مجلة الرسالة/العدد 719/القصص

مجلة الرسالة/العدد 719/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 04 - 1947



قصة مصرية:

ألوان. . .

للأستاذ نصري عطا الله سوس

كان قطار الليل يشق طريقه المظلم إلى الصعيد. . .

وكانت هذه المرة الأولى التي يستقل فيها الدكتور فؤاد هذا القطار في طريقه إلى مقر عمله الجديد.

لقد عاش طول حياته في العاصمة، وكان طبيباً بإحدى مستشفياتها. . . وأخيراً، وبعد نزاع مع رئيسه، نقل إلى إحدى المستشفيات الصغيرة بأعالي الصعيد، وكان يمكنه أن يستقيل ويكتفي بإيراد عيادته التي تدر عليه الكثير. . . وقد فكر في ذلك حتى أضناه الفكر، فليس من السهل على رجل ألف حياة العاصمة أن يجد نفسه فجأة في جو لم يألفه، وحياة خشنة جافة هزيلة لم يعتدها!

ولكن تياراً أقوى كان يدفعه في الاتجاه الآخر: لم يكن قد أفاق بعد من صدمة هائلة أذهلته عن كل شيء وأنسته كل الاعتبارات. . . كان يود أن يهرب من المكان الذي كان مسرحاً لمأساة قلبه، والذي كان يذكره بها وينكأ جراحه كلما قاربت الالتئام!

لقد فكر وفكر. . . وأخيراً فضل أن يهرب من أشباح الماضي التي كانت تلاحقه في عناد، وتعذب قلبه، وتغمره في ليل أبدى لا فجر له!

ولم يكن الدكتور فؤاد من أولئك الأطباء الذين تتركز كل حياتهم في مهنتهم، فيحشون أدمغتهم بالمعلومات الطبية التي يطبقونها تطبيقاً أعمى، بينما يشاركون في الوقت نفسه رجل الشارع في ثقافته وأخلاقه وكل غرائزه، بل كان شخصية ممتازة، رقيق العاطفة، مرهف الأعصاب، ولوعاً بالأدب والموسيقى، ظامئاً إلى الحياة الدسمة الغنية بمختلف العواطف والاحساسات، ولم يكن ينقص حياته إلا شيئاً وحداً لا معنى لأي شيء في الحياة بدونه: ذلك المخلوق الناعم الحلو الذي تمسح ابتسامته السحرية كل الهموم والمتاعب، وتخلق في النفوس الشجاعة والعزم والأمل، ذلك المخلوق الجميل الرقيق الذي نسميه (المرأة)، وعندما رآها بعد سنوات طويلة من الحنين والانتظار، ظن أنه قد عثر على ضالته وحقق أمله، فاندفع وراء الخيال، وراح ينسج الأحلام، ويكيف حياته تكييفاً جديداً على هدى الكوكب الجديد الذي غمر حياته بالنور. . .

وبعد عامين كاملين عرف أنه مخدوع. . . وأن الشيطان كان يسرق القربان الذي يتقرب به إلى (كيوبيد) في معبد الحب ويستحله لنفسه. . . واستحالت حياته إلى بحر من الدموع، وكره العاصمة الكبيرة والحياة فيها، فلما فوجئ بخبر نقله لم يحزن كما يفعل الموظفون، بل تلقى الخبر بفتور، وحمل كتبه وموسيقاه ليهرب من الحياة البراقة الزائفة، وليخلوا إلى نفسه عله يستطيع أن يلهمها العزاء والسلوان! إنه سيحقق حلماً جميلاً طالما تمنى تحقيقه، حياة الطبيعة الساذجة الجميلة، والمساحات الشاسعة الخضراء التي قرأ عن سحرها وجمالها، وما توحيه إلى النفس من صفاء، والناس السذج البسطاء الذين لم يتعلموا شرور المدن الكبيرة وآثامها!

إن حياة المدن تفرض نفسها على الإنسان وتستعبده وتخنق فيه حياة العاطفة والروح. . . وحياة العاطفة والروح هي كل ما ينشده الطبيب الحزين، إنه يأمل أن يجد في صدر الطبيعة ما لم يعثر عليه في صدر المرأة!

