مجلة الرسالة/العدد 728/في المسألة الفلسطينية:

مجلة الرسالة/العدد 728/في المسألة الفلسطينية:

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 06 - 1947



مشروع التقسيم

للأستاذ فؤاد طرزي

يقول الكولونيل (جولر) في كنابه الذي أصدره عن سوريا عام 1945 بصدد فلسطين ما يأتي:

(ولو تحربنا الدقة لوجدنا أن اهتمام بريطانية بفلسطين لم يكن في يوم من الأيام ناشئاً عن رغبة في مساعدة اليهود أو تحقيقاً لرسالة المسيح، بل كان نتيجة مباشرة للمناورات الاستعمارية التي ترمى على الدوام إلى خدمة المصالح البريطانية. ففلسطين تقع بين مصر والشام، وهي على طريق الهند، فمن المحال أن تغفل قدرها الحكومة البريطانية. وعلى هذا فخلق مشكلة تشيع الاضطراب فيها طريقة نموذجية لتبرير بقاء قوات مسلحة هناك تحافظ على مصالح الإمبراطورية).

وعلى ضوء هذا التفسير العملي الذي يعرضه خبير بريطاني مطلع، يمكننا كل ما تضعه بريطانية من حلول لمشكلة فلسطين. فهي ترعى مصالحها في هذه القضية وتنكر مصالح الطرفين المتنازعين بله المصلحة العالمية أيضا، وتحاول بكل وسيلة أن تمد من أجل المشكلة وتطيل في عمرها لتحتج بها في بقاء قواتها العسكرية المرابطة هناك تحافظ على مناطق نفوذها في الشرق الأوسط بأسره.

ومشروع التقسيم الأخير الذي اقترحته الدوائر الرسمية البريطانية، ولوحت به مجلة الأيكونمست اللندنية التي تعبر بصورة غير مباشرة عن أراء 10 دواننج ستريت، والذي أبده السير هر برت موريسن أحد الوزراء البريطانيين المسؤولين علنا في مجلس العموم، نقول إن هذا المشروع ليس إلا شكلاً جديداً من أشكال أنصاف الحلول التي اعتادت بريطانية أن تقترحها بين آونة وأخرى لتشغل القوم وتكسب الزمن.

وها المشروع هو نفس المشروع الذي اقترحه دولة نوري السيد في الكتاب الأزرق الذي رفعه عام 1943 إلى المستتر كيسي وزير الدولة البريطانية في الشرق الأوسط. ويتضمن إنشاء حوزة أو حوزات يهودية مع التمتع بحقوق خاصة - على نحو الحقوق التي كانت ممنوحة للموازنة في لبنان - داخل الدولة الفلسطينية، أو دولة عربية كبرى تشمل سور وشرق الأردن؛ ولكن السيد نوري السعيد، كما جاء في مقترحاته، لا يضمن نجاح فكرة التقسيم إلا إذا طبقت بعد ضم فلسطين إلى دولة عربية كبرى (بقصد سوريا الكبرى)، لذلك تراه يقول في كتابه المذكور ما يلي بالنص: (. . . فإنشاء دولتين أو أكثر مستقلة استقلالاً تاماً ومتكونة من أقاليم فلسطينية صغيرة يقتضي إنشاء حدود مصطنعة متعددة مع إحداث جيوب يهودية متمددة في الدولة العربية، ومعنى ذلك إنشاء مجاز دولي واحد على الأقل ويحتمل إنشاء أكثر من مجاز واحد. أما إذا أدمجت فلسطين كلها في دولة سورية واحدة تكون حدود الحوزات اليهودية حدوداً إدارية فقط، وقد تتألف حينئذ المناطق اليهودية من عدة اقضيه يتمتع فيها اليهود بحقوق خاصة، أو أنه يمكن باتفاق يتم بين جميع الفرق تعيين منطقة مجتمعة معينة لليهود تدار إدارة شبه مستقلة. وعلى العرب القاطنين فيها والحالة هذه أن يرضوا بالبقاء تحت هذا الحكم أو أن توجد لهم ارض في مكان آخر).

