مجلة الرسالة/العدد 735/عشرة أيام في الشام
مجلة الرسالة/العدد 735/عشرة أيام في الشام
للأستاذ علي الطنطاوي
يمضي المسافر أياما طوالا لا يقطع فيها إلا أذرعا من طريقه، ثم يجتاز الفراسخ والأميال في ساعات ويعيش المرء سنين لا يفهم فيها من أسرار الحياة، ولا يرى من معالم الكون إلا الأقل، ثم يرى في لحظة أخفى المعالم، ويفهم اعمق الأسرار، وكذلك شأني:
سرت على طريقة العمر قريبا من أربعين سنة، فلم أدرك من حقائق الحياة حولي، ولم اعرف من خلائق الناس مثل الذي أدركته وعرفته في هذه الأيام العشرة التي (طرت) فيها فجأة إلى دمشق، ثم عدت طائرا منها، وعلى دين أكاد اعجز عن قضائه لا اعرف السبيل إلى استرضائه ولكني مع هذا عدت رابحا لأني تعلمت فصولا من كتاب الحياة كنت أجهلها وهذا قليل من كثير مما تعلمت:
- 1 -
كان أقصى علمي بالصديق انه الذي يألفني وألفه، ويأنس بي وانس به، ويسال عني أن غبت ويزورني أن حضرت ويستقبلني أن زرته، ويصغي أن حدثته، وكنت اعتز بصداقات رجال احسبني نلت بهم ما تمناه المأمون وهو خليفة وعجز عنه، وما عده الأولون ثالث المستحيلات، وحشروه مع الغول والعنقاء ولم احتج إلى واحد منهم كي أجربه فلما كانت هذه التجربة (تجربة دخول الانتخابات) رأيت أكثر هذه الصداقات كأنها بقايا ثلوج الشتاء تحت شمس الصيف سرعان ما يذهب بياضها ونقاؤها ثم تذوب ثم تجري على التراب فتكون سواقي عكرة تنحدر إلى الحضيض، بعد أن كانت في العلاء ما بقي بين يدي من هذه المودات إلا كالذي يبقى من هاتيك الثلوج على صخور الجبل!
لقد تنكر لي رجال كانوا رفاقي في السفر وفي الحضر، وإخواني في الصبا والشباب، واعرضوا عني إيثاراً للراحة، أو هرباً من إغضاب الحكومة، أو فروا من المشاكل وحبسوا عن مساعدتي أقلاماً لهم والسنة طالما شددت أزرها، ودافعت عنها بقلمي ولساني، وامسكوا عن نصرتي أكفاً طالما امتدت إليها_مصافحة مؤازرة_كفى. وقالوا ما لنا ولمرشح نساعده على الحكومة ونقويه عليها، وهي ذات السلطان وبيدها العطاء والحرمان؟
ونسوا إني موظف في الحكومة، لست عدوا لها، ونسوا عهود الإخاء، وأيام الصفاء هذا و سقطت السقطة التي لا يرجى لها قيام ولا كنت تاجرا افلس، ولا موظفا عزل ولا صحيحا ازمن، ولا حكم على بسجن أو نفي، ويبقى عيالي من بعدي أمانة عند الصديق وإنما هي تجربة هينة فكيف لو كان شئ من ذاك؟ وعل من اعتمد بعد اليوم؟
سأعتمد على الله ثم على هؤلاء الذين وجدت من إخلاصهم، وحبهم وعطفهم علي، أيام العسرة ما هو اثمن عندي من النيابة والوزارة، ومناصب الأرض كلها. ولن أنسى أبداً لان هؤلاء هم الذين ابقوا علي القليل من ثقتي بهذا الإنسان وأنقذوني من أن اكفر به كفرا مركبا تركيبا مزجيا كحضرموت. . . . . لا يستطيع إخوانا عبد المنعم خلاف أن يحله أو يزيله ولو انزل عليه في دينه الجديد كتاب آخر؛ وأن أومن بان الكلاب والحمير أو في من الناس واحفظ للوداد.
- 2 -
وكنت احسب كل متظاهر بالتقي تقياً، وكل لاهج بذكر التصوف صوفيا، وكل مزهد في الدنيا زاهداً وكل داع للعبادة عابدا، واحبهم جميعا وأراهم أهل الدين وأرباب الاخلاص، ولا يبلغ وهمي أن يكون في الألف منهم مراء واحد أو خداع، فلما جربتهم وجدت. . .