وتمكن من أن يروض نفسه على حياة الريف ويستسيغها، ووجد في بساطة الحياة فيه الراحة التي يجدهاً الملاح بعد عاصفة هوجاء هددته بالفناء كان في الصباح يؤدي عمله في هدوء، وفي الأمسية يخرج للرياضة بين المزارع الخضراء، وعنده بعد ذلك كتبه وموسيقاه، ولكنه ظل شديد الانقباض عن الناس زاهداً في الحديث معهم حتى في رؤيتهم!

ووجد (فؤاد) شيئاً من العزاء الذي كان ينشده ولكنه كان عزاء يمازجه كثير من اليأس. . . والفلسفة. كان يقول لنفسه إن الذي يعيش مثله بين المرضى ويرى الإنسانية تتألم وتتعذب بهذا القدر، ويشاهد كل يوم شبح الموت يلهو بالأرواح، لا بد أن يتعلم كيف يزن مسرات الحياة وفواجعها، ويميز صحيحها من باطلها. . . إن أوجاع الحياة توحي إليه بتفاهتها، تلك الحياة التي نجهد أنفسنا في سبيلها حتى الجنون! نفني السنين تلو السنين في المتاعب والهموم، حتى يحل خريف العمر وتذبل أوراقه، عندئذ نبحث عن ثمار جهودنا وعنائنا فلا نجد شيئاً! وتهب علينا ريح باردة تهمس في آذاننا أن الكل باطل، حينئذ، وحينئذ فقط، ندرك. . . ونشيح بوجوهنا عن الحياة.

. . . وبمثل هذه الأفكار كان يعزي نفسه عما فاته من مباهج الحياة ومفاتنها، ومرت شهور وهو منهك في عمله وبقايا همومه وأفكاره القاتمة التي كان يطاردها فتغيب عنه حيناً ثم تعاوده في قسوة وعنف. . .

وفي صباح أحد الأيام كان جالساً كعادته إلى مكتبه يطالع صحف الصباح. . . وفجأة دخلت فتاة. . . وكان من عادته أن يطلب من أولئك الذين يقتحمون عليه خلوته أن ينتظروا بفناء المستشفى حتى يحين موعد العمل، ولكنه نظر إليها، وسكت. . . وبعد برهة سألها في صوت واع عما تطلب بينما كانت عيناه تلتهمانها التهاماً. . .!

وأسبلت جفونها، واصطبغ وجهها بلون الدم، وتلعثمت وهي تجيب. ودعاها برفق أن تقترب. . . وتخبره عن مرضها.

واقتربت، وأخذت تقص عليه أعراض مرضها بصوت ناعم حالم. . . بينما كان هو يتأملها في نشوة سعيدة كأنه يتأمل أثراً فنياً خالداً: كانت ترتدي ملاءة حريرية تحتها جلبات باهت اللون وفي إحدى يديها قارورة فارغة، وفي الأخرى تذكرة أمراض باطنية، وكان في مشيتها فتور ثمل كأن رأس قد حمل أكثر ما يسع من الأحلام، وفي عينيها ذلك الحنين الذائب الذي تشعه عيون الفتيات عندما تطرق قلوبهن تلك الاحساسات الحلوة الآسرة التي لا يدركن كنهها، ونظراتها كطيور تائهة تبحث عن وكرها في عيون أليف حنون يقتنص الأحلام الهائمة في السماء وبريقها في أذنيها بصوته الحلو الرقيق. . .!

وتناول منها التذكر وقرأ البيانات المدونة عليها فعرف أن اسمها (عزيزة) وعمرها سبعة عشر عاماً.

كانت تشكو ورماً بسيطاً في أصابعها وساقيها، وتناول يدها في كفه وأخذ يتأملها، واهتزت يده اهتزازاً خفيفاً وهو يضغط على أصابعها ليعرف طبية الورم، ثم فحصها فحصاً دقيقاً، وطلب منها أن تمتنع عن تناول بعض المأكولات، وزودها بنصائحه ثم أعطاها ما يلزمها من دواء وانصرفت.

