مجلة الرسالة/العدد 723/هل الموت نتيجة لازمة للحياة؟

مجلة الرسالة/العدد 723/هل الموت نتيجة لازمة للحياة؟

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 05 - 1947



الحيوانات والنباتات الخالدة - الشيخوخة وأسبابها

للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي

(إلى ذكرى العالم البيولوجي المصري الكبير الدكتور عثمان

غائب باشا اقدم هذه الثمرة البسيطة من حديقة تعاليمه الفيحاء)

يعتقد جمهور الناس أن الموت نتيجة طبيعية لازمة الحياة، وأن كل كائن حي لابد من ان يموت. فإذا صحت هذه العقيدة فلا محل للبحث عن أسباب الشيخوخة ولا محاولة الكشف عن علاج لها لاتقاء حدوثها لأنها تكون حينئذ قضاء محتما لا مفر منه. ولكن من ينعم النظر ويدقق البحث على ضوء الاكتشافات والحقائق العلمية الحديثة يتضح له أن تلك العقيدة لا تستند إلى أي سند علمي وأن سبب قيامها في أذهان الناس هو ما يشاهدونه عادة في الإنسان وفي باقي الحيوانات والنباتات المتعددة الخلايا نتيجة عوامل الشيخوخة التي سيأتي الكلام عنها.

وقبل أن نتكلم عن هذه العوامل ونبين أن الشيخوخة مرض كسائر الأمراض ينشأ عن تسمم تدريجي ناتج من نظام التغذية وجهاز التصريف الناقصين في النباتات والحيوانات (بما فيها الإنسان) - قدم من الآن الأدلة القاطعة التي تهدم تلك العقيدة من أساسها - عقيدة ضرورة الموت - ونعني بذلك الحيوانات والنباتات الخالدة.

الحيوانات والنباتات الخالدة:

كل من يفحص بالميكروسكوب قطعة من جسم إنسان أو من جسم أي حيوان أو أي نبات يتضح له إنها مؤلفة من خلايا صغيرة متلاصقة لا ترى بالعين المجردة وهي أشبه بخلايا النحل ولكنها غير منتظمة مثلها، والخلية تتركب من مواد زلالية مخلوطة أو ممزوجة بمواد دهنية ومواد سكرية أو نشوية، وفي وسطها نواة من مواد زلالية أخرى، ولمعظمها غشاء أو غلاف يحيط بها من مادة زلالية وغيرها في الحيوانات، ومن مادة السليلوز في النباتات وهي من فصيلة السكر والنشا ومادة الخشب.

وأصل كل فرد من النباتات والحيوانات (ومنها الإنسان) خلية واحدة تسمى في ع الحيوان والنبات (بالبيضة) وهي خلية ميكروسكوبية تنتج من تلقيح بويضة الأنثى بخلية خاصة مشتقة من أعضاء التذكير في الحيوانات والنباتات. وتأخذ البيضة بعد التلقيح في النمو بطريق الانقسام نتيجة التغذي فتنقسم إلى قسمين يبقيان متلاصقين، وينقسم كل منهما إلى قسمين آخرين وهلم جرا، وعلى هذا النحو الخلايا المشتقة من البيضة وتنشأ منها مختلف الأنسجة والأعضاء فيتكون الجنين ثم الفرد الكامل.

غير انه توجد كائنات حية مكونة من خلية واحدة واعني بها النباتات الأولية كالبكتريا والمكروبات، والحيوانات الأولية الميكروسكوبية كالأميبيا التي يسبب نوع منها مرض (الدوسنطاريا) وكجرثومة الملاريا وجرثومة مرض النوم وغيرها. وكيفية توالد وتكاثر هذه الأحياء ذات الخلية الواحدة هي أن تنقسم كل منها إلى قسمين (وأحيانا في بعض الأنواع إلى أقسام عديدة) كما يحدث لخلايا الحيوانات والنباتات الأخرى المتعددة الخلايا وخاصة أثناء تكوين أجننها (جمع جنين) على الوجه المتقدم بيانه. غير أم كل قسم جديد من أقسام الخلية الأصلية ينفصل هنا عن غيره ويصبح فردا جديدا يحيا حياة مستقلة ويتغذى فينمو وينقسم بدوره إلى أقسام أخرى تصبح أفرادا جديدة، وهكذا، بحيث لا يموت ولا يغني شيء من هذه الأفراد إلا بحادث مهلك كان يجف الماء الذي تعيش فيه أو يفسد أو كان تبتلعها حيوانات أخرى مع الماء وتهضمها.