والحكومة البريطانية، في الواقع، تؤيد هذا المشروع وتضحي في سبيله إذا ما جد الأمر حتى بمصالح اليهود، لأنها في هذه الدولة الكبرى تستطيع أن تجد لها ثغرة تنفذ منها لتوطيد مركزها في سوريا ولبنان وهما الدولتان اللتان تخلصتا إلى غير رجعة من النفوذ الأجنبي. فبريطانية التي حاولت جاهدة طرد الفرنسيين من الشرق الأدنى تتلهف أن تحل محاهم وتسيطر على جميع سواحل البحر الأبيض المتوسط، هذا البحر الذي تريده (حراً إنجليزيا) كما أترده موسوليني (حيرة إيطالية).

وهذا المشروع أيضا، كثير من المشاريع البريطانية، يدركه الفساد من أوله إلى أخره وتعترضه سلسلة من العقبات التي لا يمكن التغلب عليها.

تخيل أيها القارئ أن أمامك الآن خريطة جغرافية للبلاد العربية، ثم ضع على بقعة صغيرة في القسم الجنوبي من الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط تحيط بها أراض شاسعة من الأراضي العربية المسلمة تبتدئ من مراكش مخترقة تونس وطرا بس ومنحدرة نحو البلاد العربية الأصلية ثم صاعدة إلى شرقي الأردن وسوريا ولبنان والعراق. وهذه البلاد التي طفت بها والتي تحيط البقعة الصغيرة التي تحت إصبعك تشكل مجموعة قوية من البلاد العربية التي يبلغ عدد سكانها حوالي الخمسين مليون نسمة. وعلى هذه البقعة الصغيرة التي تسمى (فلسطين)، والمحاطة بالعرب نمن كل جوانبها، يريدون إنشاء دويلة يهودية مستقلة استقلالاً تاماً أو استقلالاً ذاتياً خارجة عن نطاق الامتداد الجغرافي الذي يحتويها ومنفصلة عن مجموعة البلدان العربية. فهل من المتوقع أن ينجح مشروع كهذا؟

يقول البريطانيون نعن. ويقول الصهيونيون لا. فهم لا يرضون بهذا الحل المتواضع ولا يقبلون بشبه دولة ضيقة المساحة. وإن أهدافهم قد قرروها في عدة مؤتمرات من مؤتمراتهم: ففي مؤتمر بلتيمور الذي انعقد في الولايات المتحدة عام 1942 طالبوا بهجرة غير محدودة ويترك الحرية لهم في التوسع داخل فلسطين إلى ما لانهاية. وفي المؤتمر الصهيوني العالمي الذي انعقد في لندن في أيار عام 1945 وضعوا قرارين رئيسيين: إنشاء دولة يهودية خالصة في فلسطين، وتخويل الوكالة اليهودية كل الصلاحيات الضرورية لجلب اكبر عدد ممكن من لمهاجرين. وفي مؤتمر بازل الأخير طالبوا من جديد بكل هذا.

وإذا كان هناك من بين الصهيونيين من يوافق على مشروع التقسيم فان الجميع يرمون الامتداد والتوسع لا على حساب فلسطين بل على حساب البلدان المجاورة أيضا، ولا يمتع ذلك قرار تصدره الحكومة البريطانية تعين فيه حدود الدولة العربية وحدود الدولة اليهودية، فقد سبق أن أصدرت عدة قرارات توجتها بألفاظ الشرف البريطاني والضمير وختمتها بإقرار برلماناتها، ولكنها لم توف العهد في أي قرار من تلك القرارات، فكانت تصدر اليوم لتنتفض غداً. وآخر قراراها مشروع الكتاب الأبيض الذي اقره العموم عام 1939. كما أن الهدف الصهيوني أبعد من أن يرضى بشبه دولة صغيرة المساحة، لان الفلسفة الصهيونية ليست قائمة على أسس دينية أو إنسانية بل على دوافع استعمارية توسعية، وهذا ما قرره جون هبوب سيمس الذي ترأس وفداً إلى فلسطين لرفع تقرير عنها حيث قال: (إن الحجة الإنسانية والحجة الدينية تفسدهما الحقيقة المؤسفة وهي أن الهجرة اليهودية اليوم لا تتألف من اليهود الذين يرغبون لأسباب دينية في العودة إلى ارض صهيون ابتغاء إقامة حياة يهودية لا يشوبها الظلم والاضطهاد، بل هي مؤلفة من أغلبية من اليهود بعيدة عن التعصب الديني ومتحمسة بروح الوطنية السياسية ومصممة على تحقيق السيادة في فلسطين ارض العرب منذ 1300 سنة على الأقل).

