مجلة الرسالة/العدد 735/حجة تاريخية

مجلة الرسالة/العدد 735/حجة تاريخية

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 08 - 1947



للدكتور جواد علي

نعم حجة تاريخية من تلك الحجج التي يتذرع بها المدعون ولكنها من أوهى ما عرفه المؤرخون فلسطين وطن العبرانيين! فيها نشا هذا الشعب واليها يريد العودة بعد هجرة طويلة تزيد على عشرين قرنا. يريد أن يستردها وان يكون فيها ثقافة يهودية ووطنا يجمع شمل يهود العالم.

لا اعتقد أن رجلا صاحب منطق يجازف بشخصيته فيقول مثل هذا القول؛ لان نبش الماضي السحيق والحكم عليه معناه تغيير خارطة العالم وتوزيع الأراضي على شكل جديد ولو أخذنا بهذا المبدأ لوجب علينا رد دعوى الصهيونية مقدما لأن الأرض التي يقال لها عند اليهود (أرز إسرائيل) أي (ارض إسرائيل) لم تكن ارض إسرائيل بل كانت (ارض الكنعانيين) و (ارض الفلسطينيين) قبل أن يتبرع متعصبو التوراة بمنح هذه الأرض إلى الإسرائيليين باسم (إله إسرائيل) وقبل أن تعرف عند العبرانيين المتأخرين باسم (ارض الميعاد)

وكلمة (فلسطين) نفسها حجة قوية تطعن مزاعم الصهيونيين في الصميم وترد دعواهم لأنها تشير إلى نسبة الأرض إلى شعب قديم كان يسكن في هذا الموضع قبل مجيء العبرانيين وكان يقال له (الفلسطينيون) وقد عرفت الأرض التي كانوا يقيمون بها والتي هي السهل الساحلي في الأغلب في التوارة باسم (فلسطيا) نسبة إلى هذا الشعب ثم أطلقت على كل الأراضي التي أقام بها الإسرائيليون فيما بعد.

وقد ذكرت فلسطين في النصوص العبرانية بلفظة بلشتيم و (بلشتيم) وقيل (لفلسطية) وهي المنطقة التي كان يقيم فيها (الفلسطينون) (بليشيت) وقيل للفلسطنيين (بلشتي) وتقابلها في النصوص المصرية

وولا بد أن تكون للفلسطينيين قوة وشكيمة دفعت اليهود إلى تسمية (أرز كنعان) أي (ارض كنعان) كما كانت تعرف في الأسفار الأولى للتوراة باسم (فلسطين) حتى تغلبت على كلمة (أرز إسرائيل) أي ارض إسرائيل. والأرض الموعودة وقد أطلقها الكتاب باليهود المتأخرون الذين دونوا الأسفار المتأخرة فشاعت بين الشعوب الأخرى منذ ذلك الحين. وقد ذكر المؤرخ (هيرودوتس) أن العرب كانوا قد تمكنوا من الدخول إلى منطقة (فلسطينية) قبل أن يتمكن من ذلك الإسرائيليون وانهم كانوا في تلك المنطقة في أيامه.

لم يترك البشر الأولون الذين سكنوا هذه المنطقة قبل العصور التاريخية أثاراً يمكن التعرف منها على طبيعتهم. وكل ما يمكن أن يقال عنهم انهم كانوا يسكنون المغاور والكهوف ويظهروا أنها أصبحت في العصور التاريخية تحت نفوذ (الاكادبين) كما يتبين ذلك من النقوش.

وفي الألف الثالث قبل المسيح كان يقيم في فلسطين شعب لا نستطيع أن نعرف عن هويته شيئا؛ إذ أن العظام التي عثر عليها في المغاور والكهوف وفي الحفريات التي أجريت منطقة (حيزر) كانت في حالة تلف شديد. والظاهر أن ذلك الشعب كان من شعوب البحر المتوسط ولعل (الحوريين) الذين ورد ذكرهم في التوراة هم من نسل هذا الشعب القديم. ويظهر مما ورد في التوراة كذلك أن (الحوريين) هم سكنة منطقة (ادوم) و (جبل سمير) وانهم من نسل (عيسو) الذي هو جد الادوميين وانهم كانوا من سكنة الكهوف في المنطقة التي أطلق عليها اليونان اسم والتي كان يسكنها العرب في أيام (سترابو) ولذلك سماها أو (العرب سكنة الكهوف) والذين كان يقال لهم في اليونانية القديمة. ويرى (سترابو) أن هذه الكلمة تصحيف أي بمعنى (عرب) أو (عربي).

وفي حوالي سنة 2500 قبل الميلاد لعبت الشعوب السامية دورا هاما في فلسطين؛ وقد عرف هؤلاء باسم (الكنعانيين) والذين يقال لهم (العموريون) كذلك. وقد أطلقت التوراة وجميع الكتاب على ارض فلسطين اسم (ارض كنعان) وقد عرقوا في النصوص المصرية باسم أو ويرى بعض العلماء أن (العموريين) اقدم من الكنعانيين وان الكنعانيين هم فرع منهم بدليل تشابه اللهجات والأسماء وعدم تمييز التوراة في كثير من المواضع بين الجنسين.

وكان (حمورابي) من ملوك العموريين في العراق. وهم الذين سكنوا سهل (شنعاد) ويرى بعض العلماء أن العموريين هم من أسلاف العرب لوجود تشابه كبير في طرق الحياة والأسماء واللغة فيما بين العرب والعموريين.

ويرى العلماء أن الكنعانيين والعموريين ظلوا محافظين على خصائصهم الجسمية وان كانوا قد بدلوا ديانتهم فاعتنق قسم كبير منهم الديانة اليهودية ثم اعتقوا بعد ذلك الديانة المسيحية وتثقفوا بالثقافة الآرامية الني تغلبت على اليهودية أيضاً. ولما تحررت فلسطين من ربقة البيزنطيين وعادت إلى أصحابها الشرعيين كان أكثر هؤلاء قد تثقفوا بالثقافة العربية الآرامية فحاربوا في صفوف المسلمين ضد أبناء دينهم البيزنطيين ثم اعتنق أكثرهم الديانة الإسلامية وتكلموا باللغة العربية. وأما الذين فضلوا البقاء على ديانتهم وهي المسيحية فانهم تكلموا باللغة العربية التي تكلموها قبل الإسلام ولا زالوا يتكلمون بها حتى اليوم وقد شاركوا إخوانهم في تقدم بلادهم وفي تقدم الخلافة الإسلامية ولم يكن الدين ليميز بين الطرفين. ولما وقعت الحروب الصليبية اشترك هؤلاء مع إخوانهم المسلمين في مقاومة الغزاة وابلوا في ذلك بلاء حسنا ولا يزالوا يحاربون من اجل فلسطين.

ويمكن ملاحظة الخواص والمزايا الجسمية واللغوية والصور الكنعانية العمورية حتى الآن بين السكان الفلسطينيين الأصليين وهم القرويون والفلاحون الذين يمثلون اقدم شعوب فلسطين والذين لم تذهب عنهم ميزاتهم التي ورثوها عن ألوف من السنين وقبل مجيء المهاجرين من اليهود بكثير. والذين لم تتمكن السنون من تغييرهم على الرغم من الحوادث الدامية الطويلة التي جرت على هذه البلاد.

وبالنظر إلى اتصال فلسطين بمصر اتصالا طبيعيا أصبحت مقدراتها ومقدرات مصر مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا كليا. وهذا أمر هام يجب الالتفات إليه لان عدم الاهتمام به معناه تجاهل أمر طبيعي من الأمور المفروغ منها. وقد خضعت فلسطين قبل هذا العهد الذي نتحدث عنه إلى الأسر الفرعونية المختلفة. وقد دخلت في أيام (تحتمس الثالث) (حوالي سنة 1500 قبل الميلاد) وفي أيام (امنهوتب) (انحوتب الثالث) حوالي سنة 1450 قبل الميلاد في حكم المصريين تماما وأصبحت من المقاطعات الفرعونية يحكمها ملوك يخضعون لفرعون وللحكام الذين يعينهم عليهم.

