مجلة الرسالة/العدد 736/على ثلوج (حزرين)

مجلة الرسالة/العدد 736/على ثلوج (حزرين)

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 08 - 1947



للأستاذ علي الطنطاوي

- 3 -

ولو استجاب لهما الكون فثبت الفلك، ووقف الزمان، لكانا أسعد سعيدين عرفتهما الأرض، ولكن هيهات. . . فالفلك دوار، والزمان سيار، والأيام لا تستقر على حال، ورب يوم يحمل محض السعادة، يتبعه يوم يحمل محض الشقاء، ورب فرح بالولادة والموت مترقب على بابه، ومسرور بالوصل والهجر متربص على أعتابه، ولو كشف للناس الغطاء لضحك باك، وبكى ضاحك، واستحالت مآتم أفراحاً وأفراح مآتم.

لقد غابا عن الدنيا في عناق لذ تهون معه الدنيا وما عليها، وتدنو به الآمال حتى لا مأمل بعده إلا أن يدوم، ولكن الدنيا لا يدوم فيها شيء.

لقد وقف هذا الطفل الجبار، الذي ولد بلا حمل، ونما بلا زمن، يعبث بهما، هذا الطفل الذي اسمه الحب. . . فلما شبع من العبث، نام، وترك الفتاة لشياطين اللهو والترف والغنى تلعب بها، كما تلعب بكل فتاة في الدنيا، نام في صدرها الحب أو شبع.

ولقد كانت تستطيع أن تجمع الحب والغنى، والعاطفة والمال، لولا أن هذا الطفل كان (على جبروته) أعمى لا يبصر، أمسك بيد ليلي فانقادت له وهي لا تشعر، ثم جرها وهو يتلمس طريقه في الظلام حتى إذا وقعت يده على أول رجل لقيه، عقد قلبها بقلبه، عقداً شيطانياً بلا شرع ولا عقل، وقال لها: هذا هو الحبيب.

وكان أول رجل لقيه هاني، هاني الذي لا يستطيع أن يصعد إليها ليعقد له عليها عقد الشريعة والعرف، ولا تقدر أن تنزل هي إليه، ولولا أن سيدي الشيخ رحمه الله أشفق عليه فحمله معه، ما علقت به ولا علق بها، ولا كان هذا القيد الذي ألقاهما معاً في جحيم الدنيا.

أفرأيت كيف يعلق القدر سعادة الناس وشقاءهم بأوعى الأسباب؟.

حكمة إلهية تخفى عن إفهام البشر!

هذا هو الحب: ثوب براق تحمله المرأة وتمشي حتى تلقى رجلاً، فتخلعه عليه فتراه به أجمل الناس، وتحسب أنه هو الذي كانت تبصر صورته من فرج الأحلام، وتراها من ثنايا الأماني.

مصباح في يد الرجل، يوجهه إلى أول امرأة يلقاها، فيراها مشرقة الوجه بين نساء لا تشرق بالنور وجوههن، فيحسبها خلقت من النور وخلقن من طين، فلا يطلب غيرها، ولا يهيم بسواها، لا يدري أنه هو الذي أضاء محيّاها بمصباح حبه.

خدعة ضخمة من خدع الحياة، خفيت عن المحبين كلهم من عهد آدم إلى هذا اليوم.

هذه هي حقيقة الحب، فلا تسمع ما يهذي به المحبون!

لقد قبضت ليلى على الحاضر، وهي عند الصخرة، واطمأنت عليه ففكرت في المستقبل، فقالت لهاني:

- ماذا تنتظر يا هاني! اذهب فاضرب في الأرض وعد إليّ غنياً قوياً، فاحملني معك إلى حيث تشاء.

- قال: كيف أفارقك يا ليلى؟ كيف أعيش بعيداً عنك وأنت حياتي؟ ولكن تعال نذهب معاً.

ولو سمعت هذه الكلمة قبل لحظات، قبل أن يشبع هذا (الطفل الجبار) وينام، لوثب قلبها إلى لسانها ليقول نعم، ولانطلقت معه إلى البحار لتخوضها، والجبال لتقطعها، ولكنها سمعتها والحب شبعان نائم، فقالت له:

وكيف نعيش يا هاني؟ ومن أين ننفق؟ أنام على بلاط الشارع؟.