لا احب أن أقول ماذا وجدت منهم، لأني اظلم العلماء إذا أخذتهم بجريرة نفر تسلطوا على (رابطة العلماء) التي هللنا لظهورها وباركنا يوم إنشائها وسيروها على هواهم وكفوا أيدي العلماء الاجلاء من أعضائها.
ولكن أقول أن الصالح المصلح، والعالم العامل، هو من يجعل هواه تبعاً لحكم دينه، ويضيع منفعته أن كان فيها مضرة أمته، ويؤخر نفسه ويقدم من هو اصلح منه، ويحكم الشرع في دقيق أمره وجليلة وظاهره وخفيه أما تكوير العمة وتطويل اللحية وحسن الكلام وسائر هاتيك المظاهر، فهو لآخر ما يستدل به على الصلاح وهو أهون شئ عند الله الذي لا ينظر إلى الصور وإنما إلى السرائر وعند الناس.
- 3 -
وكنت اكبر هؤلاء الذين وقفوا أنفسهم على الجمعيات الخيرية، وقصروا عليها جهودهم واثروا خدمة أمتهم على راحتهم واراهم مثلا في الإخلاص من أعلى الأمثال، لأني لا اسمع عنهم إلا الرغبة في إعلاء كلمة الله، وإحقاق الحق وإذاعة الخير، فلما بلوتهم في هذه الأيام العشرة وجدت أكثر الجمعيات يسيرها رجل أو رجال، يستبدون بها، ويسمون لها أعضاءها ممن يعرفونهم موافقين لهم، ووجدت في هؤلاء، على إخلاص بعضهم وأمانتهم. . .
أأقول ماذا وجدت، فأضع في أيدي خصوم الإسلام سلاحا جديدا يقاتلون به أهله؟ أم اسكت عن بيان الحق؟
المسألة مشكلة. .
وأنا أسال الله أن يعجل اليوم الذي نجد فيه رجال هذه الجمعيات قد نسوا نفوسهم وأهواءهم فجعلوها كلها جمعية واحدة، لها فروع وأقسام إذ لا يعقل أن تتعدد الجمعيات ما دامت تزعم أن غايتها واحدة هي خدمة الحق والخير، وان يكون القائمون على هذه الجمعية أمناء يعلمون أن لكل مسلم حقا في أموالها يحاسبهم يوم القيامة على كل قرش منه أنفقوا في غير وجهه، وعلى كل مقعد للجمعية قعدوا عليه لغير مصالحها، ودار لها أقاموا فيها ساعة لغير خدمتها وسيارة لها ركبوها من غير ضرورة لركوبها وراتب أخذوه لأنفسهم أو أعطوه موظفا أقاموه، ما دامت المصالح العامة تسير بغير هذا الموظف وتضمن بغير هذا الراتب.
فهل نرى هذا اليوم؟
إذا لم أره، فحسبي إني قد رأيت حقيقة هذه الجمعيات وكنت لا أرى من قبل إلا الستار اللماع الذي يخفيها.
- 4 -
وكنت اقرأ مهاترات الصحف الحزبية في مصر والشام وما تسوق من تهم، وما تصب من فرى، فأرى المبالغة ظاهرة، ولكني أقول انه لا دخان من غير نار. ما كنت أظن أن القحة في الشر تبلغ برجل أن يفتري كذبا يعلم انه لن يصدقه أحد، ولا يقبله عدو فضلا عن صديق، واحسن الظن بالبشر، فاحسب انه لا يزال في نفوسهم بقية من الوفاء والحياء، فهم يقدرون الإخاء ويستحبون من اختراع الكذب المحض، فلما قرأت ما كتب في الصحف عني وعن غيري وجدتني قد وضعت ظني الحسن في غير موضعه وأنا رجل في نقائص كثيرة، وعيوب جمة ويستطيع من يكتب عني أن يعرض لها فيكون قد نال مني وبلغ ما أراد من هجائي أما أن تبلغ بكاتب قلة الفهم، والجهالة بأصول الشم إلى أن ينسى عيوبي كلها ثم لا يلقى إلا أشياء أنا ابعد الناس عنها يلصقها بي فيضحك الناس عليه، فهذا يدعو إلى الأسف على ضياع (الهجاء) في هذه الأيام.
لم تجد هذه الصحف ما تقوله عني إلا أن تعرض تعريضا غامضا بسيرتي في العراق وتقول إني أسأت بقلمي لوطني لأني انتقدت في الرسالة ما كان في احتفال الجلاء من تكشف وبلاء، وتنقل عن مجلة تصدر في دير الزور إني كنت من صنائع الفرنسيين.
