مجلة الرسالة/العدد 723/الذكرى العاشرة للرافعي

مجلة الرسالة/العدد 723/الذكرى العاشرة للرافعي

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 05 - 1947



للأستاذ محمود أبو ريه

مما يجب علينا لعظمائنا وعلمائنا الذين ينتزعهم الموت من بيننا، أن ننتهز كل مناسبة تمر بنا لنستعن بفضلهم، ونبعث التحية الطيبة إلى أرواحهم، في ذلك وفاء لهم وإحياء لذكرهم حتى لا نرمي بعدهم الوفاء، ولا نزن بنكران الجميل

ولمناسبة انقضاء عشرة أعوام على وفاة أديب العربية وكاتبها السيد مصطفى صادق الرافعي رحمه الله نرى من الحق علينا أن نبعث إلى روحه الطاهرة بتحية مباركة طيبة ونرجو أن تفي هذه التحية ببعض ماله من فضل وما يستحق من تقدير

نبت الأرفعي في اكرم منبت وأزكى مغرس؛ فبيت (الرافعي) مشهور في الأقطار الإسلامية بأنه بيت علم أدب وتقوى، ولئن كان رحمه الله قد ورث من آبائه الدين والتقوى، فإنه قد نشا على حب الأدب العربي، فأقبل على دراسته دراسة استيعاب واستقصاء وتحقيق، حتى تضلع من فنونه، وتملأ من أصوله، ووقف على أساليب بلغاء العربية وأحاط بطرائقهم ومناحيهم حتى أصبح صدره خزانة أدب. وقد أتاه الله ملكة قوية في البلاغة، وحاسة دقيقة في البيان، وبهذه الدراسة المحيطة للأدب العربي، والملكة القوية في البلاغة، والذوق الدقيق في البيان، استطاع أن يبتدع لنفسه أسلوبا خاصا في الكتابة العربية يباين أساليب الكتاب جميعا إذ يجمع هذا الأسلوب بين البلاغة والحكمة والخيال، هذا مع النكتة اللاذعة والكناية المستلمحة. حتى انك لو نصبت جملة من إنشاء غيره من كتاب العربية لبانت جملته منها جميعا، ولنادت على نفسها بأنها للرافعي ومن أسلوبه رحمه الله

وقد شبهوه بالجاحظ، وكأنهم لما رأوا أسلوبه محكم النسج متخير اللفظ مصقول العبارة أنيق الديباجة، قد خلعت عليه البلاغة زخرفتها، وكسته الفصاحة بجميل وشيها؛ قالوا إنه جاحظ هذا العصر. ولكن الجاحظ على إمامته في البلاغة وبراعته في الترسل، وطول نفسه في العبارة، وافتنانه في تلوينها وإبداع تصويرها، كان يستطرد إلى غير الغرض الذي ساق كلامه إليه، ويذهب في شعاب القول هاهنا وهاهنا يؤدي به هذا الاستطراد إلي الخروج عن بلاغته العالية.

ومع إن الجاحظ حجة من حجج العربية وأمام كتابها على مد العصور فانك لا تجد مطاوي كلامه قبسا من الحكمة. والحكمة من أقوى أداة الكاتب والشاعر

ولقد كان برافعي خيال بعيد ينفذ به إلي أقطار المباني الدقيقة فيستوحي منها الدرر، ويحلق في أجواء التصورات البعيدة فيستنزل منها الغرر

ولا نقول هذا مجاملة له رحمه الله، ولا يدفعنا إليه تشييع لما كان بيني وبينه من أواصر الصداقة والمودة، وإنما هو الحق والأنصاف.

وقد كان الرافعي أستاذ مدرسة خاصة في الأدب والكتابة، وكان في الأخلاق الكريمة والتمسك بآداب الإسلام ومجد العرب أمة واحدة، لا يعنيه شيء في الحياة إلا أن يحرس لغة القران ويحافظ على أساليبها، ويبعث من تراثها، ثم كان لا يفتأ يعمل على أحياء الآداب الإسلامية والأخلاق الدينية، حتى ينشأ هذا الجيل محبته لغته ودرس فنونها والتمرس بآدابها ثم يأخذ بأخلاق دينه وصالح عاداته. إذ كان يستيقن رحمه الله - وهو على حق - إن الأمة لا تنهض إلا باستمساكها بأصول لغتها وكريم أخلاقها، ثم لها بعد ذلك أن تأخذ من العلوم والفنون النافعة في الحياة ما شاءت وشاء لها نظام العمران

ولما انبعثت فتنة (التجديد والمجددين) منذ اكثر من ثلث قرن وكان أهلها يحاولون أن تكون الكتابة (باللغة العامية) وان نهجر أدبنا القديم وتراثنا التليد كان هو أول من نازل دعاتها وظل وحده يناضل ويصول حتى كتب له النصر وخرجت الأساليب العربية الصحيحة ظافرة تشرق على أسلات الأقلام

وما كانت هذه الفتنة لإصلاح يراد ولا كانت لتطور معتدل وإنما كانت ترمي إلي غرض بعيد؛ ذلك إن القضاء على البلاغة العربية يؤدي لا جرم القران وعدم فهمه وبذلك يصبح هذا الكتاب المقدس للغة العربية كاللاتينية للغات الأوربية؛ ومتى صار القران كذلك فقل على الإسلام العفاء.

