مجلة الرسالة/العدد 729/القسم الرابع

مجلة الرسالة/العدد 729/القسم الرابع

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 06 - 1947



فرنسا ومستعمراتها

للأستاذ أحمد رمزي بك

(فكرة الاتحاد الفرنسي قديمة: عبر عنها جبرييل هانوتو بقوله: وحدة الإمبراطورية وحدة الإرادة والتشريع والعمل، وحدة الشعور والإرادة الحرة. ليست بالعنف والقوة والفتح ولكن باللين والترغيب تتم الوحدة الفرنسية).

وتتميز آراؤه بخطورتها على الأمم المغلوبة وأثرها في نفوس الفرنسيين وسرعة تغلغلها في أوساطهم

جبرييل هانوتو من كبار رجال فرنسا، ظهرت مزاياه وشخصيته في أعماله وكتاباته وأقواله، فإذا هو يؤثر في جيل بأكمله من الناس، كتب كثيراً عن تاريخ فرنسا وأمجادها، وعرف الناس ما لم يعرفوا عنها، وكتب عن تاريخ الأمة المصرية، واشرف على إخراج كتاب على الأسلوب الذي يروق له وللمستشرقين، وهو رجل دائم الإنتاج، لم يترك عملا من أعمال الخلق إلا كتب فيه، ولا نشاطاً إلا جال فيه وصال. كان من أولئك الذين يعملون بالمثل اللاتيني القائل:

(إني بشر مثلهم، ولن أترك (ليكون غريباً) عني عملا من أعمال البشر)!

فكان من الطبيعي والضروري أن يلفت الاستعمار الفرنسي أنظار الشيخ، ولذلك كتب فيه وأطال، وهو القائل في كتاب له عنوانه (من أجل الإمبراطورية الفرنسية):

هل ترغب فرنسا أن تحيا حياة الأمم الفتية الناهضة؟ أم ستلحق بغيرها من الأمم الفانية التي ذهبت ريحها؟

هل ستفنى كما فنيت بيزنطة؟ وهل تتبع قرطاجنة وتلقى مصيرها؟

إذا عاشت فرنسا بعظمتها وقوتها وأمجادها، وهذه ما لا أشك فيه (هذه قوله هو) فلتكن متجهة بنشاطها وفكرها وعبقريتها إلى مستعمراتها

هناك تبرز شخصيتها الخالقة وتنمو علائقها مع تلك العائلة التي جمعتها حولها: عائلة المستعمرات الفرنسية

كانت صيحة وبرنامجاً قذف بهما هذا الشيخ الفاني فتلقفهما رجال الاستعمار، قال هذه الكلمة بعد أن أمضى السنين يدرس ويبحث ويقيد ويسجل

وخطر هانوتو أنه رجل من رجال الفكر والدهاء، يجمع بين البحث والعلم والفلسفة، ينظر للاستعمار نظرة المحلل الطاغية الذي لا تتطرق الرحمة إلى قلبه

أتدري بمن أشبهه؟ بهذا الفريق أو الرعيل من دهاة العرب الذين نبغوا في العصر الأول من الهجرة، فقادوا الحركات الكبرى أو مهدوا لها بفكرهم وعقلهم: هذا الفريق الذي فيه معاوية وعمرو بن العاص، إننا لن نجد اليوم بين مجموعة الدول العربية من تسمو به كفايته إلى هذا الفريق من السلف الخالد.

أما هانوتو فكان داهية الفرنسيين، تلمس روحه الذين يضعون الخطط لبلادهم لسنوات بعيدة، ويرسمون لحكوماتهم برامج السير مع الأمم التي نكبت بالاستعمار، وهو مثل من كثير غيره، ولكن لكثرة ما قرأت عنه أراني في حل إذا وضعته في صف دوفرين السفير البريطاني في اسطانبول وملنر صاحب المشروع المشهور، وكلاهما من دهاة الاستعمار البريطاني الذين وضعوا الخطط الطويلة المدى لبلادهم، ولا نزال نحن بمصر نجاهد للخروج من نطاق تقرير دوفرين عن الشؤون الدستورية، ونكافح للخروج من دائرة ملنر في الناحية السياسية.

