مجلة الرسالة/العدد 728/إنذار!
مجلة الرسالة/العدد 728/إنذار!
للأستاذ على الطنطاوي
ركبت مع زميلي في البعثة القضائية السورية الأستاذ محمد نهاد القاسم، زورقاً في النيل حملنا من (جسر إسماعيل) إلى (مصر العتيقة) باجرة فاحشة قبضها منا صاحب الزورق، وبعث معنا شاباً في نحو التاسعة عشرة، قوي الجسم، وديع النفس، فأعمل المجاديف ساعة كاملة، حتى هبط الليل، وغسله العرق، ونحن لم نصل، فأشفقنا عليه وجربنا أن نسعده فما أفلحنا، وكدنا نقلب الزورق به وبنا، فيسبح فيجور ونلقى نحن حقنا، فكعفنا، واكتفينا من الترفيه عنه بعمل بألسنتنا، والمواساة باللسان اقل الإحسان. . . حتى دنا الحديث من أجرته فسألناه:
- كم تأخذ؟
- قال: أربعون قرشاً.
- قلنا: في اليوم؟
- فصاح مستغرباً: في اليوم؟ كل ثمانية أيام!
- قلنا: أو ليس لك أسرة؟
- قال: أم أعولها.
- قلنا: أو تكفيك؟
- قال: تكفيني؟! أبدا.
- قلنا: فلماذا لا تطلب زيادة؟
قال: يضربني عمى أحمد ويطردني، ويخبر زملاءه فلا يشغلوني وأنا لا أعرف إلا هذه المهنة.
- قلنا: وكم يحصل هو؟
- قال: هو. . . كثير. . . كثير. . . عنده عشرة زوارق تمشى النهار كله، كل ساعة أجرتها من عشرة إلى عشرين قرشاً وتركناه وصعدنا إلى البر، ونحن لا نزال نفكر فيه: شاب طويل عريض، كيف يعيش مع أمه بخمسة قروش في اليوم؟ والفراش والآذن؟ كيف يعيشان بثلاثة جنيهات في الشهر؟ والمؤذن؟ والأمام؟ والشرطي؟ والعسكري؟ ماذا يصنع هؤلاء؟ هل فكر فيهم أحد ممن ولاهم الله أمر هذه الأمة، وأتمنهم على مالها، وجعل إليهم المنح والمنع، والرفع والوضع؟
هل ساءل واحدهم نفسه وهو يتخير أطايب الطعام من فوق مائدته ماذا يأكل هؤلاء المفلسون؟
هل فكر وهو ينتقى أبهى الحلل من خزانة ثيابه ماذا يلبسون هل خطر على باله وهو يفسد أخلاق أولاده بالترف، ويتلف صحتهم بالسرف، أن لهؤلاء بنين وبنات لا تكفى رواتبهم لسد جوعهم بالخبز القفار، وستر عوراتهم بالخام؟ رواتبهم لا تكفى للطعام والثياب فكيف إذا ولدت المرأة وجاءت نفقات الولادة؟ فكيف إذا مرض الصبي وأقبلت مصروفات العيادة؟ فكيف إذا خطبت البنت وكانت تكاليف الزواج؟ فكيف إذا دخل الأولاد المدرسة وطالبتهم بثمن العلم؟. فكيف إذا اشتهوا أن يتشبهوا بأبناء الناس يوماً. . . فأرادوا أن يأكلوا الحلوى الحلال أو يطلبوا اللملهى المباح؟؟ أم قد حرمت هذه المتع على الفقراء، وكتب عليهم أن تكون حظوظهم من دنياهم كحظوظ البهائم: ملء المعدة بأرخص الطعام، وستر الجسم بأيسر الثياب، والإستكنان بشر المساكن؟ وان تكون معيشتهم اقل من معيشة كلاب الأغنياء؟.
قرأت في جريدة (العلم الأخضر) نقلاً عن العدد 673 من (مجلة الاثنين) أن (روى) كلب الوجبة الأمثل. . . فلان بك. . يفطر كل يوم بكيلو من اللبن ورغيفين من خبز (الفينو) و (باكو) من الشوكولاته ثمنه بين ثمانية قروش وخمسة عشر قرشاً ويتغدى برطل ونصف رطل من اللحم المسلوق مع طبق مترع بالثريد، وأن طبيباً خاصا. . . وخادماً أجرته عشرة جنيهات في الشهر عمله أن يصحبه في سيارته الخاصة به. . . في نزهته اليوميتين وأشياء أخرى من هذه البابة، يمتع بها هذا الوجبة الأمثل، كلبه المدلل، لا يصل إلى مثلها عشرة في لمليون من بني آدم الذين يقطنون هذا الوادي. . . فلم أجد في العربية على سعتها، وعلى طول يقطنون هذا الوادي. . . فلم أجد في العربية على سعتها، وعلى طول اشتغالي بها، كلمة تليق بهذا السفينة المبذر الكافر بالنعمة والإنسانية وبالوطن، لا قولها له. . . ولم أدر كيف أخاطب هذا المجتمع الذي بلغ الفساد فيه، والانتكاس في أوضاعه أن صارت الكلاب تأكل (العيش الفينو) وكثير من الناس يتمنون الخبز الأسود. . . وتركب السيارات وهم يمشون حفاة. . . وتنام على الحرير وهم يهجمون على التراب. . . ويقوم عليها طبيب خاص وهم غرقى في الأمراض. . . لا يجدون الطبيب. .
