مجلة الرسالة/العدد 728/قادة الإصلاح في القرن الثالث عشر:
مجلة الرسالة/العدد 728/قادة الإصلاح في القرن الثالث عشر:
الشيخ شامل
زعيم القوقاز وشيخ المجاهدين
1212 - 1278هـ: 1797 - 1871م
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
شامل تحت قيادة حمزة بك:
وبعد أن استشهد الغازي الكراوي في معركة يوم 2 جمادي الآخرة 1248هـ اجتمع العلماء والأعيان، وأصحاب الشأن في ولاية (آوار) وانتخبوا حمزة بك خلفاً للغازي محمد الكمراوي وقائداً لحركة الإصلاح الدينية، وحاملاً لعلم الثورة الوطنية، وسلك حمزة بك سلفه من أخذ الناس باللبن والهوادة، ودعوتهم بالحسنى إلى اتبع أحكام الدين، ورعاية آدابه، فأخذ بطوف القرى والدساكر مرشداً ناصحاً، يدعو إلى دين الله والعمل به، ولكنه أيقن - كما أبقن سلفه من قبل - أن الدعوة التي لا تظاهرها القوة وتسندها، حقيقة بالفشل، فبدأ يجمع المتطوعين، وينظم صفوفهم، ويوجههم إلى المعاندين الذين كانوا يحولون بين الدعوة الإصلاحية وذيوعها، وهنا أيضا نجد شاملاً يشد أزر حمزة بك ويعضده، ويلازمه في جميع حملاته التأديبية، ومعاركه الحربية التي خاضها، فإنه كما كان القائد المحنك، والمريد المطيع لدى ألغازي محمد الكمراوي ظل كذلك مع حمزة بك أيضا حتى قنا هذا غيلة بينما كان ذاهباً لأداء فريضة الجمعة في قرية (خنزاع) في أواخر سنة 1250 هـ (1834م).
شامل في قيادة الحركة الدينية الوطنية:
بعد اغتيال حمزة في أواخر سنة 125هـ اتجهت الأنظار إلى شامل ليقوم بقيادة الحركة التي بدأت من نحو خمس سنوات بقيادة الغازي محمد الكمراوي، ولكن شاملاً لم يكن بالرجل الطامع في قيادة أو رياسة. فحسب أن يقوم بواجبه كيفمااتفق، بل كان بوده أن يظل بعيداً عن مشاغل القيادة ومشاكل الرياسة، وما يتصل بها م مطامع ومتاعب، ولذلك وغضب لما فوتح في أمر إسناد الرياسة إليه، ولكن إصرار العلماء والأعيان وأصحاب الشأن في منطقة (آوار) مهد الحركة الثورية وإجماعها على ضرورة قيامه بقيادة هذه الحركة - جعل شاملاً يستجيب لصوت الواجب، ورضى أن يتولى الإمامة - كما كانوا يسمونها - بعد سلفيه الغازي محمد وحمزة بك.
إن تولى شامل قيادة الثورة الوطنية الدينية في الداغستان كان نقطة التحول في هذه الحركة، فقد تبدل فيها كل شيء وتغير، وانتشرت روح الحركة والنشاط في كل اتجاه، وظهرت نواحي العظمة والعبقرية في هذا القائد الجديد سريعا، فذبت الحركة وهر النشاط في الثورة والثوار، واشتعلت نار الحماسة في صدور أولئك الجبلين من أهل القرى والأكواخ، وتحولت الثورة التي سارت خمسة أعوام في بط، وهوادة إلى حرب منظمة، وقيادة محكمة وجنود مدرين، وأنظمة مالية وقضائية كأحسن ما تكون الأنظمة المالية والفضائية في البلاد، وإنشاء الإدارة المدنية في كل مدينة أو قرية وقعت تحت سلطانه.
كان كل شيء قبل تولى شامل الرياسة يسير على الفطرة والطبيعة الهادئة البدائية، لا أثر للنظام والأحكام فيه، كان واجباً على المتطوع أن يكفى نفسه ويمونها بما هي في حاجة إليه من غذاء وكساء وسلاح، فوق ما يصاب به في نفسه وماله، وما يلحقه من جراء اشتراكه في الثورة من متاعب وخسائر.
ولم يكن لهؤلاء المتطوعين نظام يسيرون عليه، وتدريب يعدهم للأعمال الحربية، فكان كل واحد منهم يقوم بما يستطيعه تحت مسؤليته وعلى حسابه، وعلى الوجه الذي يتراءى له.
وكما لم يكن هناك - قبل رياسة شامل - نظام للمتطوعين وتدريبهم فإنه لم يكن عندهم ما يسمى بالإدارة المالية المنظمة لحركة الثورة، فكل شيء كان يسير - كما قدمت - حسب الظروف، وعلى أساليب فطرية أولية، لا اثر فيها للدقة، ولا للنظام والأحكام.
فلما تولى شامل قيادة الثورة انشأ - أول ما أنشأ - بيت المال على حسب نصوص الشريعة الإسلامية، وعين لهذا البيت الجباة والأمناء والعاملين، وجعل للمتطوع حقاً معلوماً في الغنائم، فكان يخمس كل ما يصل إلى يده من أموال الأعداء، فيضم خمسة إلى بيت المال، ثم يقسم الأخماس الأربعة الباقية بين المجاهدين المحاربين، وأحيا بذلك سنة الرسول الأعظم ﷺ وخلفائه في قسمة الغنائم ببيت المال والمجاهدين تطبيقاً لكتاب الله الكريم وعملاً بما جاء به (واعلموا أن ما غنيتم من شيء فإن لله خمسة ولرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا عل عبدنا يوم الفرقان يوم التقى والله على كل شيء قدير) (41 - 8).
فكون بذلك أساس النظام الاقتصادي، وأمن الناحية المادية في الثورة، كما أغنى المجاهدين المتطوعين، وسد حاجاتهم بما ينالونه من الغنائم، ولم يكتف بذلك بل وجه نظرة إلى نام الجيوش وتدريب المتطوعين على نظم القتال والحروب، كما عنى العناية البالغة بأمر أسلحة هؤلاء المتطوعين، وعمل على إبلاغها إلى الحال التي تصلح للقتال بها مع جيوش الروسيين ذات العدد والعدد.
ومع أن هم شامل كل أو جله كان منصرفاً إلى الناحية الحربية وإعداد المحاربين، وتهيئة كل الأسباب التي تمكنهم من القيام بواجبهم الوطني على الوجه الأكمل، فانه مع ذلك لم يكن ليهمل النواحي المدنية والعمرانية، فقد معنياً جداً بتوطيد نظام القضاء الشرعي في تلك البلاد، فكان بعين في كل قرية يستولي عليها قاضياً يفصل بين أهلها فيما يعرض لهم من أحكام دينهم، ويقيم حدود الإسلام، وينفذ أحكامه فيهم.
ولي هذا فقط، فقد كان يوجه إلى الأقاليم والمناطق التي تخضع له (نواباً) عنه يقومون بالإدارة المدنية في تلك الجهات ويشرفون على جميع شئونها. وكانت مهم هؤلاء النواب في أقاليمهم شبيهة بمهمة المحافظين والمديرين، فكانوا مسؤولين عن جباية أموال بين المال، وتنظيم حركة المتطوعين، والمحافظة على السلام والأمن العام، وحماية السلطة القضائية، وتنفيذ أحكام القضاة، وعلى العموم فقد كان هؤلاء (النواب) يقومون في أقاليمهم بمهمة الحكام لهم ما للحكام من أشراف على مصالح الإقليم ورعاية حقوق الناس وصون أموالهم ونفوسهم، وتنفيذ أحكام التي يصدرها القضاة الشرعيون.
وإذا نحن تركنا الناحية المدنية من إنشاء بيت المال وتنظيم إدارة وما إلى ذلك، ووجهنا نظرنا إلى الناحية الحربية وار شامل فيها. وجدنا الفرق كبيراً والبون شاسعاً بين العهد الذي سبق شاملاً والعهد الذي نشأ بعد تولى شامل القيادة، فالثورة في عهد الغازي محمد الكمراوي وحمزة بك كانت أشبه ما تكون بتلك الحركات السلبية التي تظهر في كل بلد على اثر احتلال جدد من فاتح أجنبي، تظهر هنا مرة، وهناك مرة أخرى، وتظهر في آن لتختفي في أحيان ولكن الحال في عهد شامل من سنة 1250 - 1276هـ (1834 - 1859م) تغيرت تغيراً كبيراً، فقد أصبحت الثورة حركة عامة شاملة، واصبح لها قيادة رسمية ومقر يصرف الأمور، ويوجه الحركات، ويتلقى الأنباء، ومعتقلات لإيواء الأسرى، وسجون لحبس الخارجين على أحكام الشريعة، أو من صدرت ضدهم أحكام قضائية.
وأنشأ الشيخ شامل حكومة وطنية في الدغستان. كانت في كثير من الأوقات - مدى ربع قرن - تبسط سلطانها على اغلب البلاد الداغستانية، وتنفذ فيها أحكام الشريعة الإسلامية.
وإن ما يبعث على العجب والإعجاب معاً أن يستطيع الشيخ شامل الصمود أمام قوات القيصرية لروسية خمسة وعشرين عاماً ونيفاً يناضل في سبيل دينه ووطنه من غير أن يكون له سند يسنده، أو معين يعينه غير إيمائه باله، وقوة عزيمته، وصبره ومصا برته على المكاره والشدائد في سبيل الله. وإذا كان في هذا الصبر وذلك الصمود أمام قوات تلك الإمبراطورية العظيمة مدى ربع قرن ما يثير الإعجاب ويبعث على العجب، فان ما سجله التاريخ لهذا المجاهد البطل من انتصارات باهرة على كبار القواد الروسيين في معارك مشهورة فاصلة - نعن ان تلك الانتصارات العجيبة تعيد إلى الذهن ذرى فتوحات الغزاة المسلمين في عصر ظهور الإسلام وانتشاره والصدر الأول من حياة المسلمين.