وتصور هذا المصير الذي لا يرضاه لها، فذابت كبده رقة عليها، وقال لها:

- إذن أبقى معك، وأحتمل كل شيء من أجلك.

وسكتا، وتكلم في أذنها شيطان اللهو والترف، وغمز فؤادها فنظرت تحتها، فرأت أضواء تلمع في أوائل الليل تبدو من (عاليه) من بيت فارس أفندي طنوس الذي عاد إليها من أمريكا وفي جيبه نقد جديد لم يألفه أهلوها، وعلى جسده ثياب لم يلبسوها، وفي رأسه أفكار لم يعرفوها، ولمحت بريقاً وحركة فعلمت أنها حفلة من حفلاته الراقصة التي أرقصت أحاديثها صبايا الجبل وشبابه، وأغضبت مشايخه وكهوله، فاستطارت قلبها الرغبة في رؤيتها، وقالت:

- هذا ما أبتغي، هذا ما أريد، فتعال، تعال نرها من قريب وسحبته من يده وانطلقت به، يقفزان كغزالين روعهما الصياد، لا يشعران بقسوة الحجر، ولا بصعوبة المنحدر، ولا يبعد الطريق، حتى وصلا (عاليه) وكانت دار فارس أفندي التي بناها على الطراز الأمريكي أول دار فيها. فوقفا على صخرة أشرفا منها على الدار، وطفقا ينظران.

رأيا الأبهاء قد حفلت بنساء يلبسن الثياب الكواشف من الحرير، ورجال يلبسون السراويل الضيقة من (الجوخ)، وهم يرقصون متخاصرين حيناً متباعدين حيناً، ينقلون الخطى على رنات العيدان، وسجحات المزامير، ورأت الرجال يأخذون بأطراف أنامل الفتيات وهم يحنون لهن رؤوسهم، ويبدون إعجابهم فتخيلت نفسها في هذا النعيم، وتصورت هؤلاء الرجال ذوي السراويل الأمريكية الضيقة ينحنون لها، وقابلت في أعماق سرها بينهم وبين هاني، ثم طردت هذا الخاطر، وأبعدته عن حسها وحسبت أنها تخلصت منه، لم تدر أن (السوسة) بدأت تنخر جذع السنديانة الضخم!

- قالت: هلم ندخل.

- قال: ومن أين ندخل يا ليلى؟

- قالت: أريد أن ندخل. أريد أن ندخل

وألحت إلحاح الولد المدلل، فأطاعها، وهل يخالف العاشق معشوقه؟ إنه لا يستحق اسم العاشق حتى يرى كل نزوة للمعشوق حكمة بالغة، وكل رغبة فرضاً لازباً، وكل نقيصة كمالاً ما بعده كمال.

وتسلق الجدار، وهبط بها، فلم تكد تستقر على أرض الحديقة، حتى أحس بها كلبان كأنهما ذئبان، فوثبا إليها فأنشبا فيها أنياباً من حديد، ولم يستطع هاني دفعهما عنها، وأسرع القوم إلى الصوت، فرأوا المشهد، رأوا فتاة ناضرة الصبا، نقية الثياب، وفتى قذراً، فحملوها مكرمين، وأمروا الخدم بالقبض على (اللص)، فأمسكوا به ونزلوا عليه ضرباً حتى هدوه. . .

ثم جاؤوا به إلى البهو، وكانت على كرسي والخادمات يعالجن جروح قدميها، فاقترب منها فسألها أن تعود معه، فاعتذرت بعجزها، وزجره القوم، فقام بينهم فاستنزل اللعنة عليهم، وأوعدهم أنه سيرجع فيهدم هذه الدار على رؤوسهم، وبصق على الأرض وذهب. وبقيت هي في الدار التي كانت تحن إليها.

لا، لا تلمها إن فكرت في الترف، ومدت عينيها إلى متع المال، وهي عند الصخرة. محراب الحب الأقدس، وجرت هذا البلاء على حبيبها، فإنه لابد للحبيبين من مشغلة فإن لم يجدها، وظلا متعانقين العمر كله والحب بينهما، فإنه يختنق.

