مجلة الرسالة/العدد 73/الشباب في أمريكا

مجلة الرسالة/العدد 73/الشباب في أمريكا

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 11 - 1934



حركته وتربيته وحياته السياسية

ومقارنته بالشباب في أوروبا

بقلم: إبراهيم إبراهيم يوسف

لا نستطيع أن نفهم الجديدة التي تملكت أفئدة أبناء الجيل الحديث في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا إذا فهمنا قبل كل شئ الفوارق الرئيسية بين الحركة العامة للشباب في أوروبا ومثيلتها في أمريكا. وأول ما يلفت النظر عدم اهتمام الشباب الأمريكي اهتماماً جدياً بالروحانيات والاجتماعيات، بينما نجد زملاؤهم في أوروبا على عكس ذلك. كذلك هم لا يعرفون التكالب على الدرس بنفس النهم الذي نجده عند الشباب الأوربيين. والواقع أن أمريكا برغم مالها من تنوع في الآداب لا تعرف حتى الساعة ما يسمى (بثورة الشباب) كتلك التي عرفناها لشباب الألمان مثلاً لنهاية القرن التاسع عشر وبدء القرن العشرين. وقد تكون التقاليد الاجتماعية التي توارثها الشباب الأمريكي عن سلفه والتي يرعاها كل الرعاية سبباً، إذا ما أضيف إليها مركز الشباب الاقتصادي، يحول بينه وبين تحمل عبء مسئوليات جسام. وركن الشباب إلى تلك التقاليد وراح يحافظ عليها فتجلت في حياته السياسية، ثم سرعان ما انتقلت العدوى بعد ذلك إلى كل ميدان من ميادين حياة الشباب. ورسخت هذه التقاليد في النفوس بدلاً من أن يتم التعاون على مقاومتها لتتلاشى. فمثلاً بينما كان الشباب الألماني منذ ثلاثين سنة يثور على سلطة العائلة وسلطة المدرسة ولا يأبه بسلطان الدولة ولا بسلطان الكنيسة، كان الشباب الأمريكي ينزع في نفس الوقت إلى انتهاج ما ثار عليه زميله الأوربي، وكان مما لا بد منه أن تنبذ أمريكا آراء أوربا وطرقها في تربية النشء وتبحث لها عن أسس جديدة، فاهتدت إلى جعل الدراسة العلمية في المرتبة الثانية من منهج التعليم. وما هي إلا سنوات حتى استوثق رجال التربية والتعليم في أمريكا من أن النظريات والعمليات التي سار عليها زملاؤهم في أوروبا لم تعد صالحة للعالم الجديد، فاستعاضوا عن (القوانين العامة) في علم النفس بفكرة رعاية الشباب وتهذيبه عملياً. وهم يتبعون في ذلك رأي زعيم التربية الحديثة في أمريكا المستر جون ديوي الذ تعتبر آراؤه إنجيلاً للمربين الأمريكيين. وخلاصة آرائه: أن العلم والمعرفة يجب أن ينتزعا من الحياة، وأن لا علم إلا إذا جاء عن طريق ممارسة العمل ومزاولة الأمور العملية. وهذه الأسس التي يعبر عنها (بطريق الشروع) القائمة في علم النفس على (المحاولة والخطأ). وقد يهزأ الأوربيون بهذه النظريات العملية، وهذا النوع من التربية. ولكنهم ينسون أن تربية النشء وفق هذه الأصول تكون عندهم قوة الإرادة وصحة الحكم على الأشياء. ومن أهم المبادئ المعمول بها في أمريكا لتربية النشء اعتبار الشباب وفرديته في مرتبة لا تقل عن مقام المعلم وعلمه. وكثيراً ما ينعى علماء التربية الأمريكيون على زملائهم في أوروبا التسرع في الحكم بأن الطفل له شخصية أقل خطراً من شخصية الرجل المكتمل الرجولة. ولكن علماء التربية الأوربيون يقولون هم الآخرون بأن الآراء الأمريكية تحوي جرثومة تهدد نظام التربية والتعليم من أساسه، كما أن تلك الآراء تعمل على إضعاف مركز المربي في نظر النشء وإضعاف الثقة به. ولكن الأمريكيين يقولون أن المسألة عكس ذلك تماماً. ثم إذا نظرنا إلى المدارس الأمريكية على اختلاف أنواعها، ولاحظنا تباين الأعمار في الفصول، حكمنا بأن النظام كما يفهمه الأوروبيون ليس له أثر ملموس في هذه المدارس. وكثيراً ما قال المربون الأوروبيون عند أول مشاهداتهم للشباب الأمريكي: (يا لها من فوضى!) إذ يجدون الطلبة هنالك بتوجهون بكلياتهم إلى شخص الأستاذ، أما اهتمامهم بدرسه فأمر ثانوي لديهم. ولهذا نجد بين الأساتذة والطلبة علاقة ألفة قد تبدو أشبه بالصداقة التي يضيع معها كل نظام، ولعل السر الذي يفسر لنا تلك الألفة هو أن 90 % من مجموع المعلمين في المدارس الأولية والابتدائية والثانوية في كافة البلاد الأمريكية نساء. ولا يعوق المعلمة عملها لو أن لها زوجاً وكانت في مقتبل العمر. ثم هنالك ظاهرة غريبة أخرى قد لا نجد لها مثيلاً في أي بلد أوروبي، تلك هي اعتبار المدرسة والكلية مزرعة يتعهد فيها المدرسون بتربية الألفة والصداقة بين كل أفراد الشباب، ولا زالت الكليات الأمريكية برغم ما وجه إليها من نقد محافظة كل المحافظة على حياة الأخوة بين الطلاب، مانعة كل المنع تسرب دخلاء إلى حظيرة الشباب، وحتى في المدارس الابتدائية يتدرب الأطفال على معيشة أخوية كاملة المظهر، لا يعنى فيها بإتباع طريقة شحن الذهن بالعلوم.

والواقع أن المثل الأعلى وطابع التربية عند الأمريكيين هو جعل التعليم المثالي عملياً ووطنياً.

إبراهيم إبراهيم يوسف