وقد شغل الفرعون (امنحوتب الرابع) بالإصلاحات الدينية التي حاول إدخالها إلى الشعب المصري ومن جملة ذلك عقيدة التوحيد عن إدارة أملاك مصر والشؤون الداخلية المصرية فانتهز أعداؤه هذه الفرصة وثار الحكم في الداخل والخارج على (امنهوتب) لأنه جاء نظرهم ببدعة جديدة وأخذت الممتلكات المصرية في الخارج تستقل الواحدة بعد الأخرى ومن جملتها مدن فلسطين.

وتتحدث ألواح (تل العمارنة) عن شعب اخذ يهاجم ارض فلسطين اسمه (خبيري) وقد ارتأى قسم من علماء التوراة أن هذا الشعب هو (العبري) أو (العبرانيون) غير انه لا توجد هنالك أدلة مقنعة تؤيد أن (الخبيريين) هم (العبرانيون) بالذات ولو أن جماعة من علماء اليهود تحاول البرهنة على ذلك لتظهر أن اليهود كانوا قد دخلوا ارض فلسطين منذ هذا العهد.

والذي يظهر من التوراة أن (العبرانيين) كانوا أرقاء في مصر ثم خرجوا منها هاربين حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد تحت قيادة زعيم لهم هو (يشوع) الذي حل محل (موسى) وخلفه وهو ابن (نون) من سبط (افرايم) الذي عبر الأردن وقاد جماعة (إسرائيل) إلى (ارض الموعد) وحارب شعب كنعان ست سنين واخذ أرضهم وقسمها بين الإسرائيليين. وسقطت على يديه أسوار أريحا وست إمارات صغيرة غير أن الإسرائيليين لم يتمكنوا من فتح كل فلسطين ومن التغلب على الإمارات الوطنية وعل مقاومة كل الكنعانيين.

ويفهم من الكتابات القديمة للتوراة أن من الأسفار المكتوبة قبل الأسفار الني أخذنا منها روايتنا الأولى أن الإسرائيليين عبروا إلى حدود فلسطين ولم يكن على رأسهم قائد أو زعيم بل تقدموا على هيئة قبائل متفرقة ثم صاروا يهاجمون المدن الفلسطينية الضعيفة من جهات مختلفة ولم يتمكنوا من الاستيلاء إلا على نواح قليلة من فلسطين وهذا ما يلائم ما جاء في نصوص (تل العمارنة) كل الملاءمة.

لم يتمكن الغزاة من الاستيلاء على كل فلسطين ولم يتمكنوا من احتلال السهل الخصب المهم المسيطر على البحر الأبيض المتوسط وهو سهل (فلسطية) نسبة إلى سكانه القدماء وهم (الفلسطينيون) وظل الفلاحون القدماء على تقاليدهم القديمة وفي محلاتهم مثل (الجبعونيين) الذين كانوا يقيمون في مدينة (جبع) والذين ظلوا يقاومون الإسرائيليين مع أن مدينتهم هذه لا تبعد سوى خمسة أميال تقريبا عن جنوب القدس والتي تقع في موضع (الجب) في الوقت الحاضر، وقد اشتركت مع الملوك (الكنعانيين) في محاربة (الإسرائيليين) ومهاجمتهم مرارا عديدة؛ وقد اضطر إلى مغادرة وطنهم بعد أن دخلت في حوزة (البنياميين) غير انهم لم يذهبوا بعيدا عنهم واضطر العجزة منهم إلى اعتناق الديانة الإسرائيلية غير أن كثرتهم ظلت تحارب الإسرائيليين.

جواد علي