أما سيرتي في العراق فان هؤلاء يعلمون أن الرسالة تقرا في العراق أكثر من جرائدهم، وأنا استحلف في الرسالة كل من يعلم عني مخزية في العراق أن ينشرها في الصحف أو يبعث بها إلى هؤلاء الخصوم وماذا صنعت في العراق ويحكم؟ هل فجرت؟ هل سرقت؟ هل كنت جاهلا في العلم الذي ادرسه أو مهملا في العمل الذي أمارسه؟ وهل كان في كل من قدم العراق مدرسا من هو احفظ لوده وأكثر (بعد الدكتور زكي مبارك) كتابة عنه مني؟
أما صلتي بالفرنسيين فمن كان يعلم إني عرفت فرنسيا من كان معلما أو مستشارا في الوزارة فليقل ومن كان يعلم أنها خلت سنة مدرسية من نقلي مرتين لخلافي مت الوزارة - وكانت الوزارة هي المستشار أو يعلم إني مدحت فرنسيا بلسان أو قلم أو أعنته بيد أو يعرف رجلا كتب في سب فرنسا مثل الذي كتبت، حتى يوم سقطت باريز وكانت الحرب مستمرة، والفرنسيون حاكمين؛ فليقل أما إني أسأت لوطني في الرسالة فهذا هذيان لا يقبل من محموم. وهل جرى قلم كاتب في القديم والحديث بوصف محاسن الشام، وتمجيد أيامها، وتصوير جهادها، بمثل ما جرى به قلمي في الرسالة منذ سنة 1933 إلى اليوم، وفي فتى العرب واليوم، وألف باء، والزهراء، قبل أن تنشا الرسالة، وهذا كلام ما كنت أظن إني سأقوله يوما من الأيام، ولكني اضطررت إليه وأنا اعتذر إلى القراء واستغفر الله، ولن أعود إلى مثله.
- 5 -
وبعد فأنا رجل قاض وأديب، ولكني لم اكن اعرف قبل هذه الأيام قيمة ما أنا فيه، ولقد حمدت الله أن انتهت هذه الأزمة وعدت قاضيا أقول الحق أياً كان أثره، وأديباً يشرك قراءه في نعيمه وبؤسه، وخواطر نفسه، وحديث يومه وأمسه لا يكتم عنهم امرا، ولا يمسك سرا ونجوت من السياسة وشرورها.
ومالي وللسياسة؟ وما لبست لها لباسها، ولا أعددت لها سلاحها، ولا عرفت مسالكها ورب جاهل جال في الطرقات، وصاح في المواكب، وولج وخرج، وخالط الكبار والصغار، وصحب الأعلياء والأدنياء وعرف لسان كل فخاطبه بلسانه، اقدر على السياسة مني ومن كل أديب في الدنيا وكل عالم. ورب رجل مثل هذا لا يموت حتى يصير اسمه ملء الأسماع، وملء الصحائف، ويكون علما في طريق التاريخ وآلاف مثلي في (أخصاصهم) لا يدري بهم أحد!
ولكني راض بما أنا عليه قانع به، لا ابتغي أكثر منه، وهل ابتغي أكثر من مرتب كاف يريحني من الكدح للعيش والسعي للخير، وعمل لا يأخذ من وقتي وذهني إلا الأقل أقوم به بما أستطيع من الأمانة، فأخذ الراتب بما يمكن من الحل، ثم اتصل بقراء أشاركهم أفراحي وأتراحي وبصحب انس بهم ويانسون بي، وأهل اخلص لهم ويخلصون لي؟
فماذا بعد هذا؟ وهل النائب أو الوزير أو الرئيس اسعد نفساً واهدأ بالا مني؟ وهل السلطان اكبر من الأديب؟ هل النعمان اعظم من النابغة؟ وسيف الدولة اجل من المتنبي؟ والخديوي عباس اخلد من شوقي؟ وهل بيني الحكومات ويهدمها، وينشئ الممالك ويدمرها ويرفع الأمم ويخفضها إلا الأديب؟
فمالي وللسياسة، وأنا قد تشرفت بان أسير في ذيل ركب الأدباء إلى سوح الخلود؟
لقد كانت تجربة لن أعيدها، ولو جرتني إليها كل حروف الجر، لقد كانت تجربة تعلمت منها دروسا جمة أهمها إني لست مخلوقا للسياسة، أن السياسي هو الذي يقول للحمار: أنت غزال بأذنين طويلتين! وأنا لا أقول للحمار، إلا يا حمار، فان غضب فدونه (بردى)!
(القاهرة)
علي الطنطاوي