مجلة الرسالة/العدد 737/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 737/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 08 - 1947



الدكتور عبد الوهاب عزام بك:

ذلك الرجل جمّله الله بالتواضع، وكمّله بالعلم، وزينه بكل فضيلة، وماذا ترى في رجل له في الناس ألف صديق وليس له فيهم عدو واحد؟!

شاعر عربي ينفح شعره بأنفاس الإنسانية، وأديب كاتب تتجلى في نثره نفحات العبقرية، وعالم باحث لا يزدهيه الفخر بغزير علمه، لا يدخله الغرور بجزيل فضله، ولكنه دائماً موطأ الجانب، يلقي إليك بما عنده وكأنه يأخذ منك ويتلقى عنك، ثم هو بعد ذلك يتوجه بالشكر إليك. . .

ذلك هو عبد الوهاب عزام الذي وقع اختيار أولي الأمر عليه أن يكون وزيراً مفوضاً لمصر في المملكة العربية السعودية، وإنه لاختيار موفق كسبت به تلك (الوزارة)، ولن يخسر به الأدب والعلم شيئاً إن شاء الله؛ ذلك لأن الرجل أديب بطبعه، وإنسان متفتح الإنسانية، فصلته بالأدب هي صلة النفس، فمحال أن تنفك أو تضعف بحال من الأحوال.

إنني لن أكتب عن عبد الوهاب عزام اليزم كما أعرفه، وكني أقتصد ذلك لفرصة قادمة، وأكتفي اليوم بهذه التحية القصيرة، وإنها لتحية الأدب والفضل والإنسانية في شخصيته النبيلة. . .

هذه المؤتمرات:

في 23 أغسطس الحالي يعقد في سورية (مؤتمر الآثار بالبلاد العربية) الذي قررت عقده جامعة الدول العربية. وقد رشحت وزارة المعارف ثلاثة من أساتذتها لتمثيلها في هذا المؤتمر. وفي 3 سبتمبر المقبل يعقد المؤتمر الثقافي الأول الذي قررت جامعة الدول العربية أيضاً عقده في لبنان، وقد اختارت الوزارة ستة من كبار أساتذتها لحضور هذا المؤتمر

ولعل القراء يذكرون أني عرضت لهذه المؤتمرات التي تدعو إليها الجامعة العربية من قبل، وأشدت بما تؤدي إليه من الفوائد والآثار الطيبة، ولكن الذي يهمني أن أشير إليه هنا هو أن الجامعة تجري في التدبير لعقد هذه المؤتمرات على نهج الحكومات والوزارات التي تأخذ نفسها بالأوضاع الرسمية، وكنا نحسب أن الجامعة ستجعل من عقد مؤتمراته واجتماعاتها مجالاً يتلاقى فيه رجالات العرب ومفكروهم وأساتذتهم لا أن تكون مجالاً لموظفي الحكومات فحسب، وإلا فإنها ستكون عديمة الجدوى قليلة الفائدة. . .

لقد كان الواجب على الجامعة أن تترك الحكومات وموظفيها جانباً، وأن تعتمد في مؤتمراتها على رجال الفكر الأحرار فتتيح لهم الفرصة للبحث والمناقشة وتبادل الرأي، فإن هذا هو الأليق بمهمة الجامعة وغرضها في توثيق الروابط الثقافية، أما أن تجعل مؤتمراتها قاصرة على موظفي الحكومات الذين تعنيهم الرحلة للنزهة أكثر من الرحلة للعلم فإن ذلك مما يذهب بقيمة هذه المؤتمرات، وسيذهب أولئك الموظفون إلى تلك المؤتمرات، ثم يعودون ليضعوا تقريراً بما رأوا وشاهدوا، ثم تمضي الأيام وتمضي ولن يرى ذلك التقرير ضوء النهار. . .

وكم ذا بمصر من المضحكات!

في القرن الرابع للهجرة جاء المتنبي إلى مصر مادحاً لكافور الإخشيدي، مؤملاً أن يجسد مقاماً طيباً في رحاب المصريين، ولكنه سرعان ما ضاق بهذا المقام فهرب ناجياً بنفسه، وقد أصلى كافوراً والمصريين الهجاء المقذع المرير. . .

ويقول مؤرخو الأدب: إن المتنبي كان يطلب ولاية من كافور، فلما أباها عليه لجأ إلى هذا الصنيع الذي صنع، والواقع الذي يدل عليه شعر الرجل غير هذا، إنه ضاق بمصر وبالمصريين، لأنه رأى الأوضاع فيهم مقلوبة: رأى أعجمياً يدرس أنساب العرب فقال:

وكم ذا بمصر من المضحكات (م) ... ولكنه ضحك كالبكا

بها نبطي من أهل السواد ... يدرس أنساب أهل الفلا

ورأى عبداً خصياً ناقص الرجولة يحكم رجالاً من المصريين اكتملت لهم كل صفات الرجولة فقال:

لا شيء أقبح من فحل له. . . ... تقوده أمَة ليس لها رحم

أغاية الدين أن تحفوا شواربكم ... يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!

