مجلة الرسالة/العدد 730/رحلة إلى الهند

مجلة الرسالة/العدد 730/رحلة إلى الهند

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 06 - 1947



للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

- 1 -

كان السفر إلى الهند أمنية تطاول عليها الزمان، وما طلت بها الأيام. وكدت أظفر بها سنة 1939م، إذ ندبتني جامعة فؤاد لتمثيلها في مؤتمر للمستشرقين كان يقدر أن يجتمع في حيدر آباد صيف ذلك العام، ولكن الحرب العاتية التي ثارت حالت دون الأمنية.

وكان شوقي إلى الهند يزداد كلما زادت معرفتي بها، والتقائي بأهلها، واطلاعي على لغاتها وآدابها.

فلما دعت الجامعة الملية الإسلامية إلى احتفال لها في دلهي وجاءت الدعوة إلى جامعة فؤاد، كما بلغتني دعوة خاصة، وجدتها فرصة تغتنم، لولا أن الوقت كان قد ضاق عن التأهب لمثل هذه الرحلة. فاعتذرت جامعة فؤاد.

ثم جاءت الدعوة إلى مؤتمر العلاقات الآسيوية، وانتهى الأمر إلى أن ندبتني الحكومة لشهود المؤتمر رقيباً. وكان هذا الندب قبيل الموعد الذي ضرب للسفر على غير اختيار، وإنما حددته مواعيد الطائرات. فلبيت على بعد الشقة، وهيبة الطريق، وضيق الوقت، استجابة لما في النفس من تطلع إلى الهند وحرص على زيارتها.

- 2 -

ذهبنا إلى مطار ألماظة والساعة واحدة بعد ظهر يوم الثلاثاء الثامن عشر من آذار (مارس) سنة 1947 آخذين أهبتنا للسفر على إحدى طائرات الشركة الإنجليزية. فأخبرنا، بعد أن حان الموعد، أن الرياح غير ملائمة، وأن السفر أرجئ إلى صباح الغد، وجعلت الساعة الخامسة موعداً لرجوعنا إلى المطار.

وأخذنا مكاننا في الطائرة والساعة خمس ونصف، وأغلق الباب ومر بنا أحد ضباط الطائرة يقول: احزموا أوساطكم، وأشار إلى أحزمة مثبتة على المقاعد.

قلت: إن هذا أوان الحزم. وتوقعت أن تميد الطائرة في سيرها ميداناً لا يثبت فيه ع مكانه إلا من احتزم، فجاشت نفسي وجرت الطائرة على الأرض فوقفت فسارت فاستقلت صاعدة، وفي النفس ملؤها هيبة وإعجاباً. ومر علينا الضابط مشيراً أن نحل الأحزمة، فعرفت أن هذا الحزم احتياط حين صعود الطائرة فحسب، فسرى عن نفسي.

وتأملت الطريق بعد حين، فإذا ببيداء متشابهة لا ترى العين من معالمها إلا قليلاً، وتوالت مناظر متقاربة، وأشباح متشاكلة. وكرت ساعات بين التفكر والنظر إلى الأرض وكتابة بعض الخاطرات، حتى اختلف المنظر قليلاً، ولاحت حفرة ضيقة ثم اتسعت، وبدأ عمران وأبنية، فظننت أنها قرية في الصحراء، وشرعت أفكر ما عسى أن تكون هذه القرية الصحراوية! فقطع علي الفكر قناة ماء طويلة متعرجة عرضها في رأى العين خطوة واحدة، فعجبت من هذه القناة أيضاً! ولم أملك أن سألت رفيقاً أمامي: ما تظن هذه؟ قال: أظنها الفرات، وما فكرت أنا في الفرات لتوهمي أنا منه جد بعيدين، وما قدرت أن الطائرة طوت ما بين النيل والفرات في أقل من أربع ساعات. فرحت بالفرات وأخذت أتأمل قراه وزروعه، وهجمت الطائر على ماء وسيع تختلف على المسير أشكاله ومناظره، فعرفت أنه البطائح التي تسمى في العراق اليوم (الأهوار)، وما قدرت من قبل أن هذه (الأهوار) تمتد هذه المسافات الشاسعة وتساير الطائرة قريباً من نصف ساعة.

شغلتني الأهوار بألوانها وأعشابها وقصبها، وما يبدو للعين خافتاً من جزرها ودورها، حتى حومت الطائرة هابطة، حتى استقرت على أرض البصرة، وكانت الساعة عشراً بحساب مصر وإحدى عشرة بتوقيت العراق. ليس بين القاهرة والبصرة في سرعة الطائرات إلا أربع ساعات! إنها لإحدى الكبر!

