مجلة الرسالة/العدد 745/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 745/الأدب والفنّ في أسبوُع

مجلة الرسالة - العدد 745
الأدب والفنّ في أسبوُع
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 10 - 1947



شوقي وحافظ:

تقع ذكرى أحمد شوقي أمير الشعراء في هذا الشهر (أكتوبر) فقد توفي في اليوم الرابع عشر من سنة 1932 وقد بدا الاهتمام بهذه الذكرى في عدة مظاهر، منها تلك الحفلة التي قالوا إنهم سيقيمونها في (أوبرج) الأهرام، والتي عرف قراء الرسالة أمرها مما كتبناه عنها في عددين ماضيين، وقد علمت أن هذه الحفلة لن تتم على الوضع المزري الذي رسموه لها، فقد عارض بعض أعضاء اللجنة في ذلك الوضع، وأباه كذلك بعض الشخصيات الكبيرة التي طلب إليها أن تشترك أو تشرف على الحفلة، وقالوا جميعاً كما قلنا إنه لا يليق أن يحتفي بذكرى شوقي احتفاء لاهياً مسعراً (بالأوبرج).

ومن مظاهر الاهتمام بذكرى شوقي، العدد الخاص الذي أصدرته زميلتنا مجلة (الكتاب) وقد جمعت بين ذكرى شوقي وحافظ في هذا العدد، لأنهما توفيا في سنة واحدة إذ كانت وفاة حافظ في اليوم الحادي والعشرين من شهر يولية سنة 1932، فتكون قد مضت خمسة عشر عاماً على وفاة الشاعرين اللذين اقترن اسماهما في الحياة وفي الخلود.

وقد قصرت (الكتاب) أبوابها على البحث في شعر شوقي وحافظ، والتزمت في كل بحث الموازنة بين الشاعرين في مختلف نواحيهما؛ وقد صدر العدد بفصل للأستاذ عادل الغضبان رئيس التحرير عنوانه (متحف) ذهب فيه إلى أن الشعر، وهو أحد الفنون الجميلة، له كما لها متاحف، وإن كانت قطعه لا تضمها الغرف والأبهاء، وإنما تعرض في (الديوان) فديوان الشاعر هو المتحف الذي يعنيه.

وأخذ الأستاذ في الدلالة على الموسيقى والتصوير في ديواني شوقي وحافظ، فبين الارتباط بين الأصوات والمعاني في قطع من شعرهما، وقد افرط في ذلك كما صنع في بيت حافظ التالي الذي يصف به هيجان البحر:

عاصف يرتمي وبحر يغير ... أنا بالله منهما مستجير

فقد جعل يبين دلالة الحروف على صوت العاصفة ودوي البحر والفزع إلى الله، فقال: (فصوت العاصفة تتخيله الأذن في الصفير المنبعث من اجتماع الصاد والفاء بعد الألف في كلمة (عاصف) ولا فضل للشاعر فيها إلا أنه اختار فأحسن، ورنة الضربة ت المقطع الأخير من (يرتمي) كأنه صدى ثقل من الأثقال ارتطم بألواح السفينة ثم إن هدير الأمواج وهي غائرة تحمله إلى السمع هذه الغين وهذه الياء الممدودة بعدها في كلمة (يغير) فهما صوت البحر الغائر الخائر مثلا بمثل ونغمة الأمل والدعاء تتصاعد من اللام الثانية في كلمة (بالله) ومن حرف المد في كلمة (مستجير).

وقد أمعن الأستاذ في ذلك حتى خلته يريد أن يجمع خصائص حروف الهجاء في متحف. . . وقد ذكرني هذا الصنيع بنادرة يحكونها عن حافظ، إذ قال مرة لأحد علماء الدين: بلغني أن هناك مؤلفاً في (الوضوء) يقع في عدد من المجلدات الضخمة وإنه ليسهل على المرء أن يغطس في الماء سبع مرات ثم يقوم إلى الصلاة، ولا يتعب نفسه بقراءة هذا الكتاب! وعلى هذا تستطيع أن تؤكد للأستاذ عادل أنك مقتنع بأن البيت يدل على كل شيء دون حاجة إلى ما أسهب فيه من بيان أصوات الحروف ونغمات المدود. . .