وظل رحمه الله رابضا متحفزا يحمي ذمار العربية ويذود عن حوضها إلى إن انقلب إلى ربه

وإني لأشهد انه كان يتحرق على ما وصلنا إليه من ضعف في الأدب، وانحلال في الخلق، ويود لو تتاح له الفرصة ليطلع على الناس في كل أسبوع بمقال في إحدى الصحف يؤدي فيه شيئا من رسالته حتى سنحت له فرصة الكتابة بمجلة الرسالة الغراء وارتقى منبرها فامتلأ قلبه فرحا وقد بدا سروره في خطاب أرسله إلى فقال

(أما الرسالة فهم كتبوا إلي بعد أن تركت طه حسين. . . وقد رأيت إني مخطئ في الاقتصار على وضع الكتب، وكان في نيتي من زمن الكتابة أسبوعيا في مجلة كبيرة كما أخبرتك فلما عرضت هذه الفرصة انتهزتها لأجرب هذه الطريقة. . ولعلي أوفق إن شاء الله بعونه تعالى في المضي في الكتابة والقوة بالله وسأنوع المواضيع كما رأيت ويدخل فيها فصول الكتاب النبوي بين الوقت والوقت إلى أن يتم وان أقاسي في كتابه الآن عسرا شديدا من الحر والتعب وحاله المعيشة الحكومية لعنة الله عليها

(وهذا الموضوع صعب جدا يا أبا ريه ليس في العربية مقال واحد منه. ومن يومين أطلعني العريان على الجزء الأول للنظرات فإذا فيه مقال عن الهجرة لا يساوي نصف مليم! فأدع الله لنا بالعون في اقتحام هذه العقبة. . .)

والكتاب النبوي الذي يشير إليه الرافعي في هذا الخطاب هو كتاب كان يريد أن يضعه في رسالة الرسول صلوات الله عليه ويجعل عنوانه (محمد).

ولقد كان له غير ذلك آمال يريد تحقيقها وأعمال يود استكمالها، ومن هذه الأعمال كتاب (تاريخ آداب العرب) الذي كان يقول عنه إنه دين في عنقه حتى يتمه. وقد انعقد الإجماع عندما ظهر الجزء الأول منه انه لم يؤلف في موضوعه مثله

وممن أشادوا به الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا فقد عقد له صفحات كثيرة في الجريدة ولولا أننا نؤثر الإيجاز لأتينا على ما كتبه هنا

وعقد له الأمير شكيب أرسلان رحمه الله صفحة طويلة في صدر جريدة المؤيد جاءت فيها هذه العبارة (لو كان هذا الكتاب خطا محجوبا في بيت حرام إخراجه منه لاستحق إن نحج إليه، ولو عكف على غير كتاب الله في نوا شيء الأسحار لكان جديرا أن يعكف عليه)

ومن الكتب التي أتمها كتاب (أسرار الأعجاز) وكان رحمه الله يفاخر به وقد وضع أكثره. وكان يريد أن يضع (رسالة في معارضة الدرة اليتمة لابن المقفع بنفس الأسلوب وعلى الطريقة الأولى في الكتابة العربية طريقة المتقدمين)

وكتب إلي في خطاب

(وأنت قرأت الأم فرز وهذا الكتاب مشهور في لغات أوروبا وآدابها فأنا أريد معارضته وقد قام بذهني إنه لا راحة إلى إلا إذا أخرجت مثله)

وقال في خطاب آخر:

(ولا يزال في فكري أن أتضع كتابا صغيرا يكون أشبه بقصيدة واحدة في معارضة سفر من أسفار التوراة كأناشيد سليمان مثلا)

وقال في خطاب

(وأنا بحسرة من كليلة ودمنه فلو وقفني الله إلى إتمامه كتابا برأسه لكان حادثا في تاريخ العربية كلها)

ولا استوفي هنا كل ما كان يريد عمله

ولقد كان له في البحث والاستقصاء شان عجيب فيوم إن غمره بالجمال وأخذ يؤلف كتاب أوراق الورد بعد رسائل الأحزان أراد أن يعرف هل كتب (إخوان الصفا) في الجمال فكتب لي في خطاب مؤرخ 19 يوليو سنة 1930

(. . . أبحث في إخوان الصفا هل كتبوا عن الجمال فإني لم أقرا هذا الكتاب إلا قليلا ولا وقت عندي لتصفحه. .)

كتب إلي في خطاب آخر مؤرخ 21 نوفمبر 1931 يقول

(أحب أن تراجع قسم المنطق من رسائل إخوان الصفا لمعرفة هل استعمل واضعو هذه الرسائل كلمة (استنتاج) أم لا فإن من مقالات المجموعة مقالة عن هذه الكلمة وحل استعمالها. أما الكلمة نفسها فعثرت عليها في كتابة ابن سينا وهذا يدل على إنه أخذها عمن قبله، فلا بد أن تكون قد وردت في رسائل إخوان الصفا). وإن القول في الرافعي وأدبه لطويل؛ وإنما هي سطور كتبناها لمناسبة انقضاء عشرة أعوام على وفاته رحمه الله

وإذا كان أقصى ما يقال في العظماء بعد وفاتهم أن يتحدث عن صفاتهم وأعمالهم، وعما أصاب الناس بفقدهم، وهل لهم خلف يعزى عنهم أو انهم قد خلا مكانهم فإني أقولها كلمة ولا أخشى فيها أحدا.

ذلك إن مكان الرافعي قد خلا وإنه لم يخلفه في أداء رسالته أحد. رحمه الله رحمة واسعة.

المنصورة

محمود أبو ريه