ولا تعجب من تقرير ذلك، فإنّ الاستعمار الأوربي في نكباته ومصائبه لا يعد شيئاً بجانب مقدرته على التطور والظهور بألوان مختلفة، وهو أكبر نشاط إنساني قام به البشر منذ الخليقة إلى اليوم، بل هو دعامة المدنية الحالية ومظهر قدرتها وتفوقها، بل لا نبالغ إذا قلنا إنّ مظاهر الترف ومستوى الحياة لدى جماعات من الأوربيين سوف تنهار أو تهبط بتفكك الروابط مع المستعمرات، ولذلك نجد الدول الأوربية أشد تمسكاً بهذه الروابط من أي عهد مضى. ونرى أنها تجتهد أن تسالم الحركات القائمة وتسايسها وتخضع لبعض مطالبها، حتى تحتفظ بما لها من سيطرة على هذه الشعوب وهذا الاتجاه هو أخطر ما يواجه الأمم الإسلامية الناشئة، لأننا لن نتغلب على الاستعمار إلا إذا فهمنا هذا النوع من العمل الإنساني، ولن نصل إلى الخروج عن نطاقه إلا إذا بعث الله لنا من أنفسنا رجالاً أقوياء أشداء يدافعون عنا ويلاته بعزيمتهم وقوتهم ولهم من الفكر والمضاء في الحق ما يمكنهم من نقلنا من حالتنا التي نحن فيها إلى حالة تقرب من المنطق والمعقول، أو تكون أقرب إليهما من الحالة التي نعيش فيها اليوم.

وأعود إلى هانوتو فأقول إنه قد لا يكون أول من نادى بفكرة الاتحاد الفرنسي، فقد يكون هناك غيره ممن تقدمه، ولكني أعجب به من ناحية أنه من فلاسفة ومفكري الاستعمار، الذي لمسوا تقدم الدنيا وتنبهوا لما قد تأتي به الأيام، فتقدموا بآراء ومشاريع وأفكار لم تكن بعيدة عن الحقيقة.

ثم هو مع دهائه وفكره وبصيرته لم تشغله مظاهر الدنيا والثراء وحب النفوذ، كما شغله حب بلاده ورغبته في بقائها، فتحكم على ربوع المستعمرات وفي رقاب أهلها، وهو حينما يكتب وينشر آراءه وسمومه لا يهمه شخصه، وإنما يؤمن بشيء واحد هو بقاء سيطرة فرنسا على مستعمراتها.

فهو يؤمن بأن بقاء الجماعات متوقف على الأنظمة التي تربطها، وهذه يجب أن توضع على أسس صالحة قوية، بل إن الأنظمة هي روح الجماعات، بقدر صلاحها تصلح الجماعة، وإذا فسدت انهار كيان الجماعة.

ولهذا فالإمبراطورية في نظر هؤلاء كائن حي يجب أن يعيش وينمو، وإن قوته مستمدة من الأنظمة التي تربط المستعمرات بالوطن الأم، وإن أنظمة الحكم يجب أن تطرد مع الزمن حتى لا يعتورها ويصيبها الجمود، وهو عله المجتمعات والداء العضال الذي يصيب الإمبراطوريات ويقضى عليها كما قضى على ملك روما وبيزنطة وغيرهما.

فهذه الفلسفة الاستعمارية لم تقف عند حد النظريات، بل أخذت تحلق في العلاقات بين الدولة الحاكمة والأمم المغلوبة، وتتخذ طريق التجربة والاستقراء في مختلف النواحي.

وحقيقة للعالم هي: أن السيطرة الأوربية سواء كانت فرنسية أو غيرها سادت العالم وشعوبه واحتلت المكان الأول وفرضت إرادتها أينما حلت، إلا في الجهات التي ساد فيها الإسلام فهناك واجهت المصاعب واضطرت أن تسير على حذر وعلى قدر، ولذلك تلقى الإسلام والعرب أكبر الطعنات في التاريخ، وفي سبيل هدمه أعطى ذلك اللون البراق للمدنيات القديمة التي انقرضت في مصر وبابل وآشور وفارس، وهذا يفسر لنا تهجم هانوتو وغيره على العرب وطعنه على تاريخهم ووصفه للإسلام بأنه عدو للعلم والمدنية.

