مجلة الرسالة/العدد 745/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 745/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 10 - 1947



حتى الأستاذ الطناحي:

أعرف الصديق العزيز الأستاذ (طاهر الطناحي) أديباً محققاً يجمع في ثقافته وفي كتابته بين طلاوة الحديث وعراقة القديم، ولكن يظهر أن الحياة الصحفية تتعجله في بعض الأحيان فيهفو، وقديماً قالوا لكل عالم هفوة، وهو حكم يجرى على سائر العلماء. . حتى الأستاذ الطناحي.

شوقي. . . وليالي سطيح:

فقد كتب الأستاذ في العدد الأخير من (الهلال) مقالا تحدث فيه عما كان (بين شوقي وحافظ) من منافسات ومدافعات في ميدان الشعر وفي ميدان الحياة، قال فيه:

(. . . وكانت لشوقي بدوات وغفلات أغضبت حافظاً وحركت في نفسه نزوة الشباب، حتى إنه لما أنعم الخديوي عباس على حافظ برتبة البكوية وأقيمت له حفلة تكريم ترأسها شوقي صامتاً ولم يهنئ صديقه ببيت واحد؛ ولم يفت ذلك حافظاً، فحملها له مع ما حمل من أشياء، ولما وضع كتابه (ليالي سطيح) تناول فيه ديوان (الشوقيات) الأول ونقده نقداً لاذعاً. . .)

ثم أورد الأستاذ بعد ذلك ما قاله حافظ في (ليالي سطيح) عن الشوقيات. .

قلت: هذه رواية تحتاج إلى تحرير وتصحيح، فإن حافظاً قد أخرج (ليالي سطيح) للناس، وقال فيها ما قال عن شوقي والشوقيات عام 1908م. أما حفلة التكريم التي أقيمت له لمناسبة الإنعام عليه برتبة البكوية، والتي ترأسها شوقي صامتاً، فقد كانت عام 1912م، أى بعد ظهور (ليالي سطيح) بأربع سنوات، وإذن فالحكم الذي انتهى إليه الأستاذ في هذه الرواية غير صحيح، لأنه بناه على مقدمات مغلوطة التاريخ.

مال واحتجب:

تلك واحدة، وهناك ثانية، فقد أورد الأستاذ في مقاله الرواية التالية فيما كان (بين شوقي وحافظ) فقال:

(وحدث أيضاً أن أقيم مرقص في قصر عابدين ذات ليلة، فحرك هذا المرقص من شاعرية شوقي، فقال في وصفه قصيدته التي مطلعها:

مال واحتجب ... وادعى الغضب

فاتخذها حافظ وقتئذ وسيلة للتهكم والاستخفاف، وسار يوماً في نزهة مع صديقه المرحوم عبد العزيز البشري بجزيرة الروضة وجعلا ينظمان قصيدة هزلية في معارضة هذه القصيدة، كان أحدهما يقول شطراً والآخر يقول شطراً، ومطلعها:

شال واتخبط ... وادعى العبط

ليت هاجري ... يبلغ الزلط

إلى آخر تلك القصيدة التي بلغت ستين بيتاً. . . .).

قلت: وهذه أيضاً رواية تحتاج إلى تحرير وتصحيح، فإن شوقي قد نظم قصيدته (مال واحتجب) في وصف (البال) الذي أقيم في قصر عابدين عام 1904م، وكان هذا (البال) يقام كل عام، وكان شوقي يصفه كل عام، أما معارضة حافظ لهذه القصيدة، فإنها ترجع إلى تاريخ قريب، وهو يوم أقام أدباء العربية مهرجان المبايعة بأمارة الشعر لشوقي عام 1927م.

