مجلة الرسالة/العدد 720/القصص

مجلة الرسالة/العدد 720/القَصصُ

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 04 - 1947



من أساطير القدماء:

خصومة في الحب!

للأستاذ ماجد فرحان سعيد

(نقلت عن الإنجليزية من كتاب (أساطير بلفنتش) '. . . .

. . . . . . .)

في يوم من الأيام، رأت يونو - زوجة المشتري وحارسة النساء - سحابة مظلمة فوق رأسها، فساورها الشك بأن زوجها قد أقام تلك السحابة ليخفي عن عيون الناس بعض أعماله المستنكرة؛ ولذا أمرت السحابة بالانقشاع، فتلاشت في الحين؛ وإذا بزوجها جالس على ضفة نهر لجيني الصفاء، وبجانبه عجلة جميلة. فاشتبهت يونو بأن شكل العجلة يخفي حورية هيفاء فاتنة الجمال. وفي الحقيقة كان ظنها صادقاً، لأن زوجها - وهو إله السماء العظيم وملك الآلهة جميعها - كان يداعب إيو إبنة إله النهر إناخوس - وعندما أحس مقدم زوجته غير شكل الحورية.

ثم جلست يونو بجانب زوجها، وبدأت تثني على جمال العجلة وتسأل عنها وعن القطيع الذي تنتمي إليه. أما زوجها، فلكي يوقف هذا الفيض المستمر من الأسئلة، أجاب بأنها مخلوقة بريئة خرجت من الأرض قبل مدة وجيزة؛ فطلبتها يونو هدية منه، فحار فيما يصنع، إذ كان يحز في نفسه ويمضها أن يهب خليلته لزوجته، ولكن كيف يمكنه أن يضن عليها بهدية زهيدة كهذه العجلة، ألا يكون قد أثار في نفسها عاصفة هوجاء من الشك والارتياب؟! فوافق على ذلك؛ أما زوجته فظلت الشكوك تتطرق إليها، ولذا عهدت إلى أرجوس مراقبة العجلة والمحافظة عليها.

وكان لأرجوس مائة عين في رأسه، فلم يتعود النوم بأكثر من اثنتين منها، لتظل إيو تحت المراقبة المستمرة. وكانت إيو ترعي سحابة النهار؛ وعندما يزحف الليل بجحافله يربطها حارسها بحبل خشن حول عنقها. وكم كانت تود لو تستطيع مد يديها لتضرع إليه أن يطلق سراحها ويمنحها الحرية! غير أنها كانت تحجم عن ذلك لأن خوارها مرعب لدرجة عظيمة. وكان أبوها وأخوتها يقتربون منها، ويربتون لها على ظهرها، ويعجبون بجمالها، ويغرقون في استحسان شكلها، ويقدمون لها حزماً من الحشيش الأخضر فتعلق أيديهم الممدودة. وأخيراً سولت لها نفسها أن تعترف عن اسمها لأبيها وتعرب له عن رغبتها، غير أنها لم تكن تقوي على التعبير عن شعورها؛ فعن لها أن تحفر لها اسمها على الرمل بظلفها. أما إناخوس فميزة؛ وعندما عرف أن ابنته التي كان ينشدها من غير جدوى متنكرة بتلك الهيئة، علا وجهه ضباب قاتم من الحزن، وعانق على الفور جيدها الناصع الجميل، وصرخ قائلا: (لهفي عليك أيتها العزيزة الغالية! فلأن أفقدك بالمرة أهون على من رؤيتك بهذه الحالة!) وعندما لاحظ الحارس ذلك، جاء وساقها أمامه وجلس في محل عال يتمكن فيه من رؤية ما حوله.