اطمأنت نفوسنا بالقرار على الأرض ساعة تغدينا فيها، ثم استأنفنا الطيران صوب كرتشى، والمسافة بينهما نحو ألف وأربعمائة ميل. وقد توجهت الطائرة إلى الجنوب الشرقي على طريقها المعتاد، وبعد برهة أطلعنا ضابط على الخريطة كدأب ضباط الطائرات مع مسافريها، وأخبرنا أنا نجتاز الآن الرأس البارز في الخليج الفارسي شرقي جزيرة العرب.

قلت: كيف وليس هذا طريقنا المخطوط على الخريطة؟ قال: الرياح غير ملائمة هناك، فعدلنا إلى هذا الطريق.

ورأيت صخوراً عاتية موحشة اجتزناها، فسايرنا الساحل حيناً، ثم عبرنا الخليج، فسايرنا أكثر الوقت ساحل إيران المشرف على المحيط الهندي، وهو ساحل ضيق تشرف عليه جبال عالية تفصل بينه وبين سائر الأرض. ولهذا لم يألف الإيرانيون البحر، ولا مرنوا على ركوبه، فلم يكونوا في تاريخهم من أمم البحار، المولعين بالأسفار فيها.

والساحل متشابه، لم أتبين من معالمه إلا آثار سيول أو أنهار متمعجة تسيل من الجبال إلى البحر.

وما زلنا بين تأمل في الأرض التي نطير فوقها، والجبال التي نحاذيها ونساميها ونعلوها، والبحر الذي نسايره حتى ستر الليل المشاهد إلا أشباحاً خفية. فكان مسرح الطرف بين الظلام الذي نعلوه، وبصيص الكواكب التي تعلونا.

ولاحت كرتشى في ظلام الليل في أضوائها منتشرة على البر والبحر، فكانت منظراً عجيباً مؤنساً في هذا السفر الموحش، وبشرى بالوصول منيرة في العين والقلب، ورأيت على مقربة من الساحل جبلاً في البحر عالياً عليه منارات ومصابيح زاد في جلال المرأى وجماله.

ودومت الطائرة كثيراً حتى توهمت أنها لا تهتدي إلى مهبطها، ثم أسفت حتى لمست الأرض وزافت حتى استقرت عليها.

ولله ما أجمل أن يحس الراكب وقع عجلاتها على الأرض بعد أن انقطعت بينه وبين الأرض الأسباب، وتداولته الرياح ساعات طويلة. وكانت الساعة ستاً بتوقيت البصرة، وثمانياً ونصفاً بتوقيت الهند.

- 3 -

استرحنا ليلتنا في فندق قريب من المطار، وغدونا إلى الطائرة فاستقلت والساعة ثمان وربع تؤم بنا دلهي، فطرنا فوق صحراء السند، وأرض أخرى معمورة لم نر فيها إلا قرى صغيرة يكاد البصر لا يدركها.

وقد وجدت في مذكرتي هذه الجملة:

(نحن الآن على بعد مائة وسبعين ميلاً إلى الجنوب الغربي من دلهي، والارتفاع عن البحر تسعة آلاف قدم، وعن الأرض ثمانية آلاف وخمسمائة، والساعة عشر ونصف، (يا لطيف يا سلام).

ولما قاربنا دلهي، وظننا أن السفرة إنتهت، والمشقة زالت، وشرعنا نعد الأميال والدقائق، أخذت طائرتنا ترجف؛ تهبط فتعلو فلا تستقر في مستوى. وكان هو أول ما عهدت من تدثين الطائرات، فأخذ مني الخوف، وبلغ مني الدوار، وكان أمامي رفيق ركب معنا في كرتشي، فرأيته أغمض عينيه، وأعربت صفرة وجهه عما به. وما زالت طائرتنا تهبط كثيراً، ثم تجهد صاعدة لتبلغ مستواها، فيهبط بها الهواء كرة أخرى، حتى مر بي شاب من خدام الطائرة، فلم أملك أن قلت له: ما هذا؟ قال: يا سيدي نحن هابطون بعد دقائق قليلة. وأشرت إلى أحد الرفقاء سائلاً متململاً فقال: نحن في إقليم جبلي، والهواء حار، ومن هذا كان هذا الاضطراب.

هبطت الطائرة في دلهي بعد أن فعلت بنا ما فعلت، وختمت رحلتنا بما أرهبنا. . .

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام