مجلة الرسالة/العدد 730/شعب واحد، وقضية واحدة!

مجلة الرسالة/العدد 730/شعب واحد، وقضية واحدة!

مجلة الرسالة - العدد 730
شعب واحد، وقضية واحدة!
ملاحظات: بتاريخ: 30 - 06 - 1947



للأستاذ محمود محمد شاكر

يقول العربي الأول:

وحولي من هذا الأنام عصابة ... توددها يخفي، وأضغانها تبدو

فما العيش إلا أن تصاحب فتية ... طواعن، لا يعنيهم النحس والسعد

إذا عربي لم يكن مثل سيفه ... مضاء على الأعداء أنكره الجد

يضارب حتى ما لصارمه قوى ... ويطعن حتى ما لذابله جهد

فهذا العربي الذي اكتنفته عصابة شر أخرجت له أضغانها، قد كاد يمثل لنا أمر العرب كلهم في أيام الناس هذه. فما من أمة من الأمم الغربية وأشباهها إلا أحاطت بنا عداوتها من كل جانب، تسر ذلك حيناً وتستعلن به أحياناً كثيرة. وليتها رأت ذلك حسبها من وغر الصدور، بل جاوزت ذلك إلى الاستخفاف بمائة مليون من الناس خلق الله، تنظر إليهم كما ينظر السيد إلى عبده ورقيقه، وتعاملهم كما تعامل المرأة الطاغية أمة جعلها الله تحت يدها، فهي تسومها الخسف كأشد ما يبغي الضعيف حين يستمكن له سلطان وبطش. وقد مضت العبر بأن هؤلاء القوم لا يكادون يفهمون إلا اضطراراً، وبالقهر والغلبة، كما لم يفهم السادة يوم استبدوا أن الرقيق لن يصبروا طويلاً على الذل، حتى جاء اليوم الذي حمل الرقيق على المركب الوعر فثاروا واستنقذوا حريتهم قوة واقتداراً. وكذلك نحن لن نبلغ شيئاً في إفهام أولئك القوم أن عملهم سيئ العاقبة، مهما توسلنا إلى إفهامهم بالدعاية والمناشدة، بل لن نبلغ شيئاً إلا يوم يستوي لدينا بحق معنى الموت ومعنى الحياة الحرة، فضلاً عن معنى الموت ومعنى الحياة الذليلة.

فمن العبث إذن أن ندعو هؤلاء القوم إلى سواء بيننا وبينهم، لأن القوة قد أسكرتهم فأطاشت حلومهم، وتركتهم لا يدركون إلا ذلك المعنى الخسيس للحياة، معنى الفائدة العاجلة بغير نظر إلى عدل ولا نصفة. وهم قوم تقوم حضارتهم على تزييف الشرور حتى تبدو في صورة الخير، وتدليس شريعة الوحش حتى ترى شريعة إنسان أنعم الله عليه بالعقل والعاطفة بينهما موازنة تجلب عليه السعادة في الدارين ومن العبث أن تحتال عليهم بما يسمونه (السياسة)، فالقوي وحده هو الذي يعرف كيف يستفيد من (السياسة) أما الضعيف فاعتماده على السياسة وبال مستطير الشر، يهدمه ويصرعه، ويمكن لعدوه أن يفترس منه حيث شاء وكيف شاء.

فلا مجاز لنا نحن العرب إلا أن نعرف أنفسنا، وأن ندرك حقيقة حياتنا؛ وأن نؤمن بأن القوي لا ينال منا بقوته بل باستسلامنا، وأنه لا يحيف علينا ببطشه بل بتهاوننا واستصغارنا لشأن أنفسنا؛ وأن أجهل الجهل أن يظن ظان أن مائة مليون من خلق الله يمكن أن يفنوا على بكرة أبيهم بسطوة ساط أو بغي باغ، وأنهم هباء لا يزن في ميزان القوة جناح بعوضة، وأنهم غنم مسيرون يهاهي بهم راع عنيف تسوقهم عصاه إلى حيث أراد. نعم لا معدي اليوم لكل عربي من أن يحس في قلبه مؤمناً بما يحس، أنه خلق لعصيان أمر الرعاة الطغاة، وأنه مأمور من عند من خلقه أن يثبت في مكانه لا يطيع عصا الراعي ولا زمجرته ولا زئيره ولا إرهابه، وأنه مكلف يحمل أمانة من لدن دبت على الأرض قدم عربية، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها من عجم ومن عرب.