عل إنه - رحمه الله واحن إليه - لما اضطر إلى التسليم آخر الأمر لم يرضى ان يسلم نفسه إلا على شرط أن يسلم هو ومن معه من قواده ومرافقيه إلى خليفة الإسلام والمسلمين في القسطنطينية.
ولا يتسع هذا المقال الوجيز الذي أكتبه بمناسب ذكرى وفاته السادسة والسبعين لذكر ما ينبغي ذكره من أعمال هذا المجاهد العظيم، ولذلك سأقتصر على بعض الخطوط والظلال التي تصوره بصورة إجمالية، وتعطى القارئ فكرة عامة عنه، كما اذكر بعض الأعمال والحوادث الهامة التي وقعت ملتزماً في ذلك غاية الإيجاز:
1 - على أثر تولى شامل قيادة الثورية وقيامه ببعض الإصلاحات والتنظيمات أوعزت الحكومة الروسية إلى أحد صنائعها شمخال غمر أنش، وكلفته الاتصال بشامل بقصد استمالته إلى جانب الروسيين، وإغرائه وإطماعه في أمارة الجبل، فاتصل الشمخال بالشيخ شامل، وطلب منه أن يتوجه إلى مقر والى القوقاز في مدينة (تفليس) حتى يعينه هذا الوالي الروسي أميرا وإماما لبلاد الداغستان بمتابعة له وتواليتهم إياه بعد اغتيال المرحوم حمزة بك 1250 هـ ولذلك لم يمر هذا العرض التفاتاً وضرب به عرض الحائط. وفي سنة 1253هـ (1837م) تكررت هذه المحاولة لاستمالة الشيخ شامل، وإنهاء حال الثورة في بلاد الاغستان، فقد اتصل القائد الروسي الجنرال (كلك) بالشيخ شامل وعرض عليه الذهاب إلى (تفليس) لمقابلة والي القوقاز، وأكد له أن الوالي سيعينه أميرا على جميع المسلمين في الداغستان، ورفض الشيخ شامل هذا العرض أيضا لأنه كان بعد نفسه أميرا منتخباً من الأهلين بركام جرياهم، فلم يرضن لنفسه أن يتلقى الأمارة من يد عدوه ومستمر بلاده، وعقد العزم على مواصلة القتال حتى يقضى الله أمره، ثم تكررت هذه المحاولة سنة 1255هـ (1839م) من جانب الروسيين ولكها فشلت أيضا.
2 - في أوائل سنة 1258هـ انتصر الشيخ شامل على القائد الروسي الجنرال (كرف) أنصارا باهراً. في معركة فاصلة حاسمة واضطر هذا القائد الروسي إلى الانسحاب العام، ولجأ إلى قلعة (شورا) الشهيرة. وكان لهذا النصر وقعه الحسن بين أخوان شامل ومريديه، فاقترحا عليه أن يبعث وفداً من قبله لمقابل خليفة المسلمين السلطان عبد المجيد خان في القسطنطينية، وبعد إلحاح شديد نزل شامل على إرادة أعوانه، وألف وفداً من ثلاثة أشخاص اختارهم لهذه السفارة بينه وبين الخليفة، وحملهم عرية كتبها باسمه واسم إخوانه المجاهدين الداغستانيين إلى مقام الخلافة العظمى. ولسنا ندري مضمون هذه العريضة، والغاية المرجوة منها، ولكنها على كل حال لا بد أن تكون عرضا لأحوال المسلمين في الداغستان، وربما كانت مضمنة طلب العون والمساعدة المادية أو الأدبية على الأقل من خلفية المسلمين.
وسافر هذا الوفد إلى بلاد الجركس في طريقه إلى القسطنطينية ثم جاوزها إلى بلاد (أبازه) على ساحل البحر الأسود ليركبوا من هناك أحد المراكب البحرية إلى عاصمة الخلافة. إلا أن أخبار هذا الوفد كانت قد سبقته، فوجد العيون والأرصاد في كل مكان فلم يستطع أعضاؤه ركوب البحر لان عيون الروسيين كانت ساهرة، وأخيراً استطاع أحد الأعضاء (الشيخ الجركوي) أن يتسلل إلى أحد المراكب بدعوى انه من الحجاج القاصدين إلى الديار الحجازية وحمل بين طيات ثيابه عريضة الشيخ شامل، وأوصلها إلى رجال ديوان الخليفة غير أنه لقي مطلاً غريباً، ووعوداً كاذبة. وقضى نحبه بعد مرض يسير قبل أن ينال رد الخليفة على عريضة قائده وأمامه الشيخ شامل. وبذلك أسدل الستار على هذه الرواية.
(يتبع)
برهان الدين الداغستاني