مجلة الرسالة/العدد 739/القصص

مجلة الرسالة/العدد 739/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 09 - 1947



قصة إسلامية:

شيخ الأندلس

منقولة عن الإنجليزية

بقلم الأديب وهبي إسماعيل حقي

(تتمة)

ثم إن الرجل الغريب دلف إلى الحديقة بعد أن طرق الباب بيد مرتعشة طرقاً مضطرباً، ولم يتمهل حتى يؤذن له، وأسرع إلى حيث الشيخ يتوضأ لصلاة المغرب - وقد ارتسمت على صفحة وجهه دلائل الخوف وعلامات الفزع - فركع بين يديه، وظل الكلام يتعثر في حلقه لحظة، ثم استطاع أخيراً أن يتمتم بهذه الكلمات المتقطعة المضطربة:

- أيها الشيخ الرحيم. . . إني غـ. . . غريب عن هذه الأوطان. . . وأنا الآن. . . بعيد عن أهلي وعشيرتي. . . و. . و. . . فقال له الشيخ:

- اعتدل في جلستك يا بني! وتريث قليلاً حتى تهدأ أعصابك ويعود إليك اطمئنانك، فأنت الآن في بيتي، وسنحول بينك وبين كل مكروه، فلا تخف، وقل ما تريد. . .

- ارحمني بربك! أسبل عليّ ستراً من حمايتك بمكانة محمد عندك، إني برئ فمد يدك لمعونتي. . . لجأت إليك، فكن بي رحيماً. . .

هزت كلمات الرجل أوتار قلب الشيخ إدريس، وتأثر بالغ الأثر لهذا الغريب الذي يذوب قلبه فرقاً وقال له:

- إنك آمن الآن يا بني! فاطمئن ولا تخف، فإن المسلم، لا يغلق بابه في وجه من به استجار، وهذا ملجأ حصين، ستقر به عينك، وسيهدأ فيه بالك، ولكن هل لديك ما يمنع أن تطلعني على ما حدث لك، ولم ينتظر إجابته بل التفت إلى خادمه الذي لم يزل واقفاً وبيده إبريق الماء وقال له:

- هات له شراباً رطيباً، فهو في حاجة إلى ما يهدئ أعصابه، فذهب الخادم، وعاد وناو الغريب الشراب فروى ظمأه واستطاع بعدئذ أن يهمس هذه الكلمات:

- أعرني سمعك أيها الشيخ الكريم. . . وارحم غربتي وضعفي، فليس لي في هذا البلد مساعد ولا معين. . . فكن مساعدي ومعيني. . . منذ قليل كنت في طريق المدينة فقابلني جماعة من شباب المسلمين، وكنت وحيداً، فأخذوا يسخرون مني ويستهزئون بي، فلما لم أرد عليهم قذفوني بسيل من الشتائم مقذع، فقطع الشيخ حديثه بقوله:

- ترى من كان هؤلاء الأشقياء؟ فإن الإسلام يعلمنا كيف نحافظ على شعور الناس، ويحثنا أن نعاملهم بالحسنى، ولا نعرض لهم بأذى. فقال الرجل:

- هذا ما حدث يا سيدي، ولا أدري له تعليلاً. . . فلما استنكرت فعلهم، ورجوتهم أن يكفوا عن هذا السباب استشاطوا غضباً، وازدادوا في إيلامي، وبلغ ببعضهم أنه أخرج مدية وهم أن يطعنني بها، فدفعني حب البقاء أن أدفع الأذى عن نفسي، فقذفت بسهمي في ثورة غضبي وشدة هياجي فطاش وأصاب من أحدهم مقتلاً، وها أنتذا قد علمت أنني لم أبيت لأحد منهم سوءاً، ولم أقصد أحداً بضرر، ولم يكن في حسابي أن الشهم سيصيب منهم مقتلاً. . . وقد لذت بالفرار لأنجو بنفسي، ولأنقذ حياتي من خطأ لم أتعمده، فرمت بي المقادير إليك، ولعل من سعد طالعي أني وفقت لمن ينصر المظلوم ويأخذ بيد الضعيف

ظن الشيخ أن الذي سمعه من الرجل هو الواقع، فتحركت في نفسه عوامل الشفقة، وثارت في قلبه نوازع الرحمة، ولم يخطر له ببال أن الدم الذي سفكه ذلك الخائن إنما هو دم ابنه البرئ، فأخذ يلاطف الرجل ويتبسط معه في الحديث، ليذهب ما ألم بقلبه من فزع ورعب، وما تملكه من اضطراب وخوف، وكان مما قاله له:

- إنك وإن لم تكن مسلماً؛ فقد أوصانا نبينا بأن نعامل مخالفينا في الدين بالحسنى، وأن نرعى الأخوة في الإنسانية حق رعايتها، فكن على يقين أنك بلغت مأمناً، وأنه بعون الله لا تستطيع يد أن تمتد إليك بسوء واعلم أنك الآن في حماية قوية، فقد عاهدتك عهداً غير منكوث، أني لن أسلمك أبداً ولو حملت في سبيل ذلك السلاح. . . ولكنه رأى في وجه الرجل أمارات الشك، وأن به ميلاً إلى عدم التصديق فقال له في رنة التأكيد:

- كن واثقاً بي فالمسلم إذا عاهد وفّى، وإذا أؤتمن أدى، وإذا قال صدق، فانحنى العغريب حتى بلغ رِجْل الشيخ فقبل أطراف أصابعها، فجذبها الشيخ بقوة وقال له: - إنني يا بني لم أفعل شيئاً أستحق عليه هذا منك، ولم أزد على أني أجرت من استجار بي، وأي مسلم يقعد عن ذلك؟ ثم التفت إلى خادمه وقال له:

- اصحبه إلى حجرة النوم التي أعدت للأضياف، ووفر له وسائل الراحة، فإنه شديد الحاجة إليها، ثم ابتسم للرجل وقال له:

- في رعاية الله وحفظه، رافقتك السلامة، وصحبك الهدوء والاطمئنان.

أخذ المدعوون يفدون إلى بيت إدريس زرافات ووحداناً تعلو وجوههم نضرة السرور، وترتسم على شفاههم بسمة الفرح، وكانت الأنوار تتلآلآ ساطعة في أبهاء البيت وطرقات الحديقة وامتلأ البيت، واكتظت الحديقة بالحاضرين، وجلسوا جماعات جماعات، يتناول حديثهم شتى الأمور في الأدب والتطورات السياسية، والمعارك التي يخوض جيش المسلمين غمارها لإخضاع الثائرين المتمردين، والملح الضاحكة، والطرف المستملحة، والكل ينتظر عودة إسحاق بفارغ الصبر. وكان الشيخ إدريس أشد الحاضرين قلقاً، وأكثرهم لهفة؛ فقد بدأ يتوجس خيفة من تأخر ابنه الذي لم يسبق له مثيل؛ فإنه لم يتأخر في المدينة إلى مثل هذا الوقت من الليل، وخشي أن يكون قد أصابه مكروه فإنه يعلم أن عليه في هذه الليلة أن يستقبل المدعوين في منزله من علية الناس وأشرافهم. فلم يستطع الرجل الثبات في مجلسه، فكان يكثر من الخروج والقيام والقعود، والذهاب إلى الباب والعودة منه ينتظر عودة وحيده.

وحانت صلاة العشاء، فقام أحد المدعوين وأذن لها، وبعد أن فرغوا من صلاتها عادوا إلى أماكنهم، وقبل أن يتشعب بهم الحديث فاجأهم صراخ وصياح خارج المنزل لم يلبث أن صار بينهم مصدره، وكان خادم إسحاق الذي رافقه إلى منزل الشيخ عبد الكريم هو مبعث البكاء والصياح فدخل عليهم وقال لسيده إدريس في تأثر بالغ وهو يبكي، ولا يكاد يتبين السامع شيئاً من كلامه لاختناق صوته، وإلحافه في البكاء والنشيج:

- ألهمك الله الصبر ياي سيدي. . .؛ فقد مات وحيدك. . . وسندك إسحاق. . .

لم يكد الخادم يتم عبارته حتى ارتسم الهلع على وجوه الحاضرين، واستبد بهم الحزن، وفارقهم الوقار، وتخلت عنهم الشجاعة، فعلا نشيجهم وتصعدت زفراتهم واستسلموا لحزن عميق أما الشيخ إدريس فقد كاد يصعق في مكانه؛ لأن الخبر قد نال منه أشد منال، ووقع على قلبه وقوع الصاعقة، وأخيراً بعد جهد جهيد استطاع أن يستند على خادمين وخرج إلى الحديقة، يتبعه الأضياف ليروا جثة إسحاق التي وصلت منذ لحظات.

تقدم إدريس إلى ابنه المسجى، وبيد مرتعشة رفع الغطاء الأبيض، فرأى وجه ابنه، ذلك الوجه الذي كان منذ قليل يزخر بماء الشباب، رآه أصفر شاحباً، قد ذوى جماله، وغاضت ملامحه وغارت عيناه. وقد كانتا تشعان بالفرح والتحفز والسرور، فانطفأ بريقهما، وخبا ضياؤهما، وانطبقت جفونهما.