فالعربي اليوم هو أعظم الناس حملاً للتكليف، لأنه يحمل وزر ما هو فيه من ضعف ينبغي أن ينفض عن نفسه آصاره، ويحمل حق أجيال مقبلة توجب عليه أن يعمل ويمهد لها في هذه الأرض، ويحمل أيضاً أمانة آباء وأجاد وأسلاف مهدوا له هذه الدنيا التي يسكنها من أطراف الهند إلى أقصى مراكش، ومن حدود تركيا إلى أقصى السودان. هذا، وهو يعيش في عالم عدو له قد قبض على زمام الكون، واستولى على عناصر القوة، ونال أسباب السماء وأطاعته نواحي الأرض. فأي تكليف أشق من التكليف الذي يحمله هذا النبيل المسكين الذي يعيش في الدنيا مشرداً مضطهداً مجهولاً مهضوم الحق مرمياً بملفقات العيوب؟

وأول ما يجب على هذا العربي منذ اليوم أن يضع بين يديه صورة أرضه التي توارثها عن آبائه بالحق الذي لا ينازعه فيه منازع إلا مستطيلاً أو مهتجماً: أرض تبلغ مساحتها مساحة قارتين من قارات الدنيا، ثم يقول لنفسه: هل يستطيع أحد أن يبيدني ويبيد أهلي وعشيرتي ويستأثر بهذه الأرض يفلحها أو يعمرها أو يقيم فيها للإنسانية حضارة أو دولة؟ وهل يستطيع أحد أن يقسرني قسراً على ما لا أريد أن أفعله مما يجب هو أن يتم له؟ وهل يستطيع أحد أن يأخذ قلبي من بين جنبي ليصرفه في هواه كما يشتهي أو يريد؟ وجواب ذلك كله (كلا!) ولا ريب. ففيم إذن أخدم نفسي لمن لا يريد إلا إذلالي، والفت في عضدي، وأكل أرضي وما أنبتت من نبات وحيوان وإنسان؟

فهذا شأن الفرد الواحد، فما ظنك إذن بمائة مليون يكونون على قلب هذا الفرد الواحد، يداً واحدة، ورأياً واحداً، وعملاً واحداً، وإصراراً على أن لا ينازعنا أحد في حق نحن أصحابه وحماته والمكلفون بحياطته ورد العادية عنه؟ فإذا آمن العربي بهذه العقيدة التي لا مناص له عن الإيمان بها، فهل يدور في وهمك أن أحداً يجرؤ على غصب العرب على ما لا يريدون، أو حملهم على شيء يصرون إصراراً على أن لا يقبلوه؟

إن قضية العرب قضية واضحة بينة المعالم: هي إننا لا نريد إلا أن تكون بلادنا جميعاً مستقلة حرة، لا يحتل عراقها جندي واحد، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول، ولا ينال نيلها من منبعه إلى مصبه سلطان بريطاني أو غير بريطاني، ولا تقع شامها ولبنانها تحت سطوة غاصب، ولا يعيث في أرجاء مغربها فرنسي خبيث القول والفعل مجنون الإرادة. وهذا كله شيء لا يملك كائن من كان أن يجبرنا على خلافه أو على الرضى به.

ونحن العرب قد أصبحنا دولاً لكل دولة منا سياسة يخشى أن تكون ناظر إلى استجلاب منفعة خاصة ببلد دون بلد، ويخشى أن تكون كلمتنا في قضية العرب لا تزال محصورة في دائرة أصحاب الأقلام دون أصحاب الحكم والسلطان، ويخشى أن تكون أعمالنا مفرقة لا تجتمع إلى نهاية واحدة في وقت واحد. وإذن فلابد منذ اليوم أن نسن لأنفسنا سياسة جديدة في كل شأن من شئون العرب، تجتمع بها كلمتنا وأهدافنا وأعمالنا حتى تبلغ الغاية جملة واحدة، ويداً واحدة وفي وقت واحد. وينبغي أن لا نرضى منذ اليوم أن تفرق قضية العرب وتجعلها قضايا ممزقة: هذه قضية مصر والسودان، وتلك قضية فلسطين، والأخرى قضية طرابلس وبرقة، والرابعة قضية تونس، والخامسة قضية الجزائر، والسادسة قضية مراكش، والسابعة قضية العراق. . . بل إن هذه القضايا كلها قضية واحدة لا تنفك منها واحدة عن أختها أبداً.