ذلك أن صديقنا الشاعر المرحوم محمد الهراوي كان يرى أن لقب (أمارة الشعر) بدعة، وأن لكل شاعر مكانته ووضعه وامتيازه في عالم الشعر، فلما توجهت الدعوة لإقامة ذلك المهرجان لشوقي، أخذ الهراوي يحرض أصدقاءه من الشعراء على مقاطعة ذلك المهرجان، وعلى عدم مبايعتهم لشوقي بلقب الأمارة، وكان يعمل مع حافظ في دار الكتب فتحدث معه في هذا الشأن، كما تحدث مع الشيخ عبد المطلب، وفي ليلة اجتمعوا ومعهم لفيف من أصدقاء الهراوي وأصدقاء حافظ وأمضوا سهرة صاخبة في مقهى في نهاية العباسية شرب فيها من شرب، وطرب من طرب، واستخفهم التهكم على شوقي، فأخذ حافظ ينشد:

شال وانخبط ... وادعى العبط

وأخذ الحاضرون يجيزون على هذا النمط حتى بلغوا بالقصيدة ستين بيتاً، كما يقول الأستاذ الطناحي، وكان الهراوي رحمه الله يقيد ما يقال. . . .

وفي الصباح اجتمع حافظ والهراوي ومن معهما في دار الكتب وأنشد الهراوي هذه الأبيات: إن شوقي شاعر ... كلنا أجّله

غير أنّا معشر ... ليس يرضى ذله

وهى (جمهورية) ... لا ترى محله

أما حافظ، فإنه أخذ ينشد الحاضرين ما أعده لمبايعة شوقي بأمارة الشعر، فعجب الحاضرين، وصاح فيه الهراوى: أين ما اتفقنا عليه؟! فقال حافظ: أجل، إنني عند ما اتفقنا عليه بالنسبة لكم، أما بالنسبة لي، فإني لا أستطيع أن أتخلف عن مبايعة شوقي في ذلك المهرجان، لأنني رجل جبان. . .! رحم الّله حافظاً، وطيب ثراه، فوالّله لقد كان شجاع الرأي والقلب، جرئ الضمير والجنان. . .

بين شوقي وحافظ:

والواقع أن ما كان (بين شوقي وحافظ) قد صوره حافظ في شعره وفي نثره وأفصح عنه، على حين كان شوقي يطوى ذلك في نفسه، ويصوب إلى منافسه الضربات العلمية لا الكلامية.

كان حافظ في بداية الأمر يضع شوقي أمامه، ويشهد له بالسبق، فنراه حين يتقدم لمدح الخديوي في عيد الجلوس عام 1901م يقول:

ماذا ادخرت لهذا العيد من أدب؟ ... فقد عهدتك رب السبق والغلب

لم يبق (أحمد) من قول أحاوله ... في مدح ذاتك، فاعذرني ولا تَعِبِ

ثم يأتي العيد الثاني فيبقى حافظ على عهده ف يقول:

يا ليلة ألهمتني ما أتيه به ... على حماة القوافي، أينما تاهوا

إني أرى عجباً يدعو إلى عجب ... الدهر أضمره والعيد أنشاء

قل للألي جعلوا للشعر جائزة ... فيم الخلاف؟! ألم يرشدكم الّله؟

إني فتحت لها صدراً تليق به ... إن لم تُحّلوه فالرحمان حلاه

لم أخش من أحد في الشعر يغلبني ... إلا فتى ما له في السبق إلاه

ذاك الذي حكمت فينا يراعتُه ... وأكرم الّله والعباس مثواه

بل لقد رضى حافظ لنفسه أن يتشبه بشوقي، لا أن يقف معه في ميدان المنافسة، فنراه يمدح الخديوي في عيد الفطر فيقول: مطالع سعد أم مطالع أقمار ... تجلت بهذا العيد أم تلك أشعاري؟

إلى سدة العباس وجهت مدحتي ... بتهنئة شوقيّة النسج معطار

ولكنا بعد ذلك نرى حافظاً يتغير على شوقي، ويلقى به إلى الخلف، ويعلن عليه هذه الغارة الشعواء إذ يقول في مدح الخديوي:

