مجلة الرسالة/العدد 736/حجة تاريخية

مجلة الرسالة/العدد 736/حجة تاريخية

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 08 - 1947


2 - حجة تاريخية

للدكتور جواد علي

لم يتمكن الغزاة أو المهاجرون الجدد من احتلال كل فلسطين فظل ساحل (فلسطية) بأيدي الفلسطينيين الذين جاءوا إلى هذا المكان مكن الخارج. ويقال إن أصل هؤلاء من (جزيرة كريت) وقد نزلوا في أيام الكنعانيين. وظلت أماكن أخرى بأيدي أصحابها القدماء، وقد كان الكنعانيون على ما جاء في التوراة منقسمين إلى أحد عشر سبطاً أو أكثر وكان من أشهرهم (اليبوسيون، والعموريون، والجرجاشيون والجوبون والفرذيون والعرقيون والسينيون والإرواديون والصماديون والحماثيون.

وقد اشتركت كل هذه الأسباط في مقاومة العبرانيين واتحدت مع الإمارات الأخرى في طرد العبرانيين وفي الدفاع عن أرض فلسطين من هجمات الأمم القوية كالآشوريين والبابليين. وقد عثر في هيكل الكرنك في أرض الصعيد على جدول مثلث لمدن كنعان يتضمن ذكر 1118و119 مدينة يظن أنها المدن التي افتتحها (تحتمس الثالث) قبل أيام يشوع أي قبل مجيء الإسرائيليين.

كان الإسرائيليون على جانب عظيم من البداوة عند دخولهم (أرض كنعان) وكانوا في درجة واطئة من الحضارة والثقافة بالنسبة إلى الكنعانيين ولذلك تأثروا عند مجيئهم إلى هذه الأرض بالثقافة الكنعانية ولا سيما أولئك الذين قيل لهم (الإسرائيليون) وهم الذين سكنوا في الشمال واتصلوا في بالفينيقيين وتأثروا بهم وعبدوا الإله (بعل) بدلاً من إلههم (يهود) إله التوحيد. أما أولئك الذي سكنوا المنطقة التي عرفت فيما بعد باسم (مملكة يهودا) فإنهم ظلوا على فطرتهم الأولى وعلى جانب من البداوة وقد كان هذا الاختلاف الثقافي من عوامل الانقسام الذي حدث في أيام الملك (رحبمام).

قيل لليهود (العبرانيون) وفي اللاتينية وقد أخذت هذه الكلمة من (عبراية) الآرامية. وهذه من (عبرى). أو (عبريم) الواردة في التوراة والتي كانت تطلق بصورة عامة على (بني إسرائيل) ' أي (أبناء إسرائيل).

وقد أطلق الكنعانيون كلمة (العبرانيين) على المهاجرين الذين كانوا يدعون أنهم من صلب (إبراهيم) (إبرام) لتكون لهم علامة فارقة ولتدل على إنهم من الشعوب الغريبة الطارئ على الكنعانيين.

أما النظرية اليهودية فتقول أنهم إنما سموا (عبرانيين) لعبورهم نهراً أو لقطع حد (أي عبورهم من جهة إلى جهة أخرى. . . عبرها - ناهار) - أي (عبور النهر إلى الجهة الثانية منه) ويظن إن المقصود من (النهر) نهر الفرات الذي عبره عند (حاران)

ويقال للأرض التي خرج منها إبراهيم وناحور (آرام النهرين) - ويرى العالم (سايس) أن معنى الكلمة (تجار) لأنهم كانوا يعبرون نهر الفرات لأغراض تجارية).

ويرى بعض العلماء أن كلمة (عبرانيين) من (عابر) وهو حفيد (سام بن نوح). ولعابر على ما جاء في جدول أنساب التوراة أولاد ولهؤلاء أولاد أيضاً وقد تكونت من ذريتهم قبائل وعشائر. ويرى بعض علماء التوراة أن هذه الأسماء هي أسماء مواضع جغرافية تقع فيها بين النهرين وأن الموطن الأصلي التي انحدرت منه الشعوب السامية هو منطقة (أرآرات) انحدرت منه إلى شمال العراق ثم إلى الجنوب فسائر الأنحاء.

على كل فقد رأيت أن موطن العبرانيين على ما جاء في التوراة وهو كتاب اليهود المقدس كان خارج فلسطين وأن (إبراهيم) الخليل وهو الجد الأعلى للعبرانيين لم يكن من أهل فلسطين بل كان من العراق على ما جاء في التوراة ثم انتقل إلى أرض كنعان فسكن بين الكنعانيين حيث تكونت له ذرية. ثم استرق المصريون الإسرائيليين إلى أن تمكنوا من الخروج من مصر بزعامة (عيسو) حيث اتجهوا نحو الشرق إلى أراضي كنعان.

وتفند أسفار التوراة دعوى اليهود في أرض كنعان أو (أرض فلسطين) كما دعيت فيما بعد. فسكانها القدماء على ما جاء في التوراة هم الكنعانيون وذلك قبل مجيء العبرانيين بآلاف السنين. واليهود حسب رواية اليهود هم مهاجرون جاءوا إلى أرض فلسطين وعاشوا مدة عيشة (عشائرية) إذ كان يحكم كل عشيرة منهم (قاض) هو شيخ العشيرة وحاكمها؛ ولذلك عرف الدور الأول من أدوار اليهود في فلسطين باسم (دور القضاة).