أما المشتري، فقد كان يزعجه كثيراً أن يرى خليلته تعاني أبرح الآلام والأهوال؛ فالتجأ إلى عطارد - رسول الآلهة - وطلب إليه أن يدبر حيلة تنتهي بالتخلص من الحارس. فأسرع عطارد واحتذى خفيه المجنحين، ولبس قبعته، وتأبط عصاه السحرية، وقفز من أبراج السماء إلى الأرض؛ وهنالك خلع أجنحته واحتفظ بعصاه وتظاهر بأنه راع يسوق قطيعه. وكان في طريقه يعزف على سرنكس مزماره الغريد، فأطرق أرجوس وأرهف مسمعه للنغمات العذاب التي أخذ يصدح المزمار بها، إذ لم يكن رأي مزماراً كهذا من قبل. فناداه قائلا: (تعال هنا أيها الشاب واجلس بجانبي على هذا الحجر؛ لتكن نفسك مطمئنة، إذ لا يوجد مكان يكثر فيه العشب كالمكان الذي ارتادته أغنامك؛ وههنا الظل الظليل الذي يتوخى الرعاة أن يصطفوا فيه مجالسهم) فجلس عطارد بجانبه، وأخذ يخوض معه في أحاديث متنوعة، ويقص عليه الأقاصيص الطريفة، ويعزف على مزماره صوادح الألحان التي تبعث النوم إلى الأجفان. . . كانت الشمس قد آذنت بالمغيب، وخضبت وجنة الأفق بأشعتها السحرية التي تبهج النفوس. أما الحارس، فقد ظل يقظان ليقوم بالمراقبة، بالرغم من كل الجهود التي بذلها عطارد ليجعل النعاس يستحوذ عليه، والهجوع يستبد بجفونه. ومن بين تلك الأقاصيص قصة اختراع آلته الصداحة، قال: (كانت تعيش حورية حسناء تدعى سرنكس، وقد تيم حبها الجنيين وأخذ بمجامع قلوبهم، ولكنه لم يخطر ببالها قط أن تتزوج أحداً منهم لأنها كانت متعبدة مخلصة لديانا - إلهة الصيد. وكانت سرنكس مغرمة بالصيد أيضاً، فلو رأيتها في زيه لما ونيت دقيقة بأن تحسبها ديانا نفسها. فالشيء الوحيد الذي يفرق بينهما هو أنها اتخذت قوساً قرنية، بينما اتخذت ديانا قوسها من الفضة الخالصة. وفي ذات يوم بينما هي راجعة من الصيد التقى بها بان - إله الرعاة والقطعان - وأخذ ينظم لها العقود المنضدة من عبارات الغرام. ولكنها جعلت ذلك دبر أذنيها وولت هاربة بيد أن بان حفز في أثرها، وأدركها عند ضفة النهر؛ وهنالك طلبت المعونة من صويحباتها - عرائس الماء - فوافقن على إجابة طلبها. أما بان فطوقها بذراعيه، ولكنه سرعان ما دهش عندما رأى أنه يطوق مجموعة من القصب! وعندما تنهد، سمع للهواء صوتاً داخل القصب، وكانت النغمة حزينة مطربة، وأعجبته حلاوة موسيقها، وكان لها وقع عظيم في نفسه؛ فقال مشدوهاً من شدة الفرح: (وهكذا ستكونين لي!). فأخذ بضع قصبات متفاوته في الطول والقصر، ووضع بعضها بجانب البعض الآخر، ووضع آلة موسيقية جديدة أسماها سرنكس، تذكاراً لتلك الحورية). وما كاد عطارد ينهي أقصوصته حتى مد النعاس إلى الحارس ذراعيه، وطوق بهما عنقه، فأعفى. ولما رأى عطارد أن الحارس قد اطمأن إلى النوم، فصل رأسه عن جسمه بضربة قاضية دحرجته عن الصخور، وأطفأت نور عيونه المائة إلى الأبد أما يونو فأخذت عيونه وزخرفت بها ذنب طاووسها ولا تزال عليه إلى اليوم.

