مجلة الرسالة/العدد 728/تحقيقات تاريخية

مجلة الرسالة/العدد 728/تحقيقات تاريخية

مجلة الرسالة - العدد 728
تحقيقات تاريخية
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 06 - 1947



للأستاذ أحمد رمز بك

أفرد الدكتور علي إبراهيم حسن في كتابه (دراسات في تاريخ المماليك البحرية) بابا عن السياسة الخارجية ضمنه حروب مصر وعلاقاتها مع الدول الأجنبية، وهو بحث شيق دل على سعة اطلاعه وتدقيقه حينما عرض لما يتعلق بدول المغول في فارس والقفجاق والهند، ولكني دهشت حينما أفرد قسماً لدولة سماها أرمينية وأدخل في حروب مصر معها فتح ملطية أتمد وغيرهما من البلاد الإسلامية إذ قال في صفحة 168 (إلا أن الأرمن قد عاودا العصيان فارس إليهم الناصر حملة وأمر تنكر بالانضمام إليها، فخرج في أول محرم سنة 715 وحاصر ملطية ودخلها في يوم الثلاثاء 23محرم من تلك السنة.) وفي صفحة 16 (توالت انتصارات جند الناصر ففتحوا مدينة عزقية من أعمال أمد في سنة 715 ثم فتحوا أمد بعد ذلك وقد ساعدت الأحوال السيئة في بلاد أرمينية الناصر محمداً على غزوها فقد تولى عرشها الملك ليو الخامس).

والمعروف أن أرمينية الجغرافية لم يكن لها وجود سياسي في ذلك الوقت، ولم تكن ملطية ولا أمد تحت سلطان الملك ليو الخامس، وإنما كانت هناك مملكة للأرمن على أطراف بحر الشام وكان صاحبها يطلق عليه (متملك سيس) وقد انحصر ملك الروم في منطق من السهول حول مدية سيس تحيط بها الحصون التي أنشأها المسلمون والصليبيون واحتلها الأرمن وتحصنوا فيها، وماتت هذه الأمة تخضع أحيانا خضوعاً اسمياً لمصر وتخالف المغول إذا جاءوا للفتح وتدارى ملوك الروم من سلاجقة وتركمان، أذن فلا علاقة بين هذه المقاطعة والحروب التي قامت في عهد الناصر في ديار بكر والجزيرة وأرض الروم وترتب عليها فتح ملطية وأمد وغيرهما فقد حضر أبو الفداء تجمع عسكر مصر والشام في حلب ولازم الملة في خروجها لفتح ملا طية وحدثنا عن المراحل التي قطعها الجيش المصري من عينتان إلى نه المرزيان وصحته مرزنان إلى عيان فالنهر الأزرق قال (وجلنا حصن منصور على يميننا) ثم إلى زبطرة حتى حصار ملطية ولم ذكر في ملطية حاكماً اسم جمال الدين الخضر وهو من بيت بعض أمراء الروم. وأماكن هذه المواقع التي مرتبها الحملة في سيرها وعودتها معروفة على لخرائط وهي بعيدة عن أراضي ملك الأرمن ف سيس. وما قلناه عن ملطية ينصب على أمد الواقعة على نهر جلة وبينها وبين (ليو الخامس) متملك سيس مراحل وأراضي شاسعة منها ما هو تحت حكم مصر، ومنها ما وحدودها في الولايات التي كانت خاضعة أو متحالفة مع خانات أو إيلخات مغول فارس، هي بقاع إسلامية لم يكن للأرمن وملكهم شأن بها. ودلينا على صحة ما سقناه قول صاحب البداية والنهاية عند ذكره فتح ملطية (وقد كانت ملطية إقطاعا للجوبان أطلقها له ملك التتار فاستناب بها رجلاً كردياً فتعدى أساء وظلم فكتاب أهلها السلطان الناصر واحبوا أن يكونوا في رعيته). صفحة 73 جزء 14.

وفي أبي الفداء ما يشرح شكوى أهل ملطية إذ قال (أن المسلمين الذين كانوا بها اختلطوا بالنصارى حتى أنهم زوجوا الرحل النصراني بالمسلمة وكانوا يعدون الإقامة للتتر ويعرفونهم بأخبار المسلمين) صفحة 91 جزء 4.

ويظهر أن قاضي ملطية وكان أول من تلقة جند الناصر وطلب منهم آمان لبلده له يد في هذه الشكوى التي جعل من ضمن ما جاء فيها ما يبرر استفزاز حمية الناصر الدينية وان كان أبو الفداء يضيف إلى ذلك سبباً أخر هو تعرض أهل ملطية لجند مصر المقيمين في القلاع الشمالية مثل قلعة الروم هنس وكختا وكركر في غدوهم ورواحهم. ويذكر المقريزي في السلوك (صفحة 134 جزء 2 للدكتور زيادة) أن التعرض كان ضد الفداوية من أهل مصياب الذين أرسلهم لاغتيال قراسنقر المقيم بمدينة مراوغة وان الكردي الذي تغلب على ملطية وجنى أموالها قبض عليهم وترتب على ظهوره أن نائب ملطية من جهة جوبان ويقال له بدر الدين ميز أمير بن نور الذي خاف أن يأخذ الكردي نيابة ملطية منه فكاتب الناصر واتفق معه على تسليم البلد إليه، وقد خص فتح ملطية بصفحة فيها تفاصيل عن تسليم المدينة واحتفال نائبها والتشاريق والخلع التي وجهت إلى أعيانها، ولم نجد فيها ولا فيما لدينا من المراجع إشارة أو كلمة يفهم منها أن ملطية كانت تحت حكم (ليو الخامس).

ونحن نلتمس للدكتور علي إبراهيم حسن عذراً لان السير وليم موير في كتابه (تاريخ المماليك في مصر) ذكر في الصفحة 81 (طبعة مصر مترجمة) (أرسل السلطان الحملات على بلاد الأرمن التعسة وحصرت عساكره ملطية)، وجاء من بعده الأستاذ أنور زقلمة فوضع كتاباً عن (تاريخ المماليك) طبعة مصر كتب في صفحة 64 منه (وعاد أرمن مرة ثالثة للعصيان عام 1314 في عهد الناصر فأرسل لهم حملة قوية حصرت مدينة ملطية). وفي ذلك ما يشعر بأنهم ينقلون جميعاً عن مصدر واحد وصاحب هذا المصدر أما اختلط عليه الأمر ولم يفرق بين ولاية سيس وأرمينية الجغرافية أو فهم من وجود طائفة من الأرمن في ملطية انه أصحاب الأمر والنهى فيها، أو هو على علم تام بهذه الحقائق ولكنه كغيره من كتاب الغرب الذين لا يملكون التحرر من تقاليد الحروب الصليبية ولذلك ينظرون دائماً بمنظار مكبر إلى كل ما يذكر بأثرها، ولما كانت ولاية سيس من تلك البقايا فهم يحملونها برغم انف الزمن دوراً معها في التاريخ والحروب والعلاقات السياسية ويضيقون الأعراف بأنها ولاية صغيرة في كليليكية.

وواجب علمائنا في التاريخ وضع الأمور في نصابها وإعادة الحق لذويه، ودولة المماليك من الدول الإسلامية التي لم ينصفها التاريخ وتعرضت لشتى الهجمات من كمؤرخي الغرب، ولكن الدكتور علي إبراهيم حسن أنصفها في كتابه وأنصف مصر، وكان كتابه من دلائل النهضة القائمة والوعي التاريخي لإعادة القيم الحقيقة لذلك العصر فله عظيم الشكر والثناء.

وقد اطلعت بعد كتابه ما تقدم عل تحديد نيابة حلب في عهد الناصر كما جاء في مسالك الأبصار ونقل ذلك صاحب صبح الأعشى فإذا فيه (ولاية حلب متصلة ببلاد سيس والروم وديار بك وبرية العراق وتحدها من الشمال بلاد الروم مما وراء البهنسي وبلاد الأرمن على البحر الشامي). . .

ويفهم من ذلك أن بلاد الأرمن يقصد عند ذكرها الأراضي الواقعة على خليج الإسكندرية والبحر الأبيض المتوسط وهي التي يطلق عليها اسم كيليكية أو ولاية أدنه التركية حالياً والتي يخترقها نهراً سيحان وجيحان من الشمال إلى الجنوب: وعرفن بهذا الاسم في هذا العصر الذي نتحدث عنه وألا فهي قديماً بلاد الثغور والعواصم وفيها قبر المأمون بطر سوس وضمت إلى مصر من عهد احمد بن طولون ولها تاريخ طويل ومعارك وأيام.