وأما الذين جاءوا من مصر وهم من نسل (يعقوب) فإنهم كانوا قد استعبدوا في أيام الفراعنة بعد أن غادر (يعقوب) أرض فلسطين ونزح إلى مصر حيث تكاثرت ذريته هناك وتولوا مراكز سياسية ولم يفكروا في العودة إلا بعد أن ساءت حالتهم هناك وبعد أنم استرقهم الفراعنة؛ عندئذ فكروا في الهجرة إلى مكان جديد فلم يجدوا محلاً آمناً غير فلسطين وقد جاءوا بعدد قليل وعلى دفعات فلم يتمكنوا من الدخول إليها عنوة ولم يتمكنوا من قهر أهل أرض كنعان والتغلب على الكنعانيون ويظهر ذلك بكل وضوح من أقوال التوراة.

ووردت في التوراة بعض الشهادات التي تفند مزاعم الصهيونية تماماً فما ورد فيه إن الشعب الذي يسكن في هذه الأرض كان على جانب عظيم من الحضارة وأن العبرانيين كانوا على العكس على جانب كبير من البداوة. (ومتى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي خلف لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيك إلى مدن عظيمة جيدة لم تبنها وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها، وآبار محفورة لم تحفرها، وكروم وزيتون لم تغرسها؛ وأكلت وشبعت، فاحترس لئلا تنسى الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية).

فهذه شهادة عبرانية واردة في أقدس واقدم كتاب عند العبرانيين وهو الكتاب الذي استشهد به اليهود في إثبات حقهم في فلسطين؛ هي شهادة تتكلم بكل وضوح عن بداوة العبرانيين وانحطاطهم بالنسبة إلى (الكنعانيين) سكان فلسطين القدامى.

وهناك شهادة أخرى تلفت الأنظار حقاً وهي تشرح لنا حالة اليهود عند محاولتهم الدخول إلى فلسطين ودرجة انحطاطهم وحالتهم البدائية وقلة عددهم كذلك ومقدار تفوق الشعوب الأصلية على اليهود. فها هو إله إسرائيل يخاطب (موسى) فيقول (أرسل هيبتي أمامك وأزعج جميع الشعوب الذين تأتي عليهم وأعطيك جميع أعدائك مدبرين، وأرسل أمامك الزنابير فتطرد الحوبين والكنعانيين والحثيين من أمامك، لا أطردهم في سنة واحدة لئلا تصير الأرض خربة فتكثر عليك وحوش البرية، قليلاً قليلاً أطردهم من أمامك إلى أن تثور وتملك الأرض. فهذه شهادة تشرح حالة اليهود عند مجيئهم إلى فلسطين وقلة عددهم وانحطاط مستواهم الثقافي والمدني بالنسبة إلى شعوب فلسطين وهي شهادة لا تصلح أن تكون حجة في صالح اليهود.

لم يتمكن اليهود من تثبيت أقدامهم في المناطق التي استولوا عليها من فلسطين إلا بعد مدة طويلة ولم يكن ذلك إلا بعد اتخاذ طرق مختلفة منها التزاوج ومناه التبشير بالديانة اليهودية ولم يتمكنوا من تشكيل حكومة بالمعنى الحديث المفهوم من كلمة (دولة) إلا لمدة قصيرة جداً وتحت عوامل ضغط شديدة؛ ولم تعمر هذه الدولة طويلاً بل عاشت منذ عهد (شاوؤل) في سنة 1020 قبل المسيح وهو أول ملك تولى الملك عند العبرانيين وانتهت مع حكم سليمان حوالي سنة 930 قبل المسيح أي أنها عاشت فقط بجهود شاوؤل وداود وسليمان. فلما مات سليمان وانتقل الملك إلى ابنه (رحبمام) وكان ضعيفاً انقسمت المملكة إلى قسمين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل.

هذا هو عمر الدولة العبرانية الموحدة التي يتغنى بها الصهيونيون. ومما يستحق الالتفات كذلك أن ملوك هذه الدولة لم يكونوا ليتمكنوا من تكوين دولتهم هذه لولا المساعدات الخارجية التي كانت تصل إليهم من الأمراء الفلسطينيين عن طريق التقرب والصداقة. فهذا (داود) وكان من قواد الملك شاوؤل ينتهز الفرصة فيتحالف مع ملوك الفلسطينيين للإيقاع بالملك شاوؤل ليتولى بنفسه الحكم، فلما تولى الحكم لاقى مصاعب كبيرة في سبيل التوفيق بين (إسرائيل) ويهوذا، لما كان بين الطرفين من تباعد بسبب الاختلاف في درجة الثقافة والحالة الاجتماعية؛ ولم يتمكن داود من تعمير قصره في القدس إلا بمساعدة الفينيقيين والفلسطينيين بل حتى والعرب الذين كانوا على اتصال باليهود كما يفهم ذلك من التوراة وكذلك في أيام سليمان.

وإذا استعرضنا تاريخ المملكتين الصغيرتين اللتين تكونتا فيما بعد نجد أن العبرانيين لم تكن لديهم فكرة (حكومية) بل كانت عندها فكرة (دينية) هي الغالبة على كل شيء وكانت هي من عوامل انقسام العبرانيين كذلك. ولذلك نجد قتلاً واغتيالاً وثورات على الملوك وطلب نجدات من الأمراء الوطنيين ومن الحكومات التي كانت في العراق أو في سوريا أو في مصر للاستعانة بها على محاربة ملوكهم. وكان رجال الدين في طليعة الثائرين على الحكام عند ظهور أقل شيء منهم يدل على أنهم يريدون الانتقاص من نفوذهم أو ميلاً إلى التجدد أو الأخذ بأساليب الثقافة التي كانت عند الكنعانيين أو الفينيقيين، حتى آل ذلك إلى سقوط مملكة إسرائيل وعاصمتها (السامرة) سنة 722 ثم سقوط القدس على أيدي البابليين سنة 586 قبل الميلاد.

جواد علي