والعرب يقولون إن إنشاء دولة يهودية في فلسطين، يترك فيها الحكم لليهود وحدهم، منفصلة عن الاتحاد العربي لا يقبله عرب فلسطين ولا عرب الأقطار العربية، كما انه يناقض الوضع الجغرافي القائم وهذا ما قرره نخبة من أفاضل العلماء والجغرافيين، فان فطن إلى ذلك وشرحه في مؤلفه المعروف (جغرافية الأراضي المقدسة التاريخية) فهو يقول في صفحة 58 من كتابه: (لا يمكن أن نقوم في فلسطين دولة مستقلة ومنفصلة عما يحيط بها، فالحيوانات والنباتات فيها تمثل عصوراً جيولوجية عديدة، وهي تتصل بسلالات النبات والحيوان في أراضي كثيرة، وأن الاتصال الجنسي والديني والثقافي بينها وبين أجزاء البلاد العربية الأخرى سيسحق كل دولة تقام بالقوة وبالطرق الصناعية).

وهذا ما يقوله السير جون كارستنك على الآثار القديمة في جامعة ليفر بول ومدير الآثار القديمة في فلسطين فيما بعد: (ما دام أن ليس لفلسطين حدود خاصة من جوانبها الثلاثة فليس من الممكن أن تصبح مهداً لدولة مستقلة لا تتصل بالأمم التي تحيط بها ومقراً لعنصر أجنبي غريب).

وإقامة دولة مستقلة في فلسطين غير داخلة في الجامعة العربية يجر إلى نتائج خطيرة يستطيع الباحث بقليل من التبصر أن يراها واضحة في الأفق. فالجامعة العربية حركة طبيعية تسير بالبلاد العربية نحو التجمع لا التوزع ونحو الانضمام لا التفرق، ومتى ما بلغت هذه الحركة غايتها ووجد في قلب الوطن العربي حاجز يقف دون إتمام مرحلة التطوح كان عليها أما أن تقف، وهذا لا يمكن أن يتصور ونحن أمام ظواهر طبيعية لا تعرف الأناة، وأما أن تعبر هذا البرزخ الاصطناعي في صميم تكوينها الجغرافي فتحدث مأساة عنصرية جديدة من المآسي التي زخر بها التاريخ، لان الصهيونيين سوف لا يسلمون بالأمر الواقع ويندمجون في الشعب العربي بل سيقاومون ما يرى العرب انه مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم

إن تقسيم فلسطين مشروع خائب، وقد سبق السير رونالد ستورس الزمن وصرح بذلك أمام لجنة التحقيق الانكلواميركية التي ألفت أخيرا، والسير المذكور من أشد أنصار الحركة الصهيونية وقد ظل حاكماً للقدس مدة أثنى عشر عاماً، فإذا تكلم لمصلحة العرب فان لكلامه قيمة.

قال: (إن كل حل يقسم فلسطين بين العرب واليهود لا يمكن أن ينشر لواء الآمن والسلام فوق ربوع الشرق الأوسط، بل على العكس سيحكم عليه باضطرابات لا تنقطع، وسيؤدي إلى اعظم مأساة عرفتها تلك البلاد. إن فلسطين قد ساهمت فعالة في حل مشكلة الحرب ضد السامية فقبلت ما يقارب الثلاثة أرباع المليون من المشردين في حين أن بريطانية وأمريكة اللتين تحملان على عاتقها تدبير الملجأ لليهود لم تساهم مثل هذه المساهمة. إن المشكلة الفلسطينية يجب أن تعتبر منتهية ويجب أن يشترك العالم بأسره فيساهم في قبول البقية الباقية من المهاجرين. لقد أيدت الحركة الصهيونية طيلة حياتي، وقد آن الأوان أن أقول أني لا أزال أؤيدها ولكن لا على حساب العرب. وإن الذي أقرره هنا هو ثمرة تجاربي الخاصة التي حصلت عليها في أثنى عشر عاماً قضيتها حاكماً للقدس).

إن فكرة التقسيم مشروع فاشل، وان الحل الوحيد للمشكلة هو أن توقف الهجرة في الحال وان تمنح فلسطين استقلالها وتنضم إلى الجامعة العربية ويعيش اليهود فيها كما يعيش إخوانهم في البلاد العربية الأخرى كأقلية لها ما للأكثرية من حقوق وواجبات، وبعد ذلك يشترك العرب جميعاً مع العالم في تحمل نصيبهم عند إيجاد حل لمشكلة الاضطهاد العنصري.

(بغداد)

فؤاد طرزي