لأن الضعف يوجد تسليماً وخضوعاً وهذا ما تم في ربوع أفريقيا السوداء، أما حيث ساد الإسلام فقد وقف المسلمون يقارعون الاستعمار وجهاً لوجه، وبقي خطر الدعوة المحمدية ماثلاً أمام المستعمرين، ولذلك كثر أعداؤنا لأننا أقوياء: والقوي يخلق أعداء لنفسه، ومن هؤلاء جبرييل هانوتو الذي تولى يوماً الإمام محمد عبدة دفعه عن الإسلام في كتاب له مشهور ومواقف مشهودة أمامه.

ويذكرني هذا بما قرأته في مقدمة كتاب الإسلام وسياسة الخلفاء الذي كتبه أنريكو انساباتو (يقف العالم الإسلامي في مواجهة أوربا موزعاً بين أملاك الدول المختلفة والقوميات الحديثة يقاوم بشدة وعنف وعناد معتمداً على وحدته الدينية وصبغته العالمية التي تعطى لحركاته مظهراً ينفرد به عن غيره)

فالسياسة الاستعمارية وقفت إزاء المسلمين حائرة، وهي التي انتهت إلى اعتبار الإسلام عدواً لدوداً للاستعمار الأوربي ووصفته بالرجعية والتأخر لأن قناته لم تلن لجبروت الدول الاستعمارية.

وعلى هذا رسمت الخطط لاستعباد الإسلام ما أمكن من المناطق التي قد يسود فيها: وفي هذه الناحية بالذات ظهرت قرارات لمؤتمر برازافيل تتفق مع قرارات حكومة السودان بشأن التضييق على حرية العبادة ومنع تغلغل الإسلام في أفريقيا الوسطى وهذا مما جعل للإسلام قضية سوف نعرض لها يوماً لعرضها على الضمير العالمي.

ولم تكن فرنسا بحاجة إلى إعلان الاتحاد الفرنسي والدعوة إليه لو كان الأمر متعلقاً بالمستعمرات الأفريقية وحدها، أما والأمر متعلق بشمال أفريقية حيث يسود الإسلام، ولذلك قامت أمامها العقبات وحشدت القوات.

وقد كان من أيسر الأمور عليها فرض الثقافة واللغة والدين والأسماء الفرنسية وإيهام الجنود السود أن آباءهم من بلاد الغال وأنهم فرنسيون دماً وروحاً وفيهم من يصدق وتحمس لذلك.

أما والإسلام والعروبة بالمرصاد، هنا يبدو الاتحاد متردداً يسير بخطوات وئيدة، ويستنير بآراء هانوتو وغيره، وفي ذلك يقول صاحب كتاب الإسلام وسياسة الخلفاء: (أن للإسلام سياستين: واحدة استعمارية تتعلق بالمستعمرة، وأخرى عالمية تتبعه وتلاحقه في مشارق الأرض ومغاربها). وهما يلتقيان في ناحية واحدة وهي إبعاد الأخطار ما أمكن؛ تلك الأخطار التي يسببها للدول الأوربية وجود ملايين من المسلمين على الأرض، يمثلون في أفريقيا خطراً لا يستهان به نظراً لازديادهم عاماً بعد عام.

وفي القرون الماضية فقدت فرنسا مستعمراتها لأن البحر كان فاصلاً والمسافات بعيدة، واليوم تحاول فرنسا فرض إرادتها على أقطار شاسعة، فإذا بالإسلام أبعد غوراً من البحار والمحيطات: وهي لن تقدر عليه لأنه من نور الله.

ولذلك ستسير شعوب الجزائر وتونس ومراكش نحو التحرر والخلاص برغم المصاعب التي تقيمها فرنسا وحكوماتها المختلفة واتحادها ووحدتها: لأنها شعوب عربية إسلامية قوية لا تلين.

لقد استعرضت فرنسا أنواع الاستعمار المختلفة فبدا لها الاستعمار السوفيتي الروسي بلون خلاب، وخيل إليها أنه قد قضى نهائياً على نفوذ الإسلام من ربوع آسيا الوسطى، وفي هذا خطأ كبير فأرادت أن تستعين بأساليبه في هذه الناحية وفي بعض النواحي الأخرى، ولذلك ترغب أن تؤسس اتحادها على شكل يشبه اتحاد روسيا وسنعرض بعد قليل للاتحادين في مقال لاحق بإذن الله.

احمد رمزي