مجلة الرسالة/العدد 746/صور وانطباعات:

مجلة الرسالة/العدد 746/صور وانطباعات:

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 10 - 1947



الجيل الملهم

للأستاذ مناور عويس

(هلمي معي من لبنان يا عروس، معي من لبنان!. . .

انظري من رأس أمانة، من رأس شنير وحرمون،

من خدود الأسود، من جبال النمور!. . .

تحت لسانك عسل ولبن، ورائحة ثيابك كرائحة لبنان!. . .

ينبوع جنات، بئر مياه حية، وسيول من لبنان!. . .

طلعته كلبنان، فتى كالأرز!. . .

أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق!. . .)

(نشيد الإنشاد)

الملك الشاعر الحكيم يتغزل بحبيبته فلا يجد شبيهاً لها اجمل من لبنان. . . فما سر لبنان؟ وما هذا السحر الذي اتشح به لبنان منذ أقدم العصور حتى الآن؟

الشعراء والفنانون ينشدون جمال لبنان، والأنبياء يتغزلون بجمال لبنان، والرعاة والفلاحون ينظمون العتابا والموال في حب لبنان!. . .

(إذا ذكر لبنان تواردت على الذهن مواكب من الصور والأخيلة والأشباح والأحلام، وانتشرت في الأنف روائح الصنوبر والبخور والزعتر والفل والياسمين، وانتصبت أمام الأعين غابات الأرز والبلوط تعدو فيها الأسود والنمور والظباء!)

فينيقياء، عشتروت، جبيل، الارز، صور، بعلبك، حرمون، قاديشا!. . . يا لها من أسماء صغيرة في النفوس الشاعرة فعل الصهباء، ففي ذكر هذه الأسماء تلخيص لتاريخ الإنسان القديم وأديانه، (فعلى شواطئ لبنان ازدهر العقل البشري وترعرع، وعلى شواطئ لبنان استيقظت الروح في الإنسان فعبد الله في صورة عشتروت). وفي غابات لبنان مثلت أروع أدوار الحب بين الآلهة كما تخبرنا بذلك الأساطير المصرية والفينيقية، وفي جبيل تلك البلدة الصغيرة اليوم الواقعة بين طرابلس وبيروت مثلت افجع مأساة للحب بين (إيزيس) (اوزابرس). ومن أمام الأرز الخالد، الرافع رأسه نحو السماء، الهازئ بالزمن، الضاحك من الإنسان وغروره، أجل من أمام الأرز مرت جيوش رعمسيس، وجحافل المقدوني، وأبطال بومبي، ومساعير معاوية، وقوات السلطان سليم، وعساكر إبراهيم باشا. . . مرت كلها من أمام الأرز مطأطئة الرؤوس خاشعة الأبصار، حكمت البلاد ودوخت الأمصار، عمرت ما عمرت وخربت ما خربت، ثم مضت لسبيلها:

كأن لك يكن بين الحجون إلى الصفا ... جليس ولم يسمر بمكة سامر!

وظل الأرز رافعاً رأسه نحو السماء يبتسم ابتسامته الأزلية!

وهذه صور التي كانت في ما مضى سيدة مدن فينيقيا، صور التي وقفت في وجه الاسكندر العظيم وأرغمته وجنوده على تحمل البرد والحر سبعة اشهر خارج أسوارها، نراها اليوم قرية صغيرة أقرب إلى الخراب منها إلى العمران (فسبحان من رد عامرها خراباً وجعل أنسها وحشة) وأدال منها إلى سواها!

وهذه مدينة البعل التي شهدت عظمة فينيقيا واليونان والرومان ومجد العرب والترك، ما تزال أعمدتها شاهدة على تفوق العقل البشري وجبروت الإنسان!

أي مدينة الشمس! لقد وقفت إزاء آثارك خاشعاً لدى روعة الفن، حالماً بأشياء غامضة لذيذة كالأماني، ناعمة كأنفاس الربيع!

ثم هذان الشيخان الأزليان اللذان كلل الثلج هامتيهما، واللذان كانا وما زالا رمزاً لعظمة لبنان وروعته وجلاله!

حرمون وصنين! من وقف أمامهما ولم يحس بقرارة نفسه بالهيبة والوقار؟ من شهدهما ولم يشعر بالخشوع والتأمل العميق؟!

وكل من أسعده الحظ بزيارة (بشرِّي) حيث الأرز الخالد، وحيث يرقد رقدته الأبدية فقيد الشعر والفن جبران خليل جبران، ومشى بضع خطوات إلى الجنوب أشرف على واد عميق رهيب، وهوى سحيقة تبعث الرعب والخشوع في أقسى القلوب وتذكر الإنسان بالموت والفناء.

هذا الوادي هو وادي (قاديشا) أو وادي القديسين، وقد دعي كذلك لأن النساك والمتعبدين في عصور المسيحية الأولى اتخذوا مغاوره معابد، وكهوفه صوامع يتعبدون فيها ويتهجدون حيث الوحدة الشاملة المغبوطة، والسكينة الخالدة، التي لا يكدرها غير هدهدة المياه المنحدرة من فوق الصخور على حصباء الوادي!