رد الوالد الغطاء على وجه ابنه، والحزن يفتت كبده، ويذيب فؤاده، ولكنه تحامل على نفسه وتمالك أعصابه وردد في ثقة واطمئنان قول الله عز وجل (إنا لله وإنا إليه راجعون). (كل نفس ذائقة الموت). (فصبر جميل والله المستهان). ثم التفت إلى القوم الذين جعلوا يتقدمون لتعزيته وقال لهم: ماذا يملك الإنسان غير أن يستسلم للقدر المحتوم، والقضاء النافذ. إن قلبي يعتلج بالأسى والحزن لفراق ولدي الوحيد، ولكنها إرادة الله، الذي لا راد لما قضاه.

تراءى العالم للشيخ إدريس شديد الظلام، وأخذ الألم يحز في نفسه، ولكنه صبر للبلاء، وصمد للقضاء. وانفرد بالخادم الذي كان يرافق إسحاق وقال له:

- قصّ عليّ يا بني ما جرى لكما كما وقع، ولا تستر عني شيئاً من الحقيقة، وقل من ذا الذي فعل هذا بسيدك إسحاق؟ فقال الخادم:

- أنني قد تأخرت عن سيدي إسحاق قليلاً، لأنه أسرع بجواده، ورأيته من بعيد يتحدث إلى رجل غريب، لكني لم أسمع ما دار بينهما، إلا أنني رأيت سيدي بعد قليل يحاول النزول عن جواده، وقبل أن يتمكن من ذلك، قذفه الغريب بسهم قاتل، فسقط على الأرض مضرجاً بدمائه، واختفى القاتل بعد أن أدركه، فانتفض الشيخ انتفاضة شديدة كأنما لدغه عقرب، وقال والدمع ينهمر من عينيه: هذا ابتلاء من الله وعلينا أن لا نسخط على قضاء قضاه.

وأخذ الحاضرون يعزون الشيخ إدريس، ويسألون له الصبر ثم ينصرفون إلى بيوتهم والهم يعتلج في قلوبهم والأسى يحز في نفوسهم. ثم اجتمع الأقارب والأصدقاء من الرجال والنساء حول القتيل يبكون شبابه الغض، وفتوته الناضجة، وخرج كثير من أصدقائه بفتشون في طرقات المدينة وأحراشها عن القاتل الأثيم! في الحجرة الأولى عن يمين الداخل إلى المنزل كان اللاجئ المسيحي يرتجف خوفاً وهلعاً، كلما تعالت أصوات البكاء والعويل، وتنثال عليه الأفكار السوداء والخواطر المثيرة، ويقول في نفسه: ماذا أعمل إذا كانت تلك مناحة القتيل وقد زجت بي المقادير إلى بيته؟ ثم يعاوده شئ من الهدوء ويقول: لو أن الأمر كذلك لدخل عليّ أهله ولمزقوني شر ممزق منذ أن وصل القتيل للبيت. ظلت الأفكار المضطربة تنتاب ذلك اللاجئ شطراً كبيراً من لليل ثم تأكدت مخاوفه وأسرع خفقات قلبه، عندما عالج الشيخ باب حجرته ثم فتح مصراعيه، ودخل عليه وبيده مصباح مضيء. ثم ابتدر الغريب وقال له:

قل لي بربك يا صاح! أكان الرجل الذي قتلته منفرداً أم كان في جماعة من أصحابه؟

- لا لا! إنه لم يكن وحيداً يا سيدي، بل كانوا أربعة، وقد استثاروني فاستعملت السلاح دفاعاً عن نفسي،. . . وإني أستحلفك بالله أن لا تسلمني إليهم فإني برئ، برئ.

- لا تخش شيئاً فلن أسلمك لأحد، ولكن هيا اتبعني قليلاً.

قام الرجل متثاقلاً. وتبعه متعثراً في مشيته وكأن رجليه تعجزان عن حمله وكان كلما تقدم وراء الشيخ خطوة، اعتقد أنه يقترب من الموت خطوات، وظل كذلك حتى وصل إلى الحجرة التي نقل القتيل إليها، فدخلها وراء السيخ فوجد بجانبه أربعة يرتلون آي الذكر الحكيم، فتقدم إليهم الشيخ وفتح لهم باباً داخلياً وطلب إليهم أن يلجوه، وأن ينتظروا ريثما يسترجعهم، ثم طلب إلى الغريب أن يتقدم إلى سرير القتيل ثم رفع الغطاء عن وجهه وقال له:

- هل هذا الرجل هو الذي أصابه سهمك؟

عرف الرجل في المسجى على السرير ضحيته، فاصفر وجهه، وتصبب عرقه، وجف ريقه، وتلاشت الكلمات في حلقه، والتاث عليه مسلك القول، فقال له الشيخ في هوادة ورفق:

- قل الحقيقة ولا تخف يا بني. فليس عليك من بأس، فقال الغريب بصوت متقطع كأنه خارج من جوف بئر:

- نـ. . . نـ. . . نعم هو يا سيدي، ولكن بحق نبيكم محمد ارحمني وأشفق علي؛ فإني لم أقتله متعمداً، أنا برئ، إن هذا الشاب قد ابتدأني بالشتائم وقد دافعت عن نفسي. . .