وقد كان في إقليمنا واعظ يعظ الفلاحين فيقول: أيها الناس إياكم وتعاطي الحشيش الأخضر الذي تأكله البهائم، وإنما أقصد الحشيش الذي مثل هذا. . . ثم يخرج من لفائف عمامته قطعة من ذلك المخدر القاتل فيطلعهم عليها. . .

ورد كل هذا على ذهني وأنا أقرأ كلمة للأستاذ أحمد الصاوي محمد في (أخبار اليوم) حمل فيها على معالي وزير المواصلات لأنه يشجع جماعة من الشبان الأدباء على إظهار مواهبهم، ويسهل لهم سبيل الظهور بآثارهم، والأستاذ الصاوي يعلم علم اليقين أن التشجيع في الأدب حافز الظهور والنهوض، بل حافز الخلق والإيجاد، وأن أرباب الأقلام يطالبون الدولة بأداء هذا الحق ويقدرونه واجباً من واجباتها، وأن الأمر في هذا كما يقول أبو حيان التوحيدي: (ولابد من فتى يعين على الدهر ويجمّ راحلة الأمل)! بل إن الناس جميعاً يعرفون أنه لولا تشجيع سيدة بارة كريمة لما كان هذا القلم الذي ينكر اليوم على وزير ما يبذله في تشجيع شبان أدباء. . .

أنا لا أريد أن أدافع عن معالي الوزير، فللوزير قلم مبين، ورأي مكين، ولا أريد أن أدافع عن (أدباء العروبة)، فكل منهم قادر على أن يدافع عن نفسه وعن جماعته، ولكن الذي يهمني أن يقحم الأستاذ الصاوي في هذه المجلة بموظف صغير - على حد تعبيره - هو الأستاذ محمود السيد شعبان الذي يشرف على تحرير مجلة سكة الحديد لأنه ينشر فيها مقطوعات شعرية في الغزل ووصف المرأة. . .

وليس في هذا موضع للمؤاخذة من الناحية الاجتماعية، فإن جميع الصحف والمجلات تنشر شعر الغزل والتشبيب، والإذاعة الحكومية تذيع على الناس صباح مساء فنوناً من المغازلات والمعابثات. . .

والفن الصحفي يقضي بأن تحلي المجلة العلمية بهذه الطرائف الفنية لتخفف ما فيها من نقل المسائل العلمية وتلطف ما بها من جفاف النظريات!

ولكن العجيب بعد هذا كله أن يكون الأستاذ الصاوي هو الذي ينكر هذا ويندد به وأكثر الموضوعات التي يطرقها هو الحديث عن المرأة في شتى صورها ومغامراتها

دع إنكار هذا لغيرك يا أخي، دعه لسماحة الشيخ الصاوي شيخ الطرق الصوفية، أما أن تتصدى أنت لذلك، فإنه يكون منطق الأعجمي الذي يدرس أنساب العرب، وواعظ قريتنا الذي ينهى عن الحشيش!

الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب:

كتب الدكتور زكي مبارك في جريدة البلاغ مقالاً أشار فيه إلى الموازنة الأدبية التي عقدها الحريري في إحدى مقاماته بين الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب، وقال الدكتور: إن الفكرة في هذه الموازنة جديدة عند الحريري فما سبقه إليها باحث من المسلمين.

قلت هذا حكم يحتاج إلى التحرير والتصحيح، فإن الفكرة في الموازنة بين الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب قديمة في الأدب العربي، وتسبق الحريري بأجيال وأزمان، فقد كان الكتاب الحاسبون يعرفون بكتاب الخراج، وقد أشار عبد الحميد الكاتب في رسالته التي توجه بها إلى الكتاب إلى هذا المعنى إذ يقول: (ولا تضيعوا النظر في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج). والواقع أن الحريري وجد مادة متوفرة لتلك المناظرة التي عقدها، حتى الأوصاف التي خلعها على الكاتب المنشئ والأخرى التي وصف بها الكاتب الحاسب قد أخذها كلها عن الكتاب السابقين وليس له فيها من فضل إلا المقابلة والمزاوجة وإيثار السجع في التعبير

ولقد كان رجال الأدب والعلم ينظرون إلى الكتاب الحاسبين نظرة إغضاء على العموم، وكانوا يعتبرون علم الحساب من العلوم التي لا تحتاج إلى موهبة خاصة أو فطرة سمحة، وكانوا يسمونه علم الصبية، ولا يحسون على الأخذ منه إلا بقدر ما يعين على معرفة التقسيم في علم الفرائض. وقد ظلت آثار هذا الرأي بادية بين علماء الأزهر إلى عهد قريب؛ وكل ما أريد أن أشير إليه هو أن الحريري لم يكن المبتدع لهذه الفكرة ولا أول من جال في مجالها كما ذكر الدكتور. . .

(الجاحظ)