فينيقيا، عشتروت، جبيل، بعلبك، حرمون، صنين، الأرز، قاديشا. . . كلها أسماء تفيض شعراً وإلهاماً وتاريخاً، إنها مصدر وحي للأديب لا ينفد، ومورد عذب للفنان لا ينضب، فقل أن تجد شاعراً أو كاتباً شرقياً كان أو غربياً يخلو شعره أو نثره من وحي هذه الأسماء الملهمة، ذلك لأن لبنان في نظر الشعراء والكتاب - الشرقيين منهم والغربيين - (غابات مسحورة تفوح منها روائح معطرة بأنفاس عشتروت وبعل وغيرهما من آلهة الفينيقيين وأبراج وقصور من المرمر والنحاس، وأسود ونمور وظباء وأيائل وصوامع وهياكل وأنبياء وقديسين!)

فهذا (لامرتين) شاعر فرنسا العظيم يزور لبنان ويستلهم أرزه فيوحي إليه بآيته الباقية ما بقي الشعر الفرنسي، وأعني بها (سقوط ملاك). وهذا (رينان) الفيلسوف الشهير يأوي إلى أحد أديرة لبنان ليكتب كتابه الخالد (ابن الإنسان)، وكذلك (شاتوبريان) و (هنري بوردو) صاحب القصة الشهيرة (تحت ظلال الأرز)، وهي قصة واقعية معروفة، بطلها فتى مسلم من طرابلس، وبطلتها فتاة مسيحية من بشري ومسرحها الأرز. . . وللشاعر الإنجليزي (شلي) مأساة شعرية رائعة عن موت (أوزايرس) وبعثه في مدينة (جُبَيل) اللبنانية، وكذلك الشاعر الخالد وليم شكسبير وغيرهما كثيرون

فلبنان شاعر وملهم الشعراء، وأبناء لبنان شعراء بالفطرة، (وكيف لا يكونون شعراء إذا سكنوا لبنان وتكحلت عيونهم ببهاء صنين، وتنشقوا عطر الأزهار المنتشرة في أودية الجبل ووهاده، ونظروا إلى البحر الأزرق والسماء الصافية الأديم، وأشرفوا على تلك القمم المزينة بالمعابد والقباب والأجراس، وتظللوا بظل الأرز الخالد المرتفع في الفضاء كأنه صلاة تصعد إلى العليِّ؟!)

لقد طبع لبنان أهله بطابعه الخاص، ففي أخلاقهم رقة نسيمه وصلابة أرزه ورسوخه، وفي أدبهم ما في لبنان من عذوبة وجمال وسحر وروعة. . . لقد جرى حبه في قلوبهم مجرى الدم، فهذا شاعرهم داود عمون يوصي قبل موته بأن يجعلوا من ثلج لبنان كفنه، وفي ظل الأرز ضريحه: يا بني أمي إذا حضرت ... ساعتي والطب أسلمني

فاجعلوا في الأرز مقبرتي ... وخذوا من ثلجه كفني!

طالما تنافس الشعراء والكتاب قديماً وحديثاً في وصف لبنان وتصوير جماله، فلا ترى شاعراً زاره أو مر به إلا ألهمه من الشعر أطيبه ومن النثر أطربه. فالمتنبي شاعر العظمة الذاتية والطموح يمر بلبنان فلم يثنه طموحه ولم تنسه مطامعه أن يصف وعورة مسالك لبنان وصعوبة قطع عقابه:

وعقاب لبنان، وكيف بقطعها ... وهو الشتاء وصيفهن شتاء؟!

ويزوره شوقي لأول مرة فيروعه فيهتف:

لبنان والخلد اختراع الله لم ... يوسم بأزين منهما ملكوته!

ولحافظ ومطران والرصافي والزهاوي وغيرهم من كبار شعراء العربية في لبنان ما يسكر ويرقص. . . ومن أروع الشعر ما خاطب به الشاعر العبقري الياس أبو شبكة لبنان:

لبنان! يا ريف السماء وثغرها! ... في كل شبر من ترابك ملهم!

ما أنت بالبلد اليتيم وإنما ... في كل عين لا تراك تيتم!

أما شعراء المهجر وعلى رأسهم جبران ونعيمه والقروي والريحاني وأبو ماضي وفرحات والمعلوف وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن، فقد جعلوا من لبنان وطناً روحياً يحجون إليه بأرواحهم ويلهجون به في يقظتهم ومنامهم، فأبدعوا لنا من تغنيهم بلبنان والحنين إلى لبنان أدباً جديداً وروحاً جديدة لم نعهدها في الأدب العربي من قبل، فرفعوا بذلك رأس الضاد عالياً، ولفتوا أنظار الغرب إلى هذا الشرق الحالم المتأمل الذي تتلمذوا عليه فيما سلف من الزمان وقبسوا من أنواره، والذي سوف يعودون إلى أحضانه حيثما ترهقهم هذه الحياة المادية التي يرزحون اليوم تحت أعبائها الثقيلة. . .!

فبلد تحج إليه قلوب الناس من جميع أقطار المسكونة، وتحلق فوقه أرواح الشعراء والملهمين من جميع الأمم والأجناس، بلد ينجب الأبطال والباباوات والقياصرة العظام، وينشئ الفلاسفة الأفذاذ والشعراء والكتاب والفنانين والقديسين. . .

بلد من أبنائه ميخائيل نعيمه وجبران والريحاني ومي لاشك في أنه بلد جدير بكل عربي القلب واللسان أن يحبه ويكبره ويتعلق به، لأنه من البلاد العربية كالقطب من الدائرة، كالقلب من الجسم. . . فحيا الله لبنان وأبناء لبنان!

(يافا)

مناور عويس

مدرس الأدب العربي بكلية تراسانطه بيافا