مجلة الرسالة/العدد 729/مناكفة المرأة

مجلة الرسالة/العدد 729/مناكفة المرأة

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 06 - 1947


للأستاذ عباس محمود العقاد

(التك) عند العامة هو معاودة المرأة الكلام الذي تقصد به الإساءة وتغمغم به غالباً كأنها تزعم أنها تخاطب نفسها وهي تخاطب من تعنيه ويستمع إليها في تلك اللحظة. وأكثر ما يكون (النك) من قبيل الغمز أو التصريح الذي تجرح به غرور الرجل أو تتناول به موضع الضعف منه وهو يتحاشى أن يصاب فيه، ولا سيما أمام المرأة التي يهمه أن يظهر لها في مظهر القوة والرجاحة على الأقران.

والعامة يحكون بكلمة (النك) صوت المرأة وهي تلح في تلك الغمغمة كأنها تعاود الطرق أو الدق على نغمة واحدة لا تسأمها وهي موجبة للسآمة.

ولهذا تتفق الكلمة وما يقابل معناها في بعض اللغات الأوربية، لأن صوت الطرق أو الدق واحد في جميع الآذان. فيقول الإنجليز مثلا نج ليعبروا بها عن مناكفة النساء من هذا القبيل.

ويظهر أن المادة في اللغة العربية تتسع لكثير من الكلمات في هذا المعنى وما قاربه من معاني الدق والوخز والمناكفة. فإذا صح أن الكلمات كلها ثنائية في نشأتها الأولى ثم زيد عليها حرف أو حرفان للزيادة في معناها فعندنا من هذه المادة ومن هذا الباب كلمات (نكأ ونكت ونكث ونكز ونكش ونكف) متقاربة في معنى الوخز والتجريح كأنه يأتى من الضرب بأداة تحدث ذلك الصوت المكتوم.

والنك قديم في العالم كقدم لسان المرأة. ما نظن أن أذن آدم أخطأته من لسان حواء، ولا نظن أنه يضل سبيله بين الألسنة والأسماع حيث يوجد الرجال والنساء.

فمن (النك) كلام امرأة الأخطل وهي تذكر زوجها القديم وهو يجيبها بذينك البيتين:

كلانا على هم يبيت كأنما ... بجنبيه من مس الفراش قروح

على زوجها الماضي تنوح وإنني ... على زوجتي الأخرى كذاك أنوح

ومن النك كلام الأعرابية التي كانت تحدث صاحبها عن زوجها الأول ويسألها بماذا تذكره من أحواله التي لا تنساها. فلما قالت إنه خرج ذات يوم فرمى وطرد وقنص وعاد وعليه الغبار والدم (فضمني ضمة، وشمني شمة، فليتني مت ثمة) ذهب الأبله يحكيه وعاد وعليه الغبار والدم، فضم وشم، فتمنت الموت ثم، ولكن من الأسف والغم، وتركته وهي تقول: ماء ولا كصدّاء!

ومن (النك) كل ما حكاه أجواد العرب وشعراؤهم عن تبكيت نسائهم لهم وملامتهن إياهم على تضييع المال وعجزهم عن محاكاة نسائهم لهم وملامتهن إياهم على تضييع المال وعجزهم عن محاكاة الأنداد والأمثال.

ويلتبس (النك) بأسلوب آخر من أساليب المغايظة النسائية وهو أسلوب التدلل والاستزادة في مقام الرضى والمحبة، وقد عناه الشاعر بقوله:

أحب اللواتي في صباهن غرة ... وفيهن عن أزواجهن طماح

مسرّات حب مظهرات عداوة ... تراهن كالمرضى وهن صحاح

ولكنهما - وإن اختلفا - يدلان على أن المرأة لا تحب أن تريح إذا استطاعت أن تتعب وتغيظ!. . فهي في (النك) أو في الدلال على هذه الحال.

وإذا كان (النك) قديماً في الزمان فهو كذلك شائع في كل مكان، وهو في البلاد التي بلغت فيها المرأة غايتها من حرية الزواج والطلاق لا يقل عنه حيث لا تملك المرأة حقاً من حقوق الزواج والطلاق.

فلا عجب أن يكون موضع بحث متجدد بين علماء الأوربيين بل بين علماء الأمريكيين في الشمال وفي الجنوب، حيث أصبحت المرأة غنية عن (النك) بسرعة النظر في أمر الطلاق، فلو شاءت لطلبت الطلاق واستغنت به عن المناكفة واللدغ باللسان. . . ولكنها تشاء حيناً ولا تشاء في أحيان. لأن مضغ الكلام لذة تطلب لذاتها كمضغ اللّبان!

وآخر ما قرأناه من البحوث في هذا (النك) الذي لا يفرغ ولا ينتهي بحث طريف نشرته (خلاصة المجلات) الأمريكية وأثبتت به أن لغة (النك) واحدة في جميع اللغات، وأن العلم بأسبابه يفيد في بلادنا كما يفيد في جميع البلاد.

فمن أسبابه (الجوع الجنسي) وقد يتعرض له الزوجان وهما صحيحان وكلاهما صالح للزواج والنسل ولكنهما لا يتلاءمان في خصائص البنية الجنسية أو في خصائص المزاج.

ومن أسبابه (زواج الحب) كما يسمونه إذا كان قصارى ما يعرفه الزوجان من الحب أن يحب أحدهما الآخر، ثم لا يصنعان شيئاً غير قضاء الوقت في هذا الحب المتبادل.

ويقول الكاتب في شرح هذا السبب أن المهم في الحب بين الزوجين أن يشتركا في حب أشياء كثيرة، لا أن يحب أحدهما الآخر وكفى.

فالزوجان اللذان يشتركان معاً في حب الموسيقى أو حب الرياضة الخلوية أو حب الحدائق والأزهار أو حب المطالعة والتعليق على الشئون العامة أقدر على اجتناب (النك) من زوجين يجمعهما الحب ويسأمانه بعد عشرة قصيرة أو طويلة. فينفد ما بينهما من دواعي القرب والاتصال.

وقد يدوم حب المصلحة أو حب التفاهم بيت الزوجين الذكيين لأن المصلحة والذكاء شيئان يقبلان الدوام، أما الحب وكفى فقلما يدوم أو يطول به الأجل، وقلما يسلم البيت الذي يقوم عليه من آفة (النك) بعد شهور، أو بعد سنين.

ومن أسباب (النك) سوء الحالة المالية، وقد يكون الخلاف على التصرف بالمال عرضاً لداء آخر في نفس المرأة، وهو عرض الشعور بالنقص أو الشعور بالحرمان.

وإذا أصيبت المرأة بشعور النقص لسبب من أسبابه الكثيرة فقد تظهر هذه الآفة منها في مظاهر شتى بعيدة كل البعد من مظاهرها المألوفة.

قد تظهر منها مثلا في فرط النظافة أو فرط الحركة والاهتمام بالتنظيم والترتيب ونقل الأثاث والتنقل بين المساكن لغير سبب مفهوم.

وقد تظهر منها في التوجس والعبادة وتصديق الخرافات وخوف العقاب على المحرمات أو ما تتوهم أنه من المحرمات. فلا تزال (تنك) في موضوع من هذه الموضوعات، وهي تغالط نفسها في الحقيقة ولا تقبل التسليم بينها وبين ضميرها بالسبب الصحيح، ولو عرفت السبب الصحيح.

والفراغ طبعاً من أسباب (النك) التي لا تفرغ؛ لأنه يملأ الوقت ويثير الحس ويعوض الزوجين عن الشواغل والأعمال التي تقضى فيها أكثر الأوقات.

وسوء الصحة من أقوى هذه الأسباب. فإن الشكوى من عادات المرأة المتأصلة في طباعها، فإذا تحركت فيها بواعث الشكوى من المرض أو الاعتلال فوق هذا الباعث الأصيل غلبتها الطبيعة والعلة معاً فعجزت عن السكوت والتمست لها متنفساً في الإعادة والإبداء والمناكفة والإيذاء.

وقياساً على هذا يحسب (للنك) سبب يتكرر كل شهر مرة، ويتساوى فيه جميع النساء. ولا بد فيه من نوبة غم أو لغط أو صياح تخلقها المرأة خلقاً إن لم تسعفها بها الحوادث والمناسبات وقلما تتوانى الحوادث والمناسبات عن الإسعاف بمثل هذه النوبات في وقت من الأوقات.

هذه جملة صالحة من أسباب (النك) عند جميع النساء في جميع البلدان، وبين جميع الأجناس.

ونحن نعرفها فنستفيد ولا شك من هذه المعرفة كما نستفيد من كل معرفة.

ولكن هل معنى ذلك أننا نقضي على الداء إذا عرفنا حقيقة الداء؟

كلا، فمهما يطل الكاتبون والقائلون من (النك) في هذا الموضوع فالنك نفسه باق إلى آخر الزمان، ما بقى للمرأة لسان وللرجل أذنان تسمعان أو لا تسمعان.

عباس محمود العقاد