وجلس يفكر وقد ملكت عليه نشوته بحسنها وودعتها كل حواسه. . . أين كان هذا الكنز مخفياً؟ لم لم تحضر قبل الآن؟ لقد جاءت ثم ذهبت كأنها الحلم السعيد في هدأة الليل، وكانت اللحظات التي قضاها وهو يتأمل هذا الوجه السماوي الجميل من أسعد لحظات عمره. . . إن هذا الجمال من نوع نبيل يوحي بالعبادة أكثر مما يوحي بالحب: عيناها عسليتان يشعان وداعة وطهراً، وبشرتها خمرية يعلوا تاج كثيف من الشعر الفاحم، وكانت نحيفة وهو يكره الجسم المكتنز الذي يوحي دائماً بالرغبات كما إنها أطول من رأى من فتيات القرية!!!

ثم ابتسم وهو يقول لنفس: (ألأنها جميلة تهتم بها أكثر من بقية المرضى؟؟ قد تكون الدميمة المشوهة الخلقة أكثر احتياجاً إلى العطف والرعاية)، ولكنه هرب من الإجابة عن سؤاله، وأشعل سيجاراً وأخذ يغني بصوت خافت، وود أو أمكنه أن يرقص أيضاً.

وعندما بارحته عزيزة لم يأمل أن يرها مرة ثانية، فقد مضى عليه في هذا المستشفى نصف عالم لم تحضر خلاله إلا هذه المرة، كما أن ملابسها وأناقتها - بالنسبة للقرويات - تدل على أنها تنتسب إلى الطبقة الموسرة التي لا تستسيغ التردد على أماكن العلاج العامة. . .

ولكنها عادت في الأسبوع التالي، وكانت هذه المرة أكثر اعتناء بهندامها وشعرها. وتردد كثيراً قبل أن تتقدم نحوه. أما هو فكان يرقب خجلها وترددها في سرور.

وأخيراً جمعت شجاعتها وذهبت إليه. . . ولا حظ وهو يحدثها أن أسنانها أكثر بياضاً مما كانت عندما رآها في الأسبوع الماضي وأخذ يلقي عليها عشرات الأسئلة حتى تطول وقفتها أمامه وأحس وهو يحدثها أن الثلوج التي ظلت تكتنف قلبه منذ كارثته الأولى بدأت تذوب وتفسح له مجال الحياة مرة أخرى.

كان يكلمها وفي عينيه وجرس صوته أطياف من الشوق والحنان ود لو تجسمت شخصاً حياً يطوقها ويغمرها القبل.

ولم تلمح هي في عينيه ذلك الظمأ الخشن الذي ألفت أن تراه في عيون الرجال، إن عيناه تشعان وداعة وسلاماً.

ثم فحصها مرةً أخرى، وأعطاها دواء جديداً وانصرفت.

واطمأنت إليه، وبدأت تألفه، واعتادت التردد على المستشفى مرة كل أسبوع على الأقل، وكانت تتلمس مختلف المعاذير للذهاب إلى المستشفى مرة كل أسبوع على الأقل، وكانت تتلمس مختلف المعاذير للذهاب إلى المستشفى، وكان هو ينتظر حضورها في نوع من القلق، ورغب في أن يتعرف بأبيها فلم تعيه الحيل، ووثق صلاته به وغمره بكل عطفه، الأمر الذي أثار دهشة الرجل، وجعله يتساءل عما يرمي إليه الطبيب من وراء كل هذا الاحتفاء!

وأحس (فؤاد) أن جراحه القديمة تبرأ بسرعة. . إنه سعيد بهذه الطفلة البريئة الساذجة! إنه لا يطلب أكثر من أن يراها لترد إليه من جديد إيمانه بالحياة، وتزيح عن قلبه الظلام المتراكم، لقد غمرها بكل ما في قلبه الأبيض من حنان. . . ذلك الحنان الذي كان يعذبه لعدم عثوره على من يغدقه عليه! ولا شك أن هذه القروية الساذجة، الطاهرة القلب أجدر الناس به. . .

وعندما يمنح الطبيب قلبه للمريض تلهم العناية الإلهية يده وتحدث المعجزات. . . وكانت عزيزة تبدو أكثر نضرة وشباباً في كل مرة تذهب فيها إلى المستشفى. وكان هو يتأمل احمرار خديها في فرح وهي تتقدم نحوه والخجل يكاد يقيد قدميها بالأرض آه. . . لو كان شاعراً لنظم أروع قصائده في هذه اللحظة التي يراها فيها وهي مقبلة عليه في خطواته الموسيقية الهادئة. . .