ولما إستملكها الأرمن بعد الحروب الصليبية تعرضت لهجات المصريين فانتزع الملك الظاهر ييرسقلاع بغراس والبهنسي ودربساك سنة 668 ثم فتح الأشراف خليل بن قلاوون قلعة الروم 691 وهي نهاية م وصل إليه ملك الأرمن شرقاً، وافتتح الناصر الحصون الواقعة في الشرق من جيحان، ثم جاء الأشرف شعبان ففتح عاصمتهم سيس ويفية ما حولها من البلاد على يد قشتمر المنصوري نائب حلب وبذلك أصبحت ولاية بأكملها تحت حكم مصر حتى الفتح العثماني.

وجاء ذكر الحصون والقلاع التي تسلمها الناصر من ملك الأرمن في كتب التاريخ وليس بينها خبر عن ملطية أو آمد، ونظرة بسيطة إلى خريطة مفصلة لتلك المنطقة تجعلنا نتحقق من مواقع القلاع التي ضمها الناصر من بلاد الأرمن وهي تكون مع الأراضي تقريباً ما يشبه المثلث قاعدته خليج الإسكندرونة بين بيأس وإياس تقريباً ما يشبه المثلث قعدته خليج الإسكندرونة بين بيأس وإياس ودأمة الهارونية (نسبة لهارون الرشيد) وهي جميعاً شرقي نهر جيحان. ويقول أبو الفداء (وهو ملك كبير وبلاد كثيرة). ويقول صاحب السلوك (وأقطع السلطان أراضى سيس لنائب حلب ونائب الشام وغيرهما من الأمراء واقر فها جماعة من التركمان والأجناد، فاستعملوا الأرمن في الفلاحة وعمل في كل قلعة من قلاع الأرمن نائب ورتب فيها عسكر).

ولكن الكتب التي أخذت من المصدر نفسه نقول بجلاء عسكر مصر ومنها كتاب الدكتور علي إبراهيم حسن الذي يقرر في صفحة 169 (ثم جلت جيوش الناصر بعد أن جمعت كثيراً من الأسلاب والغنائم) والحقيقة أن الجلاء كان عن الأراضي الواقعة بين النهرين أي شمال المصيصة وأدنة.

أما ما كان شرقي جيحان فهو الذي تناوله الإقطاع، ودليلنا على ذلك أن ملك الأرمن بعث بمفاتيح القلاع إلى القاهرة: وهي أباس (3قلاع) والهارونية والنقير وكودا والحميصة ونجيمة) كما جاءت في كتاب تاريخ سلاطين مصر والشام. ويضيف أبو الفداء ميرفندكار والمصيصة وكوبرا، ويقول (ضرب المسلمون برج إياس الذي في البحر واستنابوا بالبلاد المذكورة نواباً. . .

ومع بقاء ملك الأرمن في عاصمته سيس حتى عهد الأشرف شعبان تحت حماية ملوك مصر بقيت بلاده معرضة لهمجات التركمان وعسكر ابن قرمان من أسيا الصغرى، ولذلك نجد أن كتب التاريخ تحدثنا باحتلال جند الناصر لبعض القلاع الواقعة على سفوح جبال طوروس أو التي تعترض الطرق الموصلة للجبال، نذكر على سبيل المثال قلعة كولاك في شمالي طر سوس على خط عرض واحد مع الهارونية وهي في نهاية الغرب من ولاية أدنة، وهناك (بارى كودك) افتتحها بأي دمير الخوارزمي في عهد الناصر وهي إلى الشمال من طر سوس، ومنها (قلعة لؤلؤة) وهي شمالي كولاك.

ولا أجد تفسيراً لاحتلال هذه المناطق غير أن ملك الأرمن سلم بما بين يديه من الحصون التي على الشرق بشرط حمايته من الغرب باحتلال الحصون والمضايق التي يتسرب منها التركمان وعسكر أن قرمان من الجهة الشمالية والغربية لمهاجمة بلاده.

أن التاريخ علم يتقدم مع الزمن شأنه شأن غيره من العلوم وقد يأتي لنا المستقبل بنصوص تفسر لنا كل ذلك فلا اجزم بشيء نهائي. . .

أحمد رمزي