ولكن يحدث إنه بعد عدة انقسامات تصبح الأفراد الأخيرة غير قابلة للانقسام كأنها شاخت أو هرمت، وهذه أول صور الشيخوخة وابسطها في عالم الأحياء. ولاشك في أن هذا العجز ناتج مما يتراكم داخل أجسامها من بقايا المواد الإفرازية السامة المتوالدة من احتراق المواد الغذائية بعد هضمها وعدم تصريفها (أي الإفرازات السامة) إلى الخارج بأكملها، ذلك الاحتراق اللازم لتوليد الطاقة (القوة والحرارة) الضرورية لعمليات الحياة، ولهذا يعرف الفسيولوجيون الغذاء بأنه وقود الماكينات الحية الحيوانية والنباتية. ولو أستمر هكذا حال تلك الأفراد العاجزة عن الانقسام لماتت لا محالة كما يموت أفراد الأحياء العليا بالشيخوخة. غير انه يكفي لاسترداد شبابها ونشاطها الانقسامي أن يلتصق كل فردين منها أحدهما بالآخر ويتبادلان نصف نواتيهما ثم ينفصلان بهما شباب ناهض قابل للانقسام من جديد. وهذه هي أول صورة من صور التلقيح في عالم الكائنات الحية. وليس التلقيح سرا من وراء الطبيعة فقد استعاض عنه البيولوجيون (علماء الحياة) وفي مقدمتهم جاك لوب ببعض مؤثرات طبيعية أو كيميائية على الأرفاد العاجزة عن الانقسام فيفصلون فردا واحدا منها في قليل من الماء ويضيفون إليه قليلا من بعض الأحماض أو القلويات الخفيفة أو يسلطون عليه تيارا كهربائيا ضعيفا أو يرجونه داخل أنبوبة صغيرة فيأخذ هذا الفرد الهرم في الانقسام من تلقاء نفسه كما يحدث عقب اتصاله بفرد آخر مماثل له وتلقيح الواحد مهما الآخر على الوجه المتقدم بيانه.

ويظهر إن فعل التلقيح الطبيعي وفعل هذه المؤثرات الاصطناعية إنما هو تنشيط تصريف تلك الإفرازات السامة المتراكمة داخل أجسام الأفراد التي شاخت وصارت عاجزة عن الانقسام أو أحداث تفاعلات كيميائية من شانها إزالة تلك السموم الإفرازية ومحو أثرها.

وخلاصة القول أن الحيوانات والنباتات الأولية ذات الخلية الواحدة هي كائنات حية لا تموت ولا ينعدم منها شيء، فمتى وصل الفرد منها إلى تمام نموه ينقسم إلى قسمين مستقلين يصبح كل منهما فردا جديدا ينمو ثم ينقسم بدوره إلى أفراد جديدة، وهكذا إلى ما لا نهاية له دون أن يموت أو يتلاشى شيء منها إلا بحادث مهلك كما تقدم في ذلك القول. فهي أحياء خالدة بالمعنى الحقيقي ويمكن القول أن أفرادها التي تعيش الآن هي هي التي نشأت منذ نحو مائة مليون سنة عند ظهور الحياة على الأرض وما زالت حية تنقسم منذ ذلك الماضي البعيد المتغلغل في القدم إلى اليوم وإن كان قد طرأ عليها أثناء ذلك بعض التغير في أشكالها بفعل العوامل الطبيعية جربا على نواميس التطور والتحول. وإذا لوحظ إن هذه الكائنات الأولية ذات الخلية الواحدة هي أول ما ظهر على الأرض وانه مضت مئات الألوف أو الملايين من السنين قبل أن يتحول فريق منها إلى الحيوانات والنباتات المتعددة الخلايا - إذا لوحظ هذا يمكن القول أن الموت ليس نتيجة لازمة للحياة وأنه مرت على الأرض فترة طويلة من الزمن تنعم فيها الأحياء بالخلود، وإنما طرأ الموت على الكائنات الحية في طور من تطوراتها في الوقت الذي أخذت فيه الأحياء ذات الخلية الواحدة تعيش جماعة متلاصقة لأسباب طبيعية محلية دعت إليها الظروف المستجدة، ذلك لأن خلايا هذه الأحياء المتعددة - المتعددة الخلايا - ثابتة في مكانها في الأنسجة المختلفة، ولا تستطيع (أي الخلايا) أن تنتقل لتلتقي بالخلايا الأخرى حتى تتلاقح وتتقى الشيخوخة على ما تفعل الأحياء الوحيدة الخلايا، خصوصا وان كل فريق من تلك الخلايا المجتمعة في الحيوانات والنباتات العليا تخصص في وظائف معينة من أعمال الحياة وتنوع في شكله ليلائم وظيفته كخلايا الأعصاب وخلايا العضلات وخلايا الغدد وخلايا الجلد وغيرها في الحيوانات، وكخلايا الأنسجة المختلفة في النباتات فصار غير صالح لأن يتلاقح مع غيره (وقد تخصصت فيها خلايا أعضاء التناسل للتلقيح لمصلحة مجموع الحيوان أو النبات وهي التي تضمن بقاء النوع وعدم تلاشيه - النوع فقط دون الأفراد).