واستولت الريفية الفاتنة على لب الطبيب الذي نزح من المدينة ناشداً السلوى والعزاء. . . وأصبح خيالها يراوده في اليقظة والمنام. . . فعندما كان يقرأ، أو يفكر، أو يتأمل الطبيعة والدنيا والناس فينبض قلبه بمختلف العواطف، وتنتشي نفسه بأجمل الاحساسات، كان يفكر فيها ويتخيلها جالسة إلى جانبه تشاركه عواطفه واحساساته ويحدق في وجهها فيرى بريق الذكاء في عينيها والبسمة الحلوة تضيء قسماتها معبرة عن الفهم والفرح.

ولكن لا تلبث أن تظلل محباه سحابة من الأسى. إنه يسرف في الخيال: وهي لا تستطيع كل هذا: إنها الغريرة الساذجة التي تنطبق حدود الدنيا في ذهنها على حدود القرية. . .

ثم يعود يسأل نفسه لم يعكر صفو سعادته بمثل هذه الأفكار؟ إنه سعيد، فرح، يعيش في دنيا جديدة من خلق عينيها. إن الغيوم الداكنة المتراكمة في سماء روحه تتبدد تحت أشعة بسماتها الصافية، ونظراتها الحلوة وتطرد من رأسه كل الأفكار السوداء التي قضى أشهراً وهو يجهد في إقناع نفسه بها، وتعلمه من جديد نفاسة الحياة وجمالها، وعاد يأنس الناس ويتبسط معهم ويجد في حديثهم الساذج التافه كثيراً من الغبطة والسرور.

وسارت الأيام في طريقها والعلاقة بينهما قوة وعمقاً، كان هو يتفانى في خدمتها ويبدي لها من دلائل الوداد والحنان ما يجعلها تحس بأنها أسعد أنثى في الوجود، لقد اعترفت له وعيناها تتألقان بشراً وحبوراً أن يوم حضورها إلى المستشفى هو (يوم العيد) عندها. . .، وتبادلا كثيراً من التذكارات، وطلب منها مرة أن تهديه صورتها فاعترفت له في كثير من الخجل أنها لم تقف مرة واحدة طول حياتها أمام آلة التصوير، فصورها بنفسه عدة صور. . . وكان يصله من العاصمة بين حين وآخر ما لا يتيسر وجوده في الريف من الحلوى والفاكهة؛ فلا يطيب له تناول شيء منها إلا إذا أهداها بعضها فينتهز فرصة وجود أبيها معه ويعطيه من كل ما كان يرد إليه.

وآمنت هي بطيبة قلبه وإخلاصه ولم تعد تخجل منه أو تتهيبه بل كانت تجد سعادتها في أن تعترف له بكل ما في قلبها. . .

وكان يلاحظ أحياناً على وجهها آثار الحزن والألم فيسألها عن سبب أشجانها، ويلمح الدموع تجول في عينيها وهي تعترف له بأنها كثيراً ما توصد على نفسها باب غرفتها، وتظل تبكي وتكبي دون أن تدرك لذلك سبباً.

وأدرك هو أن قلبها يعذبها، خاصة عندما سألته في صوت يقطر توسلاً وضراعة لماذا يعيش وحيداً؟ لماذا لا يحضر أمه أو إحدى أخواته لتؤنسه وتسهر على راحته؟؟ وابتسم، وعرف إنها لم تعد تقنع بهذه اللحظات العابرة التي تقضيها معه.

وابتدأ يحاسب نفسه ويسألها عن النتيجة!

لقد نبه في قلبها الشوق؛ وأشعل فيه الحرب، وها هو الحب يجلب معه الشجون والأفكار.

لقد فتنته جمالها وطيبة قلبها فهل يربط مصيرها بمصيره؟ ظل وقتاً طويلاً حائراً معذباً بين فكره وقلبه وقضى ليالي برمتها لا يذوق جفنه النوم وهو يفكر كيف تكون حياتها معه لو. . . تزوجها؟

ولكنه اقتنع أخيراً أن بينهما من الفروق ما يجعل الحياة الدائمة معها مستحيلة، إنها القروية الساذجة التي لم تتلق من العلم شيئاً وقد تهلك عندما ينزعها من تربتها ليزرعها في تربة أخرى!. . . إن نواحي كثيرة فيه ستبقى مجهولة منها. . . مستغلقة عليها وسيشقى كثيراً في طريق الحياة المجهد وهي إلى جانبه لا تدري بشقائه وبواعثه، وسيسعد كثيراً في دنيا الفكر والفن والطبيعة وهي إلى جواره لا تستطيع أن ترد ذلك المنهل العذب وتتيح لنفسها تلك المتع الرفيعة التي لا تمتلك الحياة نفسها أن تمنح أسمى أو أجمل منها. . .

