717/القصص
المحسنة. . .
مختصرة عن (مرسيل بريفو)
كان كل منا قد قص على الحاضرين قصة، أو حكى طرفة، أو روى خبراً، إلا سيدة حسناء، كانت جالسة طيلة الاستماع لكلامنا، وتحبس حديثها علينا، فقال لها أحدنا:
- أراك يا سيدتي تطيلين السكوت، فهل عدمت ما تقصينه علينا؟
فابتسمت المرأة ابتسامة قصيرة، وقالت؛ وكأنها اعتزمت على هجر الصمت الذي لزمته طويلاً، والخوض في حديث طويل:
- ليس فيما سأقصه عليكم، مجلبة لمرحكم وسروركم، ولكنه مع هذا شيء بسيط، أحسست له اضطراباً في أعماق نفسي، وأثراً بين حنايا ضلوعي، ثم اعتدلت في مجلسها، وتابعت قولها:
-. . . قبل أسبوع خرجت مع طفلتي (سوزان) - وهي كما تعلمون، طفلة وديعة، ذكية، في ربيعها الثاني - سائرة بها إلى مدرستها. وكان الجو رائقاً، والشمس مشرقة، فسرنا على قدمينا نجتاز شارع (الشانزليزيه) ونحن أشد ما نكون سروراً بالحياة، وغبطة بالدنيا. فلما وصلنا ملتقى (الرون برون) تقدم منا، بخطوات مرتجفة، وأقدام هزيلة، صبي فقير، ومد نحونا يده الصغيرة المرتعشة، يسألنا الرحمة، ويناشدنا المساعدة، وهو يتكلم بعينيه، لا بلسانه، فهو على ما يظهر، قد عدم المقدرة على الكلام.
وكنت آنئذ، أمسك يد ابنتي بيسراي، وأحمل مظلتي بيميني، وأقول الحق إنني لم أكلف نفسي عناء إخراج كيس نقودي، لأضع في يده شيئاً من المال، فتابعت مسيري مع طفلتي التي كانت تطيل النظر إليه.
وما كدنا نخطو عدة خطوات، حتى انقطعت طفلتي عن الكلام، وكفت عن مداعباتها لي. وأحسست أنا الأخرى الإحساس نفسه والرغبة في الصمت. ووصلنا ميدان (الكونكرد) ولم ننبس لا أنا ولا ابنتي بكلمة واحدة، منذ أو وقعت عينانا على وجه ذلك الصبي المسكين!
وشعرت في أعماق نفسي بشعور من الضيق كان يتزايد ويتعاظم كلما أوغلت في سيري، كما أحسست إنني قد أسأت إلى ذلك السائل المسكين إذ لم أمنحه شيئاً. غير إنني حاولت أن أخفف جريمتي هذه، فقلت لنفسي: إنني سأساعد أول فقير أصادفه في طريقي بعد الآن.
وظننت إن هذا العزم سينقذني من تقريع ضميري، ويخلصني مما استولى علي من ضيق، ولكنه على عكس ما كنت أتأمل، فإن هذا الشعور، أخذ يزداد وبكبر، وأحسست في نفسي بما يشد قدمي، ويمنعها من متابعة سيرها، والعودة بي إلى ذلك المسكين. ورفعت (سوزان) وجهها الصغير إلي، وقالت:
- أماه. . .
- ما بك يا عزيزتي؟
لم لم تمنحي السائل الذي رأينها في الطريق شيئاً من المال؟
فعلت أن طفلتي، لم تركن إلى السكون، ولم تخلد إلى الصمت، إلا لأنها كانت مثلي مشغولة البال بذلك السائل المسكين، فقلت لها:
الحق معك يا عزيزتي، سنعود إليه ثانيةً.
وألقيت نظرة على ساعتي، فوجدت أن هناك متسعاً من الوقت لكي أعود إلى الصبي المسكين، وأمنحه شيئاً من النقود، ثم أعود بطفلتي إلى مدرستها.
ولم أتردد في استدعاء عربة، عدنا بها إلى (الشانزليزيه)، وكانت (سوزان) خلال الطريق، قلقة النظرات، وكنت أنا أحس في نفسي بمثل قلقلها خوفاً من أن لا نجد الصبي في مكانه.
ووصلنا المكان الذي أبصرناه فيه فلم نجده هنالك، فسألنا عنه عجوزاً كانت تحرس أحد الأبواب، فقالت لنا إنها تذكر إنها رأته قبل دقائق، وإنها لم تره في هذا المكان إلا اليوم فقط.
وينما نحن نهم بالرجوع خائبين، وإذا (بسوزان) تلمحه من بعيد مستنداً إلى جذع شجرة كبيرة. فأسرعت إليه بالنقود، ووضعتها في يديه، وعادت إلي مسرورة مغتبطة. أما أنا، فقد شعرت كأن عبئاً ثقيلاً قد أزيح عن كاهلي، وراحة لطيفة تعود إلى نفسي.
وسكتت الحسناء، فخيل إلينا أننا نعيش في جو غير الذي كنا نعيش فيه، وإننا نحيا حياةً غير تلك التي كنا نحيها، وكأننا كنا نقف خاشعين أمام فيض من الإنسانية والرحمة.
البصرة (عراق)
يوسف يعقوب حداد