ولكن يونو لم تكتف بالانتقام من إيو على هذه الصورة، بل سلطت عليها ذبابة خيل لتسومها سوء العذاب أينما تذهب وتحل. أما إيو فطافت العالم كله لتأمن شرها: سبحت في البحر الأيوني الذي اشتق اسمه من اسمها وقطعت سهول اليريا وصعدت في جبل هيموس واجتازت مضيق البوسفور وجالت في أراضي سيثيا حتى وصلت أخيراً إلى ضفاف النيل؛ فاستشفع المشتري لها زوجته بعد أن وعدها أن لا يولي خليلته أي اهتمام بعد ذلك الوقت؛ وعندئذ سمحت زوجته لإيو أن تسترجع شكلها الأصيل. وكم يبدو غريباً أن تشاهدها وهي تسترجع ذلك الشكل، فيسقط الشعر الخشن عن جسمها ويتقلص قرناها، وتضيق عيناها، ويقصر فمها، وتستبدل بأظلافها أنامل رخصة؛ غير أنها كانت تخشى الكلام ظناَ منها أنها ستخور؛ ولكن ثابت لها بالتدرج شجاعتها وثقتها بنفسها؛ فذهبت لتعيش مع أخواتها وأبيها.

وكالستو حسناء ثانية أضرمت سعير الحسد في صدر يونو، فمسختها الإلهة دبة قائلة لها: (لأسلبنك تلك الفتنة التي استهويت بها زوجي فعنا لها!). وعندها خرت كالستو إلى ركبها، وحاولت أن تتوسل إلى يونو، غير أن يديها بدأتا تتغطيان بشعر أسود، وتتسلحان بأظافر ملتوية. وأما ذلك الفم الذي طالما تغنى المشتري بجماله، فصار ينفرج عن فكين شنيعين؛ وأما صوتها الذي لو بقي على حاله لأثار كوامن الحب والشفقة في القلوب، فتحول زمجرة مرعبة. ولكن مزاجها الأصيل بقي على حاله، فلم يعتره أقل تغيير أو تبديد. وبتلك الزمجرة المستمرة، كانت تندب سوء حظها وتستعطف الرحمة من قلوب الراحمين؛ ولكنها صارت تشعر بأن المشتري عدم الشفقة، مع أنها لم تجهر بما تضمر. وفي مناسبات عديدة، كانت تخشى البقاء في الأحراج وحيدة طوال الليل وخصوصاً بين الكلاب التي تخيفها بهريرها، فتنطلق نافرة من الصيادين. ولقد بلغت بها شدة الخوف إلى أن صارت تهرب من الوحوش البرية حتى من الدببة، متناسية أنها أصبحت من معشرهن.

وفي ذات يوم وأت شابا يصطاد في الحرج، فأيقنت أنه ابنها، وثارت في نفسها آنئذ أمواج من العواطف الأبوية؛ فتوقفت وأرادت أن تعانقه. وعندما اقتربت منه وجف قلبه، فأشرع رمحه، وأوشك أن يطعنها به؛ غير أن المشتري حسما لوقوع الجريمة اختطف الاثنين إلى السماء واتخذ منهما الدب الأكبر والدب الأصغر.

فثارت ثائرة الغضب في صدر يونو عند ما رأت خصمها متسنمة عرش السماء؛ فأسرعت تيثيس وأوشيانوس - وهما إلها البحار - وخاطبتهما قائلة: - (أتسألان ملكية الآلهة لماذا انحدرت من السهول السماوية إلى هذه الأعماق؟ أجل! انظرا عند ما تخيم الظلمة تريا بجانب القطب الاثنين اللذين بولغ في إكرامهما وحلا محلى في السماء! أتظنان بأن أحداً بعد اليوم سيقيم لي وزنا أو سيني في احتقاري عند ما يعلم بأن الإساءة إليّ تقصي عني مثل هذه المكافأة؟! هذا ما استطعت أن أعمله وهذه سعة قدرتي!! حرمتها من شكاها البشري فحلت بين النجوم النيرات!! إنه لمن الأفضل أن تستعيد شكاها القديم كما فعلت إيو عند ما تجاوزت عنها؛ لهذا السبب جئت مستغيثاً بكما - إن كنتما ترأفان بي وتستنكران هذه المعاملة السيئة التي نكبت بها - أن تثأرا لحقي المسلوب، وتمنعاهما من المجيء إلى مياهكما).

فوافق الإلهان على ذلك، إذ منعا الدب الأكبر والدب الأصغر من أن يغيبا تحت البحار كما تفعل غيرهما من النجوم، وفرضا عليهما الدوران الدائم في السماء.

القدس - كلنة تراسانطا

ماجد فرحان سعيد