وقد أحسن الأستاذ بالاستعانة بريشة الرسام إلى جانب قلمه في تجلية بعض الصور التي اشتمل عليها ديوانا شوقي وحافظ، ولكن الصورة التي رسمت بازاء بيت حافظ:

واسقنا يا غلام حتى ترانا ... لا نطيق الكلام إلا بهمس

لم تكن موفقة، فهي تمثل الشُّرَّاب والساقي في أزياء من العصور القديمة، وبأيديهم آنية قديمة، كأن قائل البيت أبو نواس لا حافظ إبراهيم، على أن أشخاص الصورة يبدون في غاية الوقار كأنهم في حلقة درس لا في مجلس شراب. . . .

الآراء القديمة في شوقي وحافظ:

الأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور طه حسين بك والأستاذ إسماعيل مظهر والأستاذ محمد توحيد السلحدار بك، كان لكل منهم رأي قديم في شعر شوقي وحافظ، فهل ظلوا على آرائهم أم جلا لهم الزمن آفاقاً جديدة ينفذ فكرهم منها إلى رأي جديد؟ سألتهم مجلة (الكتاب) هذا السؤال فأجابوا:

قال الدكتور طه إنه لم يغير رأيه فيهما، ومما قاله عنهما: (وإذا لم يبلغا من التفوق ما كنت أحب لهما وأتمنى للشعر العربي الحديث فقد لا ينبغي أن نلومهما في ذلك وأن نذكر قول عمرو ابن معدي كرب:

فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرَّتِ فلم يكن هذان الشاعران إلا مرآتين صادقتين للعصر الذي عاشا فيه، وقد أديا إلينا ما ألهمهما هذا العصر فأحسنا الأداء).

ويحضرني - لذلك - رأي للدكتور طه حسين في كتابه (حديث الأربعاء) مؤداه أننا لا نعد الشاعر شاعراً إلا لأنه يعبر عن بيئته ويصور عصره فيحسن التعبير والتصوير. ورأى الدكتور طه في شوقي وحافظ أنهما لم يبلغا من الشعر ما يحب. فأي الرأيين ما زال يرى. .؟

ورأي الأستاذ مظهر القديم أن خيال الشاعرين أرضي وأن نزعاتهما أرضية على خلاف طاغور شاعر الألوهية. وقال إنه لا يزال عند هذا الرأي، وهو يرى أن الشعر ليس اللفظ ولا الوزن ولا القافية ولا الموضوع ولا الأداء، لأن هذه أعراض، وإنما الجوهر أثره في نفسك، وقليلا ما يخاطب الروح أو النفس شعر شوقي وشعر حافظ. . .

ومجمل رأي السلحدار بك الذي نشره منذ تسعة وثلاثين عاما، أنه يرجح كفة حافظ على شوقي، لأن الأول شاعر الجلال، والثاني شاعر الجمال، والجلال فوق الجمال؛ ولأن ملكة اللغة العربية كانت راسخة في حافظ أكثر من رسوخها في شوقي؛ ولأن شعر حافظ بما فيه من نفحات القوة والقومية شاف لنفس، أما شعر شوقي فكان شعر الرفاهة والنعيم؛ ولأن حافظاً أكثر كناية عن وجدانه في شئون وطنه؛ وشوقي أبعد منه عن ذلك. وقال إن الشاعرين قرضا بعد ذلك شعراُ كثيراً في نحو ربع قرن، وإنه لا يصح الجواب عن السؤال بغير مراجعة هذا الشعر، ولا تسعد الحال على ذلك إلا في مدى طويل، ولكنه مع ذلك يجيب بقوله: (أغلب الظن أن حافظا ظل يقول أكثر شعره فيما يتعلق بالشئون القومية، ولم يستمر في محاولته التخلص من أغلال طريقته القديمة، أما شوقي فلولا تهكم بعض أئمة الأدب القديم على قصائده في صباه عقب عودته من أوربة لكان التجديد أظهر في شعره).