طف بالأريكة ذات العز والشان ... واقض المناسك عن قاصٍ وعن دان

يا عيد. . . ليت الذي أولاك نعمته ... بقرب (صاحب مصر) كان أولاني

صغت القريض، فما غادرت لؤلؤة ... في تاج كسرى، ولا في عقد بوران

شكا عمان، وضج الغائضون به ... على اللآلى، وضج الحاسد الشاني

كم رام شأوى فلم يدرك سوى صدف ... سامحت فيه لنظام ووزان

عابوا سكوتي، ولولاه مانطقوا ... ولاجرتخيلهم شوطاً بميدان

اليوم أنشدهم شعراً يعيد لهم ... عهد النواسي أو أيام حسان

أزف فيه إلى العباس غانية ... عفيفة الخدر من آيات عدنان

من الأوانس جلاها يراع فتى ... صافي القريحة صاح غير نشوان

ما ضاق أصغره عن مدح سيده ... ولا استعان بمدح الراح والبان

ولا استهل بذكر الغيد مدحته ... في موطن بجلال الملك ريان

وهكذا أخذ حافظ يغمز شوقي ويقرصه في كل مناسبة، وكان من ذلك حملته عليه في كتابه (ليالي سطيح)، وله شعر في هجائه، يعف القلم عن إيراده. . . .

خلاف بين طبيعتين:

وهذا الذي كان (بين شوقي وحافظ) لا يمكن أن نسميه (خصومة)، وإنما هو مظهر لخلاف بين طبيعتين. . .

فقد كان شوقي في ميدان السباق كالجواد الحر، يغار من ظله، ولا يطيق أن يرى أحداً يلحق بغباره، ومن المعلوم أنه كان يعيش في رحاب الخديوي، وكانت له عنده حظوة بالغة، وكلمة نافذة، ومشورة مسموعة، ولكنه لم يحاول أن ينفع أحداً من الأدباء والشعراء بجاهه هذا، بل إنه كان يدس الدسائس ولا يتورع عن الأساليب النابية في قطع الطريق على كل متقدم، وبهذا الدافع وقف لحافظ - وهو الذي كان يخافه - بالمرصاد، فسد في وجهه باب الخديوي، وقطع عليه الصلة بالخلافة العثمانية، وساعدته الأقدار فحرمت حافظاً أكبر عطف بموت الأستاذ الإمام، فلم يجد حافظ أمامه إلا الشعب، فعاش للشعب وبالشعب.

تلك كانت طبيعة شوقي، أما حافظ فكان أوفي منه إنسانية وأسمح طبعاً، لقد كان يحمل بين جنبيه قلباً يود لو يسع فيه كل محروم ومظلوم، ويود لو يستطيع أن يوزعه على الجميع، ثم لا يبقى له منه شيئاً. . .

أذكر أني كنت معه في مرة أنا والمرحوم صديقنا الأستاذ إبراهيم الجزار الممثل، وكان إبراهيم يجيد إلقاء الشعر كأروع ما يكون، فطلب منه حافظ أن يلقى عليه بعض ما يحفظ، فأخذ إبراهيم يلقي عليه قصيدته التي قالها في مبايعة شوقي بالإمارة، وأخذ حافظ يهتز مجاوباً لنغمات الإلقاء ومقاطعه، وبعد الإنشاد أخذنا نسأله عن رأيه الحقيقي في شعر شوقي، فما تكلم عن شوقي الشاعر، ولكنه أخذ يتكلم عن شوقي الرجل فقال: (إن شوقي رجل نذل)، وقص علينا كيف جاء المرحوم الشيخ عبد المحسن الكاظمي إلى مصر غريباً طريداً، فطمع أن يكون له في رحاب الخديوي متسعاً، ولكن شوقي خشي منافسة الشاعر العراقي، فسد عليه الباب وقطع عليه كل رجاء، وفكر في هذا بأخوة الأدب، وأخوة العرب، وبالواجب نحو رجل شطت به الدار، ووجد السيد عبد المحسن في الأستاذ الإمام حمى، ولكن الحمام لم يمهل الأستاذ الإمام. . . وهنا تهدج صوت حافظ، ودمعت عيناه، ولم يستطع أن يتم الحديث. . .

