مجلة الرسالة/العدد 735/ملاحظات وردود على تأملات ونقود

مجلة الرسالة/العدد 735/ملاحظات وردود على تأملات ونقود

مجلة الرسالة - العدد 735 المؤلف عباس العقاد
ملاحظات وردود على تأملات ونقود
ملاحظات: بتاريخ: 04 - 08 - 1947


للأستاذ عباس محمود العقاد

كتب الأستاذ مظهر في مجلة (المقتطف) فصلا افتتاحيا ضمنه بعض (التأملات والنقود) حول موضوع كتابنا عن (الله) ثم ألحقه بتذييل عن المصطلحات والأسماء التي (لا يوافق عليها).

وفي هذا وذاك مجال للمناقشة والتعقيب من قبيل التصحيح أو التوضيح.

وهذا بعض ما رأينا نناقشه من تلك النقود والملاحظات

انتقد الأستاذ مظهر ترجمة الأنيميزم بالاستحياء وقال أن حقيقتها الفكرة الروحانية واستشهد على ذلك بمعجم من المعجمات الإنجليزية.

ونقول أن هذه المصطلحات لا يرجع فيها إلى المعجمات العامة وإنما يرجع فيها إلى معنى المذهب الذي تدل عليه

فكلمة (الأنيميزم) لها معان كثيرة تختلف باختلاف العلوم التي تدخل فيها، وهي في علم وظائف الأعضاء غيرها فيما وراء الطبيعة وغيرها في علم أصول الإنسان.

والمعنى المقصود هنا في مذهب تيلور أن الهمجي كان يؤله الأشياء والظواهر الطبيعية لأنه كان كالطفل الذي يضرب الباب إذا اصطدم به لأنه يحسبه في حكم الأحياء. ونحن لا نقول أن الطفل يضرب الباب لأنه يؤمن بالفكرة الروحية وإنما نقول إنه يضرب لأنه يؤمن بالاستحياء، أو لأنه (يستحي) الأشياء التي ليست لها حياة.

وانتقد الأستاذ مظهر ترجمتنا البوليثزم بتعديد الآلهة وقال: (هو الإشراك أو الشرك وهو اصطلاح قديم جار على الألسنة وتضمنته المؤلفات العربية من اقدم عصور البحث الفلسفي فيها).

نقول نعم. . . ولكنك لا تقول أن القبائل الهمجية كانت تؤمن بالشرك لأن الإيمان بالشرك يقتضي الإيمان قبل ذلك بوحدانية الله. ولا معنى لأن تصف إنسانا بأنه مشرك قبل أن يظهر على الكرة الأرضية دين يدعو إلى التوحيد، أو يدعو إلى الإله الواحد الذي يدعو إلى غيره أولئك (المشركون).

وفرق بين كلام الكاتب العربي عن المشركين بعد ظهور الإسلام وبين كلام المؤرخ الذي يرجع إلى التوحيد. فلو قال ذلك المؤرخ أن الهمج أشركوا قبل أن يؤرخ لنا ديانات التوحيد لكان كلامه هذا خطأ في التاريخ وخطأ في التعبير.

وانتقد الأستاذ مظهر بعض الحروف كقولنا الشيشيميون بدلا من (الخيخيميون) كما يرى أو كقولنا كرونوس بدلا من أخرانوس إلى أمثال هذه التصحيفات في رأي الأستاذ.

وجوابنا عن ذلك أن كتاب العربية يكتبون (أرشميدس) كما يكتبون (أرخميدس) أو يكتبون ارشميد وارخميد بغير سين

وانهم يكتبون كريستوفر كولمبس كما يكتبون خرستوف كولمبي أو كولمب في الحالتين.

وأن العرب اخذوا من الفارسية (خسروا) فجعلوها كسرى مع وجود الخاء في اللغة العربية.

وإن كرونوس بذاتها لا يصح أن تترجم اخرونوس في المقام الذي ترجمت فيه؛ لأنها تتصل بمعنى الزمان ونحن نقول اليوم (كرونومتر) ولا نقول (أخرونومتر) كما يريد الأستاذ.

ويعيب الأستاذ مظهر ترجمة الديالكتك بالثنائية وفضل ترجمتها بالجدلية.

وهو في ذلك على خطأ عظيم من جهة اللفظ ومن جهة المعنى؛ لأننا رددنا ديا إلى معناها الأصيل وهو التثنية ومنها الآن كلمة بالفرنسية بالإنجليزية.

ولأن مذهب كارل ماركس وهو (الديالكتك) يقوم على أن المادة ثنائية الخصائص تشتمل على الخاصة ونقيضها ولا يقوم على أن المادة جدلية أو يجادل بعضها بعضا في أطوارها المتتابعة وقال الأستاذ مظهر في مفتتح كلامه: (ما من شئ في دنيا الفكر ينبغي أن تحدد معانية تحديدا دقيقا إذا أردنا أن نأمن العثار ونطوي مراحل الجدل كتحديد المعنى ندركه من كلمة الله والمعنى الذي ندركه من الألوهية أو الربوبية. . . . ولكن ينبغي أن نتواضع على تفرقة بينهما في الاستعمال، وأود لو إننا ندرك إذا قلنا الله إنه موضوع مرده إلى الدين، وان ندرك من القول بالألوهية والربوبية انه موضوع مرده إلى الفلسفة والتأمل).