أما الأستاذ العقاد فقد قال إنه دون في مذكراته اليومية قبل نيف وثلاثين سنة أن اسم الشاعر بلغتنا يشير إلى تعريفه، فليس الشاعر من يزن التفاعيل، وليس بصاحب الكلام الفخم واللفظ الجزل، ولا من يأتي برائع المجازات وبعيد التصورات، إنما الشاعر من يشعر ويُشعِر. وكان بهذا المقياس يقيس شوقياً وحافظاً، فقال عن حافظ: (يعجبني منه ذاك الجلال، وإن كنت أعتقد أن الجلال الظاهر لا يتطلب من شعرائه سمواً في المشاعر أو أفضلية لها على شعراء الجمال) إلى أن قال (وأما فيما عدا ذلك فشعر حافظ، كما قال فيه الدكتور شميل - ولم يرد أن يطريه - كالبنيان المرصوص متين لا تجد فيه متهدماً، فهو يعتمد في تعبيره على متانة التركيب وجودة الأسلوب أكثر من اعتماده على الابتداع أو الخيال).

وقال الأستاذ الكبير إنه كان يعيب (رسميات) شوقي دائماً أو تقليدياته. ثم قال إن هذا الرأي في الشاعرين لم يتغير كثيراً، ولكنه يرجع فيهما إلى مقاييس أعم وأوُسع، وأجمل هذه المقاييس في ثلاثة، أولها أن الشعر قيمة إنسانية ليس بقيمة لسانية، وثانيها أن القصيدة بنية حية وليست قطعاً متناثرة يجمعها إطار واحد، وثالثها أن الشعر تعبير وأن الشاعر الذي لا يعبر عن نفسه صانع وليس بذي سليقة إنسانية. ثم قال: (وإذا عرضت الشاعرين - شوقياً وحافظاً - على هذه المقاييس الثلاثة صح أن تقول: إن حافظاً أشعر ولكن شوقياً أقدر، لأن ديوان حافظ هو سجل حياته الباطنية لا مراء. أما ديوان شوقي فهو (كسوة التشريفة) التي يمثل بها الرجل أمام الأنظار)

رأي المازني:

والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني هو الباقي من نقاد شوقي القدماء، وقد تفقدته بينهم في (الكتاب) ولكني وجدته في (الهلال) أعني وجدت مقالا له عن شوقي، أما هو نفسه فلا أتمثله إلا جالساً إلى مكتبه في (معمل مقالاته) يكتب. . . . ويكتب. هذه مقالة لأخبار اليوم، وثانية للمسامرات، وثالثة للاثنين، ورابعة للبلاغ، وخامسة للمصري، و. . . الخ ويخيل إلي أنه يكتب مقالات (جاهزة) لتدفع إلى من يطلبها دون انتظار.