وكيف يعيش الحبيبان إن اقتصرا على حديث الحب؟ وهل في لغة الحب إلا: (أحبك) و (أحبك)؟ كررها عشرين مرة تتم. . . وهل في دنيا الحب غلا العناق والقبل؟ فهل تمضي الحياة تقبل وتعانق؟ ألا تمل؟ ألا تكل؟ ألا تجزع، ألا تجوع؟ ألا تظمأ؟ إن حياة كهذه خير منها السجن، وأحلى منها الموت، وأولى بالعاشق أن يفر منها ولو إلى سقر.

ذاقت ليلى في هذه الدار لذة الغنى، وعرفت متعة الترف، واستمرأت الرقص والغناء، وتخطرت في الثياب الغاليات، وأصغت إلى حفيف الحرير من أردانها، وإلى منمقات الألفاظ من القوم العلية من حولها، فتملك شيطان الترف روحها فأفسدها كما تفسد جراثيم السل أجساد الأصحاء، وشغلها بفقاقيع البحر من جواهره، وأبداها لها تلمع في أشعة الشمس فحسبتها أكرم من الجواهر وأغلى، وزاغت من بريقها عيناها فلم تعد ترى وجه الحب، ولم تعد تذكر الحبيب، ولبثت شهراً كاملاً تتقلب في الحرير، وتمشي على الذهب وهو ينام على الجمر، ويخطو على الشوك، حتى تم شفاؤها ولم يبق بد من عودتها إلى المنزل، فحملتها العربة الفخمة، تجرها الجياد المطهمة حتى بلغت بها الباب، فنزلت منها، وأقبلت على دنياها التي لم تكن تعرف غيرها ولا تطمح إلى سواها، فرأتها ضيقة مقفرة، وأحست بأن قلبها قد بقى في تلك الدار، فتمسكت بأسعد (ابن فارس أفندي) الشاب المهذب الأنيق الذي رافقها إلى منزلها، تتذكر به الشهر الذي مضى كأنه رؤيا منام.

وإنها لفي هذا الشعور، وإذا بهاني قد وقف أمامها بثيابه الوسخة ثياب الإسطبل، فابتعدت عنه، وضمت إليها ذيل ثوبها الأبيض، ولم تكن تعرفه من قبل إلا في هذه الثياب، ولكن الحب كان (صابوناً) يزيل اوضارها، وطيباً يذهب ريحها، وصبغة زاهية تفيض عليها، فأين الحب الآن؟ إنه نائم لم يفق بعد في قلبها، لذلك أنكرت هذه الثياب، وفرت منها، وأبدت الترفع والاستعلاء، ولم تذكر إلا إنها ابنة صاحب القصر، وأنه صبي لقيط سائس خيول يقابل أدبارها، ويرفع أقذارها، وتألمت لدخوله عليها أمام أسعد، ورأت في ذلك صغاراً لها في عينه وخاف أن يظن أنها ليست من طبقة الأكابر المتمدنين. . .

غضبت لعدوان هاني على كرامتها، وتخطيه قدره إلى محاذاتها، ولم ير هو فيها إلا الحبيبة قد لبست هذه الثياب التي تكشف مفاتنها التي يعبدها، وأبدت أعضائها التي يقدسها، لغريب عنها، فغضب للحشمة الجبلية أن يذهب بها هذا التكشف، وللحب أن يهينه هذا العبث، وقال لها:

- ما هذا؟

- قالت: وأنت من أذن لك أن تدخل عليّ؟

- قال: أنا. . . من أذن لي. . . يا ليلى؟

- قالت: لا أسمح لك أن تناديني باسمي لقد عدوت حدّك.

ودخلت الخادم فقالت لهاني:

- أمسك عربة أسعد أفندي.

- فصاح بها: ليمسكها هو.

وخرج مغضباً.

وقال أسعد: أنا لا أفهم ما صبرك على هذا الخادم القذر.

الخادم القذر؟ لقد كانت هذه الكلمة صرخة عالية أيقظت الحب النائم، فقالت له:

- أنا لا أسمح لك، إنه صديقي، لا أسمح لك، أخرج من داري، أخرج.

وتركته حيران مشدوهاً، وانطلقت إلى (صخرة الملتقى).

(البقية في العدد القادم)

علي الطنطاوي