- لا بأس. لا بأس فلنرجع إلى حجرتك ثانية؛ فقد بقي من الليل وقت ليس بالقصير؛ وأنت في حاجة إلى قسط من الراحة كبير وفي الصباح الباكر إن شاء الله ندبر وسيلة لإنقاذك.

ثم ودع القاتل عند باب حجرته وتمنى له ليلة هانئة. ثم انثنى إلى حجرة القتيل وجلس إلى جواره مع القراء يسترحمون له بتلاوة القرآن. بينما أغلق القاتل عليه بابه واستسلم للتفكير في مصيره وما سيأتي به الغد من أحداث.

نادى المؤذن لصلاة الفجر، فقام الشيخ إدريس وجدد وضوءه، واستقبل القبلة ورفع يديه إلى السماء وقال:

(اللهم لا رادَّ لقضائك، ولا سخط على بلائك، ابتليت فرضينا، وأمرت فأطعنا، فألهمنا جميل صبرك، وثبت قلوبنا على طاعتك، فلا عون إلا بك، ولا ملجأ إلا إليك، وإنك أرحم الراحمين، وأعدل الحاكمين). ثم صلى لربه في خشوع واستسلام ولما انتهت صلاته، أمر أحد رجاله أن يعد أسرع جياده، وينتظر به على باب الحديقة؛ ومعه إبريق ملئ بالماء. ثم أخذ كيساً ووضع به مبلغاً من المال، وأحضر سلة وشيئاً من طعام وفاكهة ووضعهما في السلة، وذهب إلى حيث الخادم ينتظر بالجواد؛ وأمره أن يأتيه بالضيف من حجرته.

قضى القاتل ليلة ليلاء لم يغمض له جفن، ولم يهدأ له بال، ولم يسكن له خاطر، فما أن طرق الخادم بابه حتى أيقن أن ساعته قد دنت، وأن حَيْنه قد حان، وتلك آخر لحظاته، فجثا على ركبتيه، وصلى على طريقته المسيحية صلاة الوداع لحياته؛ ثم قام وتابع الخادم وهو يترنح كالسكران من هول ما يلاقيه. فلما وصل وجد مضيفه وحاميه ممسكاً بعنان الفرس، متكئاً على جدار الحديقة فما أن أبصرهما حتى صرف الخادم ثم وجه الكلام إلى القاتل فقال:

- أيها الشقي التعس! ألا فاعلم أن الذي استقر سهمك في صدره هو ابني ووحيدي وأنه لم يكن متجنياً عليك، ولم يبتدرك بإساءة!! إنك لا تستطيع أن تتخيل أي دور لعبت في تدميري، وتحطيم قلبي أنا ذلك الشيخ الفاني، لقد هدمت بنياني، وقوضت أركاني، وقتلت كبدي. إن الصراع الناشب في نفسي، لا يقدر قدره ولا يبلغ مداه. . . هذا وحيدي وسندي في الحياة جثة هامدة بين عينيّ، تناديني روحه من عليائها أن أنتقم له، وهذا قاتله بين يدي، وفي حوزتي، ولكن يمنعني من الثأر منه ذلك العهد الذي قطعته على نفسي أن أحميه. . . كان إسحاق رطيب الغصن، ناضج الشباب وكنا نبني عليه صروح الآمال ونعلق عليه كل رجاء لنا في الحياة، ولكنك هدمت صروحنا وقطعت رجاءنا. . . إن الدم يغلي في عروقي غضباً عليك، وإن نوازع الشر تصرخ بي أن أثأر منك، لكن صوت الضمير يملأ نفسي، ويغمر قلبي، إني عاهدتك باسم الله ومكانة محمد نبيه، أن أحميك من كل شر، وأن أدفع عنك كل سوء، وقد استجبت أخيراً لنداء ضميري، فإني لا أحب أن يقال: إن مسلماً استهان باسم الله وبكرامة محمد نبيه، فأخلف وعده، وغدر في عهده ولوث سمعة المسلمين. . . هاك خير جهادي، وهذه سلة فيها طعام وفاكهة، وذي نقود قد تحتاجها في سفرك. وإن إسحاق كان أحب إليَّ من حياتي، ولكني عفوت عنك (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وتعاليم الإسلام أحب إلى قلبي، حتى من نفسي. . .

وهبي إسماعيل حقي