والمقالة التي كتبها للهلال عن شوقي، هي وإن كانت من (الموصى عليه) إلا أنها على كل حال من نتاج (المعمل) فهي متأثرة بجوه الذي تسوده سرعة الإنجاز، فالأستاذ ليس متفرغاً لإنضاج رأي جديد في شعر شوقي، بل لتذكر رأيه القديم. . . فلا بأس بأن يملأ بعض الصفحات ببعض الحوادث والنوادر التي جرت بينه وبين شوقي، حتى إذا جد الجد فاقتضى الحال أن يقول شيئاً في شعر شوقي قال: (وما زال رأيي في شعره كما كان. . وهو أنه كان في صدر حياته أشعر منه في أخرياتها، ولكنه في العهد الأخير كان أبلغ عبارة وأعلى بياناً) وليس هذا هو رأيه الذي كان. . لأن المازني هو أحد أستاذي المذهب الجديد الذي عارض شوقي والذي تراه في كلام العقاد الأستاذ الآخر للمذهب الحديث. وقال إن شوقي (اقتنع بأن نظم القصائدْ على الطريقة القديمة التقليدية عبث وباطل ليس يجدي، فتحول إلى وضع الروايات الشعرية التمثيلية) فهل وضع الروايات الشعرية يقتضي أن نظم القصائد عبث وباطل؟ وهل تحول شوقي عن نظم القصائد؟ والأستاذ نفسه يقول بعد ذلك إنه (لم ينقطع عن نظن القصائد المألوفة) فكيف يتفق هذا وذاك؟ وقال الأستاذ المازني إن شوقي مدين لخليل مطران بك لأنه (أول من أدخل شيئاً من التجديد على الشعر في مصر وتبعه شوقي) وقد أسرف القوم في الإشادة بتجديد مطران، وما نراه يفترق كثيراً في التجديد عن شوقي وطبقته، بل تجديد شوقي أظهر في التمثيليات لا من حيث النوع فحسب بل كذلك في المنحى الشعري.

وبعد فالمازني رجل له ماضيه في الأدب، كما قلت في مناسبة سابقة ومن حقنا بل من واجبنا ألا نفلته. . .

إمارة الشعر:

رأت مجلة (الهلال) بمناسبة ذكرى شوقي أمير الشعراء أن تستفتى القراء فيما يلي:

(1) من هم الشعراء الخمسة الأول بين شعراء العرب الأحياء في مصر وسوريا ولبنان والعراق وشرق الأردن والحجاز؟

(2) من هو أجدر الشعراء بلقب الإمارة الآن؟

فأولاً - هل إمارة الشعراء منصب شاغر نشعر بضرورة ملئه؟ وهل دولة الشعر في حاجة إلى أمير ينظم أمورها ويقوم على شئونها ويحفظ الأمن في أرجائها ويحمى ثغورها وأطرافها ويدفع عنها وباء الكوليرا. .؟

لقد كان إطلاق لقب (أمير الشعراء) على شوقي حادثاً فذاً، لم يسبق له نظير في تاريخ الشعر العربي رغم أحاديث المجالس التي كان يسأل فيها عن أشعر الشعراء، ولم يكن أشعر الشعراء إلا قائل بيت أو بيتين أو أبيات وقعت في نفس المجيب عن السؤال موقعاً حسناً، على أنه لم يصر لقباً لأحد، كما أنه ليس لهذا اللقب نظير فيما نعلم من الأمم الأخرى، وإطلاقه على شوقي كانت الدعاية أهم أسبابه. فلم نتشبث به الآن؟

وثانياً - لو سلمنا بلزوم أمير للشعراء ونظرنا في طريقة استفتاء الهلال فيمن هو أجدر بلقب الإمارة الآن - لوجدنا هذه الطريقة غير سليمة، لأن الذين سيجيبون الاستفتاء وينتخبون أمير الشعراء أقلهم من يقرأ الشعر ويتذوقه ويعطى (صوته) راشداً، والأكثرون ليسوا كذلك، بل منهم من لاحظ له إلا سماع أسماء المشهورين من الشعراء، فهل تؤدى حكومة هؤلاء، إلى حكم مقبول؟ والشعر الآن يتجه اتجاهات جديدة لا يستطيع فهمها وتقديرها إلا خواص الأدباء، فكيف يحكم فيها عامة القراء؟

ويأخذ الكثيرون على قانون الانتخاب العام أنه يجعل للأميين حق الانتخاب، والواقع أن هؤلاء الأميين يستطيعون تقدير كفايات أعضاء البرلمان أكثر مما يستطيع كثير من قراء الصحف والمجلات تقدير الجدارة بلقب أمير الشعراء.

(العباس)