لهذا كانت نزوات حافظ تثور على شوقي، ولهذا كان يناله بقارض الكلم أحياناً في شعره وكثيراً في مجلسه، ولكنه رحمه الّله كان يحب خليل مطران كل الحب، ويثنى عليه كل الثناء، ذلك لأنهما كانا متوافقان إنسانية وأريحية، كما كان يثنى على أحمد محرم وأحمد نسيم ويذكرهم بالخير، فهل كان يبلغ به التهافت بعد ذلك أن يجحد شاعرية شوقي بجانب هؤلاء. . .

كلا! إن حافظاً لم يجحد شوقي من ناحية شاعريته، ولكنه - كما قلنا - كان يجحده من ناحية إنسانيته. . .

نفي شوقي عن مصر، فشمت فيه أولئك الذين كان يقف في طريقهم. أما حافظ، فقد جزع عليه غاية الجزع، واشتد الحنين بشوقي إلى النيل. . . فأرسل بهذه الزفرة الحارة: يا ساكني مصر إنا لا نزال على ... عهد الوفاء - وإن غبنا - مقيمينا

هلا بعثتم لنا من ماء نهركم ... شيئاً نبل به أحشاء صادينا

كل المناهل بعد النيل آسنة ... ما أبعد النيل إلا عن أمانينا

فأجابه حافظ بتلك الزفرة الصادقة:

عجبت للنيل يدري أن بلبله ... صادٍ ويسقى ربي مصر ويسقينا

والله ما طاب للأصحاب مورده ... ولا ارتضوا بعدكم من عيشهم لينا

لم تنأ عنه وإن فارقت شاطئه ... وقد نأينا، وإن كنا مقيمينا!

ألا رحم الله الشاعرين الكبيرين، فقد نأيا عنا بجسمهما، ولكنهما بيننا ملء السمْع والبصر بروحهما وبفنهما، وكم بيننا من الحاضرين بأجسامهم، ولكنهم في الغائبين النائين. . .

(الجاحظ)

أنوار الجحيم

من عذيري من الهوى والتصابي ... بعد ما أبلت الغواني شبابي؟

إنني اليوم بين أهلي غريب ... لم أجد لي مواسياً في مصابي

كلما أترع الأسى لي كأساً ... قلت حسبي ما ذقته من عذاب

خطرات في شرة وعرام ... تتنزى. . . قد حطمت أعصابي

هي كالنار في الهشيم. . . وكالإء - عصار يجتاح ناضرات الروابي!

غادة تأسر النفوس بدل ... مستبد على النهى غلاب

عشت في ظلها الظليل وأفضت ... بي إليها يوماً مطايا الرغاب

وترشفت من لماها رحيقاً ... قدسياً ما صب في أكواب

أين منه م أحرزته بنات النـ ... حل أو ما عصرت من أعناب؟

ورأيت الجمال فيها يغنى ... وغناء الجمال أصداء غاب

توقظ المغفيات من ذكرياتي ... وتغشى وجوهها بالضباب

في الضحى والمساء أزجى إليها ... صلوات العبيد للأرباب

كطيور قد حلقت. . . تتناجى ... بأغاريدها الرقاق العذاب! كل سرب يمر يتلوه سرب ... والهوى طائر مع الأسراب

يا غناء قد ضاع في مجهل الليـ ... ل ضياع الوفاء في أصحابي

أنت عندي أشلاء حب عزيز ... دنست طهره معاني التراب

وحطام من ذكريات غوال ... أنا منها في موعد كذاب!

دفنتها الهموم في ظلمة الفك - ر فلاحت مركومة كالسحاب

ما بقائي وقد مضى أحبابي ... وصحا القلب من خمار الشباب

محمد علي مخلوف