وقد كان خليقا بالأستاذ مظهر أن يرجع في هذا إلى غرضنا من الكتاب.

فنحن قد أردنا به أن نبين كيف وصل الإنسان إلى الإيمان بالله، ولم نرد أن نبين كيف وصل إلى مجرد الربوبية، لأنه آمن برب ما من الأرباب قبل عصور التاريخ.

وقال الأستاذ مظهر عن كلمة الوجود ينتقد قولنا (إننا نعطي الوجود الزم لوازمه إذا قلنا انه غير المعدوم) فعقب على ذلك قائلا: (ذلك قول غير مستقيم ذهنا لأن الوجود يقابله العدم ولا يقابله المعدوم).

نقول نعم. . . ولكننا إذا قلنا الشبيبة قصدنا بذلك الشبان؛ وإذا قلنا العلم قصدنا بذلك المعلومات، وإذا قلنا: هذا الوجود قصدنا بذلك هذه الموجودات.

ومن اعجب قول الأستاذ مظهر أن الوجود يتوقف على إحساس من يحسونه. فهل معنى ذلك أن الشيء لا يكون موجودا لذاته إلا إذا وجد من يحسه انه موجود!

وانتقد الأستاذ مظهر قولنا أن الوعي الكوني هو علة البحث عن العقيدة، ثم استشهد بكلام (اوغست كونت) حيث يقول: (إن الاعتقاد في إرادات أو ذوات عاقلة لم يكن إلا تصورا باطلا تخفي وراءه جهلنا بالأسباب الطبيعية. أما الآن وكل المتعلمين من أبناء المدينة الحديثة يعتقدون بان كل الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية بدلا من أن تعود إلى سبب طبيعي وانه من المستطاع تعليلها تعليلا مبناه العلم الطبيعي فلم يبق ثمت من فراغ يسده الاعتقاد بوجود الله، ولم يبق من سبب يسوقنا إلى الإيمان به).

ونلاحظ أولاً أن الأستاذ مظهر يترجم باوغست فلماذا ترجمها هكذا وليس في الفرنسية حرف الغين!

ثم نلاحظ أن الأستاذ قد اغفل الجانب المهم من الفلسفة الوضعية كلها وهو أن كونت لا ينفي وجود ما وراء الطبيعة ولا ينفي ضرورة الاعتقاد، ولكنه يقول أن العقل قاصر عن عقيدة إنسانية تؤمن بالإنسان وتنوط الثواب الأعظم بإسداء الخير إلى بني الإنسان.

وقد وجد بعد كونت فلاسفة يعلمون ما لم يكن يعلمه في زمانه، ولم يكفوا عن البحث فيما وراء الطبيعة ولم يذهبوا إلى ذلك السخف الذي ذهب إليه حين وقع في ذلك التناقض الذي لا تقبله العقول فضلاً عن وجدان الدين.

فأي تناقض اسخف من تناقض القائلين بأننا نترك الإيمان بغير المحدود لأنه غير محدود؟

أي كائن أحق بالإيمان من الكائن المطلق الكمال؟ فلماذا يكون سبب الإيمان الوحيد هو السبب المبطل لكل إيمان؟

فإذا كانت المعرفة العلمية قاصرة عن الإحاطة بغير المحدود على زعمه فيجب أن يكون هناك سبيل إلى الشعور به من غير المعرفة العلمية، وهو سبيل الإيمان.

والمسألة ليست من البساطة والسهولة بحيث يقول الأستاذ مظهر أن علم التطور (اثبت أن الإنسان نتيجة مترتبة على النواميس القديمة الأزلية وان حدوثه ليس أكثر من توليف جديد حدث في جوهر المادة).

فكيف اثبت علم التطور أن الإنسان توليفة جديدة فقط حدثت في عالم المادة؟

هل اثبت علم التطور حتى الآن علة الفرق بين اصغر الخلايا الحية وبين الذرة المادية؟

وإذا كان علم التطور لم يثبت ذلك فكيف يجزم بالرأي في حقيقة الإنسان كله وهو أعلى ما شهدنا ظواهر الحياة؟

وإذا كان علم التطور قد اثبت ذلك فلماذا لا يخرج لنا خلية حية تنشطر وتلتئم وتتوزع وتتجمع وتدخل في الرحم بدلا من خلية الإنسان أو خلية الحيوان فينشا منها مولود جديد على مثال أمه وأبيه؟

إن جهل همجي لهو اصدق شعورا بالعالم من الفيلسوف المصري الذي يحصر مسالة الحياة هذا الحصر المعيب. لأنه على الأقل يدرك للكون عظمة ورهبة تخفيان على الفيلسوف الذي يظنن أن الآزال والآباد كانت في انتظاره حتى يظهر في سنة 180 أو 1900 أو 2000 فيضع الكون كله في تلك العلبة الصغيرة ويغلقه هناك بالمفتاح الأخير.

على إننا ندع الخوض في هذا الغمار عرفنا كيف كان وقوف الأستاذ مظهر على الشاطئ بين الماء والرمال، ونرجع إلى المصطلحات والنقود فلا نزيد على ما تقدم إلا أن نرجو الأستاذ ومن ينقدون على غراره أن ينقدوا بعد أناة طويلة. فقد تبين مما تقدم أننا لم يفتنا شئ مما يقع في خواطرهم، ولكنهم هم قد يفوتهم شئ كثير مما توخينا. . .

عباس محمود العقاد