هذه حال لا يرضى بها الله، ولا العقل، ولا الشرف، وأنا أخاف والله أن تفتح باباً من الشر لا يسد وتأتينا أن لم نتنبه لعلاجها بالداهية الدهياء، بالشيوعية المدمرة، التي تأكل اخضرتا ويا بسنا، وتمحق غنينا وفقيرتا، فتكون لنا الراحة الكبرى التي لا ألم بعدها: راحة الموت.
هذه حال لا يمكن أن يحتملها بشر، فان كان من بيدهم الأمر لا يمشون في الطرقات، ولا يخالطون الناس، ولا يعرفون من الدنيا إلا القصر والسيارة والملاهي والرحلات، فليسألوا: ما باب الفقراء. ماذا يصنعون. وما شأن صغار العمال والموظفين وكيف يعيشون؟ وليعلموا أن عمر كان يخاف أن تضيع شاة على شاطئ الفرات فيحاسبه الله عليها، أفلا يخافون أن يسألهم الله عن أمة بقضها وقضيضها ستضيع على شاطئ النيل: يقتلها الجوع في أخصب أرض، والمرض تحت سماء، والجهل في أول دار للعلم والحضارة؟
لقد كانت مصر طبقات يستعبد بعضها بعضاً، فسوى بينها الأمام العبقري الهادي عمرو بن العاص (تلميذ محمد) وقطع هذا النظام الذي وصلته يد الدهر في عهد الفراعنة الأولين، إلى عهد الاسكندر (تلميذ أر سطو)، إلى أيام البطالسة والرومانيين، وأفاض على الناس الهدى والعدل والنور، فأحبوا لفعله الإسلام، ودخلوا فيه وتركوا له دنيا كان لهم، واقبلوا عليه علماً وعملاً، حتى كانت مصر مثابة الإسلام، ومشرق أنواره، ومورد علومه أفقدر عليها أن تعود القهقري إلى عهد الجاهلية الأولى؟ أترجع نظام الطبقات الذي مات؟ أيكون فيها سادة وعبيد؟ ويعلو بعض أهلها على بعض كأنما بفتح مصر عمرو، ولم يركز فيها راية محمد، ولم تكن مصر أم دنيا الإسلام؟
أنا لا أدعو إلى المساواة المطلقة بين الناس فذلك ما لا يكون ولا يزال في الناس غنى وفقير ما دام عامل وخامل، وذكى وبليد، لن يكونوا أبدا سواء في أرزاقهم ومعايشهم إلا إذا استوى الجنسان وتحقق حلم المدافعين عن (حقوق. . .) المرأة فانقلبت رجلاً، ونبت لها شاربان و. . . لحية!
ولكن أدعو إلى تقرب المسافة بين طبقات الناس، عاليها ودانيها، وأن تضمن الحكومة لكل إنسان حقه الطبيعي في الطعام واللباس والمسكن، وإلا تقر في موازنتها راتباً لموظف مهما نزلت درجته، ولا يكفل هذا الحق له ولأسرته، ولو كان كناس الطريق، أو ناطور المراحيض، وان تسوي بين الناس (المساواة الممكنة) التي حققها الإسلام في أول الدهر في عهد الشيخين، والشيوعية في ذنب الزمان في أيام ستالين، وإن اختلف نوعهما، فكانت تلك مساواة في السعادة، وهذه هي المساواة في الشقاء!
لقد نشأت في الشام، وسحت في البلاد، فرأيت في كل بلد أغنياء وفقراء، وسعداء وأشقياء، ولكن لم أر أبدا مثل الذي رأيت في مصر!
فما هذا التفاوت بين البشر في مصر؟ ما هذا الوضع الذي يجعل من الناس واحدا يملك مليونا ومليونا لا يملكون واحد؟ وألفا يشتغلون لرجل، والرجل لا يعمل عملا؟ وإنسان يظن نفسه من الغنى والكبر إلها، وأناس تحسب أنها من الفقر والضعة بهائم؟
متى كان هذا في طبع العربي؟ متى كان في شرع المسلم؟
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
يا ناس. راقبوا الله، فان هذا ظلم، والله لا يرضى لعباده الظلم ولا يقرهم عليه، ولكنه يمد للظالم ثم يأخذه. . . فاتقوا أخذه الله.
يا ناس. اعقلوا، فان هذا باب الشيوعية فان لم تغلقوه دخلت عليكم فأهلكتكم.
يا ناس. ارحموا، فان هؤلاء ناس مثلكم، ولا تحسبوهم بهائم لئلا يصنعوا فيكم صنيع للبهائم، فيثوروا عليكن رفساً ونطحاً وعضاً ولدغاً، فلا تملكوا دفعهم، ولا النجاة منهم. . .
لا، لا تحقروهم، فإن الدجاجة إذا هبت تحمى فراخها استماتت فانقلبت صقراً، والقطة إذا ضويقت وغضبت صارت نمراً والماء إذا اندفع كان سيلاً مدمراً، والهواء إذا انفجر كان إعصارا مخرباً، ولولا الضغط ما ثقب المسمار الخشب، ولا أطلق المدفع القنبلة، ولا زلزلت الأرض، ولا انفتحت البراكين، ولا ثارت الشعوب.
فارحموهم ترحموا أنفسكم! واعدلوا فيهم تدفعوا عنكم يوماً اسود لا تعلمون إذا حل عم ينجلي سواده! وقوا مصر أن كنتم تحبون نصر، جائحة مهلكة، وداهية مكفهرة، أولها الشيوعية وآخرها ما لا يعلمه إلا الله! وهذا إنذار!!
على الطنطاوي