فالموت يبدو لنا إنه نتيجة تطور الكائنات الحية من فالأحياء الأولية ذات الخلية الواحدة إلى الأحياء الأرقى مرتبة وهي المتعددة الخلايا فهو الفدية التي تدفعها ثمنها لذلك الارتقاء، ثمنا غاليا حقا.

وهذا ما يقوله أستاذي المأسوف عليه العالم الكبير داستر الذي كان أستاذ علم الفسيولوجيا في كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون) وعضوا في المجمع العلمي (أكاديمي العلوم) وعضوا في أكاديمي الطب في كتابه الحياة والموت صحيفة 227 وما بعدها.

. . . ومن هذا يتبين أن الخلود هو من خواص الكائنات ذات الخلية الواحدة التي تتناسل بطريق الانقسام النصفي، وإنما لوحظ إن هذه الكائنات هي أول ما طهر من الأحياء على الأرض وإنها سبقت بزمن طويل الحيوانات والنباتات الأخرى المتعددة الخلايا فتكون النتيجة المنطقية البديهة إن الحياة ظلت مدة طويلة على الأرض دون الموت، وان الموت طرأ بعد ذلك نتيجة تطور الأحياء وتحولها من ذات الخلية الواحدة إلى المتعددات الخلايا.

ومما يؤكد هذا - أي عدم ضرورة الموت - التجارب القديمة المعروفة التي قام بها بعض من البيولوجيين على كثير من أنواع الديدان والحيوانات الجوفاء كأخطبوط الماء العذب بل وعلى حيوانات أعلى مرتبة، بتقطيعها قطعا تنو كل قطعة منها وتصبح فردا جديدا كاملا يحيا حياة مستقلة، وهكذا يصنعون من الحيوان الواحد عدة حيوانات، ويكررون ذلك في الأفراد الجديدة وهلم جرا. ويمكن مواصلة هذا العمل إلى ما لا نهاية له دون أن يتطرق الموت إلى تلك الأفراد ما داموا يقطعونها وهي فتية، وهذه العملية معروفة ومألوفة في النباتات.

ويؤيد هذه أيضاً التجارب والأبحاث العظيمة الشان التي يقوم بها منذ سنين عديدة الدكتور كاريل فانه يحفظ أجزاء حية صغيرة مفصولة حديثا من أجسام الإنسان والحيوانات في سوائل مغذية مطهرة تجدد وتهوى باستمرار، فتستمر حية يستعين بها الجراحون في عمليات الترقيع وغيرها حتى انهم وصفوا الدكتور كاريل (بأنه تاجر أنسجة حية)، والأغرب من هذا إن تلك الأجزاء المحفوظة كثيرا ما تنوا وتتكاثر خلاياها بطريق الانقسام كما يظهر من فحصها تحت الميكروسكوب من حين إلى آخر بعد أن تكون قد فقدت تنوعها وعادت إلى شكل الخلايا الجنينية الأولى (الشكل البسيط الذي تكون عليه خلايا الجنين في أول أطوار تكوينه).

ويتصل بهذا الموضوع بحث على جانب كبير من الأهمية وهو إن تقسيم الكائنات الحية إلى حيوانات ونباتات، والى فروع وصفوف ومراتب وفصائل أو أفراد إنما هو تقسيم اصطناعي من وضع الإنسان، وانه ليس للفوارق التي تفصل في الظاهر بينها وجود مطلق حقيقي ثابت في المكان والزمان، فلا توجد في الحقيقة والواقع إلا المادة أو مجموعة المواد الزلالية المعقدة التركيب المسماة (بالحية) وهي صورة من صور المواد الكيميائية الأخرى ومشتقة منها - تشتق على الدوام تحت أعيننا وعلى مرأى منا من الجمادات، من الهواء والأرض بفعل طاقة إشعاع الشمس بواسطة الكلورفيل (المادة الخضراء النباتية). وقد ظهرت المواد المذكورة الموصوفة بالحية على الأرض منذ أن أصبحت هذه صالحة للحياة وستظل هكذا إلى أن تمسى غير صالحة لها، كل هذا بفعل العوامل الطبيعية. وكل ما في الأمر إن هذه المواد الحية الدائمة تبدو لنا في صور مختلفة اختلافا ظاهريا وقتيا كما تبدو الجمادات والمعادن في أشكال متنوعة يتحول بعضها إلى البعض وهي في مجموعها لا تفنى. على أن هذا موضوع عويص يضيق بنا المقام دون بسطه الآن.

(البقية في العدد القادم)

نصيف المنقبادي

المحامي