ولم يخفف قراره هذا من لوعته وألمه: إن سيحطم بيديه القلب الذي بدد وحشته، وأنساه آلامه وهز أوتار قلبه هزات رائعة وسيعود يوماً ما إلى برد الوحدة من جديد ولا يجد إنساناً وحداً يستطيع أن يفرح ويحزن معه. . .

وظل حائراً معذباً ولكن ماذا يفعل؟ لقد أحبها أكثر من أي أثنى رآها في حياته ولكنها ليست له، هذه الجوهرة النفيسة ما زالت (خاماً) وفي حاجة إلى كثير من الصقل والتهذيب، لقد غمرها بحنانه لأنها الزهرة الوحيدة في تربة لا تنبت إلى الحشائش وكان سعيداً بها لأنه يراها لحظات كل أسبوع ولكن الحياة الدائمة بينهما قد تكون مثال التعاسة والشقاء. . .

كانت كل هذه لأفكار تصطرع في رأسه وهي تزداد حباً له وتفانياً فيه، وهو لا يجرؤ على أن يبوح لها بمكنون ضميره، وأهل القرية يتهامسون بأن طبيبهم سيتزوج من عزيزة. . .

وظل هكذا موزع القلب بين حبه لها وإشفاقه عليها من عاقبة هذا الحب حتى صدر قرار بنقله إلى بلدة أخرى، وللمرة الثانية تلقى الخبر في فتور حزين مؤمناً أن للقدر أحكامه وسخرياته.

وسمعت هي نبأ نقله فجاءته والدموع تجول في عينيها وسألته في لهفة عن حقيقة الأمر، وعما إذا كان سيعود أم لا؟؟

وللمرة الأولى منذ حل هذه البلدة وجد الدموع تنحدر على خديه وقال لها: (الله يفعل ما يشاء يا عزيزة، من يدري ماذا سيحدث غداً؟).

وأحس من نظراتها القلقة الحادة أن إجابته لم تعد إليها طمأنينتها، ولكنه لم يجد ما يقوله. وبعد أن قضت معه فترة انصرفت وهي تتعثر في خطواتها. . .

شعر بقلبه يمتلئ سخطاً على نفسه وندماً! ليته ما عرفها، إن سيذهب ولا يخلف لها إلا الحسرة والألم والدموع. . . ولكن هل كان يستطيع أن يحول بين قلبه وبين الهيام بها والافتتان بجمالها الرقيق وروحها العذب؟ وهل في طبيعة الأشياء أن يقف المرء في طريق قلبه ويخنق عاطفته التي تفيض طهراً وسمواً، وتغدق على حياته، وحياتها هي، أنبل المعاني وأجمل الاحساسات؟

وحل اليوم الموعود وغادر البلدة إلى مقر عمله الجديد.

وتوالت الشهور والأيام وذكراه تحتكر فكرها وقلبها، وظلت تمني نفسها أنه سيعود يوماً ويملأ حياتها فرحاً وسعادة. . . وطال انتظارها وعادت إلى وحشتها وكآبتها ودموعها. . . وكانت تجلس ساعات وحيدة ساهمة تحدق في الطريق البعيد المؤدي إلى المحطة. . . فقد يلوح شبحه فجأة قادماً من بعيد.

وتقدم أبن عمها لطلب يدها فرفضت.

أما هو فكثيراً ما كان يفكر فيها ويمتلئ قلبه شوقاً إليها، ولا تكاد تمر ليلة دون أن يضع صورها أمامه، ويطيل التأمل فيها، ويسأل نفسه: (ترى من سيتزوجها؟ ليس بين أهله قربتها من هو جدير بها!) ثم يرفع وجهه نحو السماء ويضرع إلى الله أن يمنحها الرجل الذي يستطيع أن يمنحها السعادة والهناء!.

نصري عطا الله سوس