والعمل لهذه القضية الواحدة ينتظم أفراد العرب، من ملوك إلى وزراء إلى ساسة إلى أصحاب الأعمال إلى جماعات المثقفين إلى عامة الناس، ويحمل عبئها كتاب العربية لأنهم هم اللسان الناطق بما يعتلج في صدور هذه الفئات كلها، وهم المسددون لخطوات الشعب، وهم بناة المبادئ والمدافعون عنها والداعون إليها، وهم الذي يحملون الحكومات العربية على انتهاج خطة واحدة، وعلى الإيمان بمبدأ واحد، وعلى الوقوف في ساعة العسرة موقفاً لا ترتد عنه قيد أنملة لإيمانها بأن العرب قوة لا تلين لغامز، وبأنهم أهل أرض تقع في قلب العالم لا يطيق معتد أن ينال منها نيلاً، إذا ثبتت له كعادة آبائهم وأجدادهم في الدفاع عن الحوزة والحمى.

ونحن العرب نجهل اليوم أننا قوة كأقوى ما في هذه الأرض، يجهل ذلك أفرادنا متفرقين. وتجهله حكومتنا موزعة الأهواء والأهداف، ويجهله ساستنا بما كتب الله عليهم من محنة هذه السياسة. فنحن اليوم أحوج ما كنا وما نكون إلى معرفة حقيقة هذه القوة، وإلى إدراك ما تقتضيه هذه القوة أيضاً. فالرجل الذي يعرف أنه قوي ينبغي أن يجعل قوته عملاً ظاهراً لا يرتد مخافة إرهاب أو نكبة أو شر يلاقيه. فإذا شاء رجال العرب وأماثلهم أن يصبحوا في تاريخ العرب مجداً لا يتكسف ضوؤه أبد الآبدين، فليستلهموا تاريخ أسلافهم الذين خرجوا من أرضهم وديارهم شعثاً غبراً جياعاً، ولكنهم خرجوا أيضاً مؤمنين بأن كلمة الله هي العليا، وأن حقهم وإن قل ناصره، أقوى من باطل سواهم وإن كثر أعوانه والعاملون له وعليهم أن يزأروا زئير الأسد في غابه، حتى يستيقظ النائم، ويتأهب الأعزل، ويجتمع المتفرق، وعليهم أن يحاصروا عدوهم بالمدافعة عن حقهم، قبل أن يحاصرهم بالتهجم على حقوقهم. وعليهم أن يعلموا علم اليقين أن العربي حين يمد يده إلى سيفه، فهو يمدها إلى قوة زاخرة لا تزال تنحدر إليه منذ آلاف السنين بمدد لا ينضب من العزة والشرف والمجد الذي تناله يد المتطاول.

إننا قوة لن يتجاهلها أحد مهما بلغت قوته إلا كنا شجي في حلقه، لا مجازاً وبلاغة، بل هي الحقيقة المجردة عن كل مبالغة إننا قوة سوف تجبر بريطانيا وروسيا وأمريكا وسائر أمم الغرب على أن تعرف أن العرب، قد أفاقوا في العصر، وأنهم قد عزموا على أن ينالوا حقهم أو أن ينتزعوه انتزاعاً من كل من تسول له نفسه أن يهتضم حقوق الناس ويأكل أموالهم ويعيث في بلادهم فساداً وطغياناً وشراً. إننا نحن العرب أمة واحدة في دولة متعددة، وسنكون أمة واحدة تحمي حقوق الضعفاء من أي الناس كانوا. إننا نحن العرب أمة قوية وإن ظن الناس بنا الضعف، ونحن أصحاب هذه الرقعة من الأرض، سوف تكون خالصة لنا دون الناس لا تشاركنا فيها دولة بريطانية؛ أو دولة صهيونية أو دولة فرنسية.

وعن قريب سوف تقول حكومات العرب كلمتها، وسوف يجتمع رأينا على أننا لن نرضى بأن نجعل قضيتنا أجزاء يتلعب بها هذا ويلهو بها ذلك، إنها قضية واحدة، يرفعها شعب واحد، مطالباً بحق واحد، هو إننا أحرار في بلادنا.

محمود محمد شاكر